من يضيف هذا الليلة

حمزة بن فايع آل فتحي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/موقف تربوي في إكرام الضيف 2/صورة عجيبة من الكرم والشهامة 3/حض الإسلام على الكرم والجود 4/الحث على تعلُّم محاسن الخصال ومكارم الآداب 5/دعوة للإنفاق والجود والكرم.

اقتباس

طعام أنت إليه أحوج، نفسك تشتهيه، وأبناؤك يتضاغَون حولك!! والجوع يلهبك، ثم يمر بك مسكين أو سائل، أو لديك جار ذو عيال، تراه أنت أحوج منك، فتقدم إليه طعامك! وترسل إليه نبلك وشهامتك، وتُعلّل نفسك بالماء وما شاكله، فيا للعجب!!

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70 – 71].

 

أيها الإخوة الكرام: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ظهرت عليه ملامح الفقر، وعلامات الحاجة والمسغبة، فقال: "يا رسول الله: إني مجهود"؛ أي: لحقني الجهد والعنت.

 

وما كان من رسول الله، إلا أن تحركت همّته كعادته، وهبَّ ضميره لنجدة هذا المسلم، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: "والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى الأخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلنَ كلهن مثل ذلك".

 

فقال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "من يُضيِّف هذا الليلة"؟، عزَّ عليه الرجل أن يعود جائعاً خائباً، فانتدب الكرام حوله. فقال أنصاري: يطمع في الأجر، ويلبي نداء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنا يا رسول الله! أي: أنا مَن سيفرّج كربته، ويعالج فقره، ويسدّ رمقه. وانطلق مسرعًا إلى بيته، وقال للزوجة: "أكرمي ضيف رسول الله".

 

ولم يكن لديها إلا طعام الصبية، وقوت العيال، فقال لها: "عَلِّليهم بشيء، فإذا أرادوا العشاء، فنوِّميهم"؛ وفعلت المرأة الصالحة ما أمر به زوجها الكريم،.. نوّمت الصبيان، وأحضرت الطعام الذي لا يوجد سواه في الدار، وأطفأت السراج، وأظهر زوجها أنه يلامس الأكل. فإذا هو يقربه للضيف، فأكل الضيف وسُرَّ وانشرح.. وبات الزوجان جائعين!! فهل سمعنا بمثل هذا الموقف، وتلك الصورة من الكرم والشهامة؟!

 

في الغد، انطلق الرجل كعادة الصحابة في حضور مجالس النبي -صلى الله عليه وسلم- والتعلم من خُلقه وأقواله؛ فحيَّاه -صلى الله عليه وسلم- بالجائزة الكريمة، وبالثناء المطلق، والدرع الذي تُتَوَّج به الرؤوس، وتتشوف له الأرواح؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لقد عجب الله من صنيعِكما بضيفكما الليلة"!

 

تعجَّب الله عجباً يليق بجلاله -سبحانه وتعالى-، من صنع ذلك الأنصاري وزوجه، وكيف خالف عادة الناس، وآثر الأجر على الشهوة، وقدَّم الثواب على المتعة، واختار الجوع على التخمة؛ ابتغاءَ ما عند الله -تعالى-؛ ليدخل بستان (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر:9].

 

ربما يخالطه الفقر من كل مكان؛ بيت ضيق، وطعام قليل، وهو للصبية، ومع ذلك يبتغي الأجر، ويصنع المعروف، ويأتي بالجميل زمن التعب والجوع؛ فهل سمعتم بمثل هذا الكرم؟! وبمثل هذا الإيثار، يصنعه الأنصاري، لم تسجل لنا اسمه كتب التاريخ ولا شروح الأحاديث، لكن إن جهلناه فإن الله عرفه.

 

ثم إنه يُنسب لأمة عظيمة ذات نُبل وكرم وسخاء في الإسلام؛ إنهم أنصار الدعوة؛ الذين آووا رسول الله من الضياع، وواسوه من الفقر، وصدّقوه حين كذبه الناس. فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نصيبهم؛ عاد الناس بالشاءِ والبعير، وعادوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالهم ومنازلهم، فرأوا من أخلاقه وآدابه ما دفعهم إلى مزيد التضحية، والى نوادر الكرم، وعجائب الإيثار والمواساة، كما صنع هذا الأنصاري وزوجته.

 

بيت مسلم مبارك، هانت عنده الدنيا، وقلت مكانتها. قال الله -تعالى- في وصف عباده المؤمنين: (ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)[الإنسان:7]؛ طعام أنت إليه أحوج، نفسك تشتهيه، وأبناؤك يتضاغَون حولك!! والجوع يلهبك، ثم يمر بك مسكين أو سائل، أو لديك جار ذو عيال، تراه أنت أحوج منك، فتقدم إليه طعامك! وترسل إليه نبلك وشهامتك، وتُعلّل نفسك بالماء وما شاكله، فيا للعجب!!

 

من أين جاءت هذه الأخلاق؟! ومَن الذي غرسها وأبنتها في العرب نباتاً حسناً!! إنه الإسلام، الذي حضَّ على الرحمة والبدل والإحسان، ونبي الاسلام سيد الكرماء. قال –تعالى-: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ)[البقرة:273]، وقال -تعالى-: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[فاطر:39]، وقال -تعالى-: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ)[آل عمران:92].

 

وفي السُّنّة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكرم الناس وأجودهم؛ يكرم المحتاج ويعطي السائل، ويعول اليتيم، ويحسن إلى الفقراء، وعابري السبيل، فكان مدرسة كرم وبذل وسخاء.

 

وتلقَّف صحابته بتلك الخِلال، وحملوا من خصاله ومحاسنه، ما جعلهم شامة في الناس. حتى إن نصارى الشام لما رأوهم قالوا: "ما كان الذي صحبوا المسيح بأفضلَ من هؤلاء"؛ مندهشين من خصالهم.

 

نشر نبينا -صلى الله عليه وسلم- خصال الكرم والبذل والنصيحة والرحمة، رغم فقره الشديد، ومسغبته الدائمة، فليس هو الزعيم أو الملك، الذي يحوي القصور المنيفة، أو يمتلك الأرصدة الباذخة.

 

كلا كان بيته صغيراً متواضعاً، وفراشة بالياً قديماً، وطعامه نزراً رديئاً. لا ترى النار موقدة في بيته، قرابةَ الشهرين؛ ومع ذلك كان قائد الأمة وهاديها، ومربيها، وحامل ألويتها وملاحمها ولم يشغله الفقر، ولم تلهه الحاجة عن أداء رسالته التي كلفه الله بها.

 

إننا يا مسلمون حين نفتش عن العظماء، ونُقلّب سِيَر الفضلاء والحكماء لا نجد عظيماً هو مستودع أخلاقنا وآدابنا، وملاذنا في ميدان الخصال الحسنة، مثل سيدنا النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[الأحزاب:21]؛ فهلمّوا لسيرته وأخلاقه، وتشبثوا بها، فإنها زينة الإسلام ومعادن أفذاذ الرجال الذي يسجّلون بأفعالهم ومواقفهم، قبل أقوالهم وكلماتهم؛ من نحو ما رأينا لهذا الأنصاري والصحابة الأجلة -رضي الله عنهم أجمعين-.

 

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً.

 

إخوة الإسلام: لعل في قصة هذا الأنصاري، وكرمه البليغ، وإيثاره العجيب، وتعجب الله تعالى من فعلته، دعوة لنا أن نتعلم محاسن الخصال، ومكارم الآداب، وأن نجود لله من أموالنا وطعامنا لإخواننا الفقراء والمساكين.

 

جاء في هذا الحديث الصحيح عن أبي هريرة، قال رسول الله: "إن الله قال: أَنفق يا ابن آدم أُنفق عليك"(متفق عليه).

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقاً خلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكاً تلفًا".

 

وفي حديث عبد الله بن عمرو، أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أي الإسلام خير؟ فقال: "تطعم الطعام، وتقرأ السلام على مَن عرفتَ ومَن لم تعرف"؛ فأطعموا الطعام يا مسلمون، وتفقدوا إخوانكم وجيرانكم، وجودوا بما آتاكم الله وقد صح في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما آمن بي محمد مَن بات شبعان وجاره جائع".

 

إنك تستطيع أخي المسلم بأمور يسيرة تُجريها، أن تُذْهِب شُحّ نفسك، وتعالج طمع الروح (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر:9]؛ ادخر من راتبك، أو دخلك التجاري شيئاً لقريبك الفقير، جارك المحتاج، أو ذلك اليتيم. وتستطيع إذا اشتريت طعاماً، أن تقدّم بعضه لأخيك المسلم، أو إذا طبخت طعاماً أن تكثره، وتتعاهد جيرانك وأقاربك.

 

وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك"؛ إن الخُلق الإسلامي لا يطالبك بالصدقة الكبيرة، ولا بالمعروف الوافر، كلا، بل ببذلك لشيء يسير، يطهّر قلبك، ويزكّي نفسك، ويضاعف مالك.

 

قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن تصدق بعِدل تمرة من كسب طيّب، ولا يقبل اللهُ إلى الطيّب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربّيها لصاحبها كما يربي أحدُكم فَلُوَّه، حتى تكون مثلَ الجبل"(متفق عليه)؛ فهذا عدل تمرة يسير من كسب مبارك لا حرام، يثمّنه الله ويربيه، حتى يكون كالجبل يوم القيامة، ومن يكثر فالله أعظم، وأكثر (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:261].

 

وصلوا وسلموا يا عباد الله على مَن أمركم الله بالصلاة والسلام عليه.

 

المرفقات

أجل كلمة بعد الإيمان!

من يضيف هذا الليلة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات