عناصر الخطبة
1/أهمية وعظ الآباء لأبنائهم وتذكيرهم 2/من وصايا لقمان عليه السلام لابنه.اقتباس
إنَّ كثيراً من الناس لا يستطيع أن يرى حبة خردل ولا يُحِسُّ بها إن وقعت عليه، لصغر حجمها وخِفَّة وزنها، ومع ذلك فإنَّه إن عمِل سيئة بمقدار حبَّة الخردل أو بمقدار الذَّرة، فإنَّها تُكتب عليه ويحاسب عليها يوم القيامة، فلا يستهين مستهين بأيِّ ذنب مهما صغر، ولا يحتقر سيئة وإن كانت مثقال خردلة.
الخُطبةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي له الحمد كله وإليه يرجع الأمر كله علانيته وسِرُّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون وأطيعوا الله ربكم فإنكم بطاعته مأمورون وعن معصيته منهيون.
عباد الله: كان الحديث في الجمعة الماضية عن وصايا لقمان لابنه وهو يعظه بأن نهاه عن الشرك والوصية ببر الوالدين والإحسان إليهما، وبيان أهمية وعظ الآباء والأمهات لأبنائهم وبناتهم وتذكيرهم بالله، واستكمالاً لذلك، فإنَّ من وصايا لقمان لابنه: أن حثَّه على مراقبة الله وعلى طاعته -سبحانه وتعالى-، كما خوَّفه من اقتراف السيئة حتى ولو كانت مثقال خردلة، قال -سبحانه وتعالى- عن لقمان الحكيم أنَّه قال لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان:16]، قال السمعاني -رحمه الله-: "إِن تكن الْخَطِيئَة كمثقال حَبَّة من خَرْدَل يَأْتِ بهَا الله -تَعَالَى- يَوْم الْقِيَامَة أَي: يجازيك بهَا.. وروي أَنَّ هَذِه الْحِكْمَة آخر حِكْمَة تكلم بهَا لُقْمَان، فَلَمَّا تكلم بهَا انشقت مرارته من هيبتها فمات"(تفسير السمعاني: 4/ 232).
عباد الله: كل عمل ابن آدم مكتوب عليه في كتاب (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)[الكهف:49]؛ قال -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)[الأنبياء:47]؛ إنَّ كثيراً من الناس لا يستطيع أن يرى حبة خردل ولا يُحِسُّ بها إن وقعت عليه، لصغر حجمها وخِفَّة وزنها، ومع ذلك فإنَّه إن عمِل سيئة بمقدار حبَّة الخردل أو بمقدار الذَّرة، فإنَّها تُكتب عليه ويحاسب عليها يوم القيامة، فلا يستهين مستهين بأيِّ ذنب مهما صغر، ولا يحتقر سيئة وإن كانت مثقال خردلة.
ومن وصايا لقمان لابنه: أن أمره بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك، قال -تعالى- عن لقمان الحكيم أنَّه قال لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان:17].
عباد الله: إنَّ على الآباء والأمهات أمر أبنائهم وبناتهم بإقامة الصلاة في أول وقتها وعدم تأخيرها، وأمر أبنائهم بصلاة الفريضة مع الجماعة في المسجد يقولون لهم: الصلاة الصلاة، صلوا رحمكم الله، قال -تعالى-: (وأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه:132]؛ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أَيِ: اسْتَنْقِذْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَاصْطَبِرْ أَنْتَ عَلَى فِعْلِهَا.. وإِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ"(ينظر تفسير ابن كثير: 5/327).
وفي الحديث القدسي: "قَالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ، مَلَأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ"(أخرجه الإمام أحمد وصححه الألباني). وهذا لا يعني ترك طلب الرزق، بل عليه أن يعمل ويجتهد في ذلك، لينفق على نفسه وعلى من يعول، بالمال الحلال، ولكن لا يلهيه العمل عن طاعة الله.
ومن وصايا لقمان لابنه أن أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ذلك، فإنَّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قد يصيبه من الابتلاء ما يصيبه؛ لذا أمر لقمانُ ابنه بالصبر، قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكَارِهِ مِنْ حُسْنِ الْيَقِينِ، وَإِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ كَمَالاً وَغَايَةً، وَكَمَالُ الْعِبَادَةِ الْوَرَعُ وَالْيَقِينُ".
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنتشر الفضيلة ويكثر الخير بين الناس، ويكثر أهله فيصلح المجتمع، وتعمُّ فيه الفضائل، ويصبحُ مجتمعَ خيرٍ وصلاح، وبإنكار المنكر، فإنَّ الرذائل تقِلُّ وتنزوي، فيقِلُّ الفسق والشر، ويصبح المجتمع نقيَّاً سليماً، مُقرِّباً للخير، داعياً إليه، مُبعِداً للشر ناهياً عنه.
وعلى المسلم أن إذا رأى منكراً وقع وانتهى أن ينكره بما يستطيع ولو بقلبه، ولا يُشهِّر بصاحب المنكر، ولا ينشر بين الناس ما وقع من منكر؛ لأنَّ الإسلام حثَّ على الستر، ورتَّب الجزاء العظيم عليه، خصوصاً إذا كان فاعل المنكر غير معروف بالأذى والفساد، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ"(أخرجه الشيخان)، وفي رواية عند مسلم: "مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ"؛ قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ.. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّتْرَ مَحَلُّهُ فِي مَعْصِيَةٍ قَدِ انْقَضَتْ وَالْإِنْكَارَ فِي مَعْصِيَةٍ قَدْ حَصَلَ التَّلَبُّسُ بِهَا فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَإِلَّا رَفَعَهُ إِلَى الْحَاكِمِ"(فتح الباري: 5/97).
عباد الله: إنَّ على المسلم أن لا ينشر ما وقع من منكر لا بلسانه ولا بفعله ولا في منافذ التواصل الاجتماعي، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "إِنَّ لِلهِ عِبَادًا يُمِيتُونَ الْبَاطِلَ بِهَجْرِهِ، وَيُحْيُونَ الْحَقَّ بِذِكْرِهِ".
ومن توفيق الله لعبده -يا عباد الله- أن يجعله هاجراً للباطل والمنكر، غير مُذيع أو مُشيع لهما، ولتعلموا -يا عباد الله- أنَّ سفينة النجاة للمجتمع إنما هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا"(أخرجه البخاري)، قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "تأمل أيَّها المسلم هذا المثل العظيم من سيد ولد آدم ورسول رب العالمين وأعلم الخلق بأحوال المجتمع وأسباب صلاحه وفساده، تجده واضح الدلالة على عظم شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنَّه سبيل النجاة وطريق صلاح المجتمع، ويتضح من ذلك أيضاً أنه واجبٌ على المسلمين وفرضٌ عليهم القيام به؛ لأنَّه هو الوسيلة إلى سلامتهم من أسباب الهلاك"(مجموع فتاوى ابن باز: 3/264).
معاشر المسلمين: ومن وصايا لقمان لابنه أن أمره بالتواضع ونهاه عن التكبُّرِ على الناس، ونهاه عن أن يمشي في الأرض مختالاً مفتخراً متكبِّراً، وبيَّن له أنَّ الله لا يحب كلَّ متكبر فخور، قال -تعالى- عن لقمان الحكيم أنَّه قال لابنه: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[لقمان:18]؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما- عن تصعير الخد أي: "ولا تتكبر؛ فتحقر عباد الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك" (تفسير الطبري: 20/144). وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ"(أخرجه مسلم).
عباد الله: ومن وصايا لقمان لابنه أن أمره بأن يكون مشيه على الأرض وسطاً فلا يسرع في مشيه ولا يتماوت فيه ولا يكون مشيه مشية المتكبرين، وأمره بخفض صوته وعدم رفعه عند الكلام، قال -تعالى- عن لقمان الحكيم أنَّه قال لابنه: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[لقمان:19]؛ قال السمعاني -رحمه الله-: "وَمَعْنَاهُ: أَنَّه لَيست الْعِزَّة فِي شدَّة الصَّوْت، وَلَو كَانَ من هُوَ أَشدُّ أعز، لَكَانَ الْحمار أعز من الْكل"(تفسير السمعاني: 4/234).
معاشر المسلمين: هذه هي وصايا لقمان لابنه وهي وصايا عظيمة، تبيِّن مدى الحكمة التي آتاها الله عبده الصالح لقمان -رحمه الله-، قال السعدي -رحمه الله-: "حقيق بمن أوصى بهذه الوصايا، أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهوراً بها، ولهذا مِنْ منَّة الله عليه وعلى سائر عباده، أن قصَّ عليهم من حكمته، ما يكون لهم به أسوة حسنة"(تفسير السعدي: ص649).
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلِّمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً ننتفع به.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم