اقتباس
فاحرصوا على تربية أبنائكم فإنَّكم في زمن كثرت فيه الفتن، شُبُهاتٌ وشهوات، زمن تزيَّنت فيه الدنيا بزخرفها، وألقت بأذيالها تجرُّ إلى إثم ملذاتها، وأغرت ببريقها غريقَها، فعظوا أبناءكم وانصحوهم،
الخُطبةُ الأُولَى:
الحمد لله الذي أنزل القرآن وبيَّن فيه الحلال والحرام، وقصَّ فيه القصص والمواعظ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فإنَّ أجسادكم على النار لا تقوى.
عباد الله: من عباد الله الصالحين من آتاه الله الحكمة، فأنطق لسانه بها، فدرجت على ألسن الناس جيلاً بعد جيل، ومن هؤلاء الصالحين وأوليائه المتقين، لقمان الحكيم يقول الله -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ)[لقمان: 12].
والحكمة نعمة ومِنَّة من الله، يُنعم بها على من يشاء من عباده، قال -تعالى-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[البقرة:269]؛ قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ، قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَمَالِكٍ -رحمهما الله-: إِنَّهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَالْإِصَابَةُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ" (مدارج السالكين: 2/448).
عباد الله: إنَّ النعم التي يُنعم بها الله على عباده ينبغي أن تُقابل بالشكر، لذلك أمر الله لقمان بالشكر، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)[لقمان:12]؛ فاشكروا الله على نعمه العظيمة؛ نعمة الإسلام، ونعم الخيرات وسعة الأرزاق، ونعمة الأمن والرخاء، ونعمة العافية في الدين والدنيا، واعلموا أنَّ الشاكر لنعم الله بمنزلة الصائم الصابر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّائِمِ الصَّابِرِ"(أخرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه الألباني).
والله -سبحانه- يرضى عن الشاكرين، قال -تعالى-: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)[الزمر:7]، وقال -تعالى-: (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[العنكبوت:17]، وقال -تعالى-: (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)[الزمر:66]؛ قال الإمام ابن تيمية -رحمه الله-: "إذا اعتبر العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر"(قاعدة في الصبر: ص90).
معاشر المسلمين: إنَّ لقمان الحكيم -رحمه الله- في وعظه لابنه دروس كثيرة منها: أهمية وعظ الآباء لأبنائهم وبناتهم وتذكيرهم بالله -تعالى-، وحثِّهم على العمل الصالح، وتوجيههم وإرشادهم عندما يخطئ أحدهم أو يقصِّر فيما أوجب الله عليه، والصبر في ذلك، فاحرصوا على تربية أبنائكم فإنَّكم في زمن كثرت فيه الفتن، شُبُهاتٌ وشهوات، زمن تزيَّنت فيه الدنيا بزخرفها، وألقت بأذيالها تجرُّ إلى إثم ملذاتها، وأغرت ببريقها غريقَها، فعظوا أبناءكم وانصحوهم، قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: "يَا بُنَيَّ، الدُّنْيَا بَحْرٌ غَرِقَ فِيهِ أُنَاسٌ كَثِيرٌ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ سَفِينَتُكَ فِيهَا الْإِيمَانَ بِالله، وَحَشْوُهَا الْعَمَلَ بِطَاعَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَشِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ عَلَى الله؛ لَعَلَّكَ تَنْجُو" (التوكل على الله لابن أبي الدنيا: ص49).
عباد الله: قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان:13]؛ "قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ابْنَ لُقْمَانَ كَانَ مُشْرِكًا فَلَمْ يَزَلْ لُقْمَانُ يَعِظُهُ حَتَّى آمَنَ بِالله وَحْدَهُ"(التحرير والتنوير: 21/154).
هذه هي الوصية الأولى من تلك الموعظة العظيمة: أنَّه أمره بترك الشرك الذي من لوازمه القيام بالتوحيد وهو "إفراد الله -تعالى- بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات"(ينظر القول المفيد على كتاب التوحيد: 1/11).
قال الإمام السعدي -رحمه الله- عن الشرك: "ووجه كونه عظيماً، أنَّه لا أفظع وأبشع ممن سَوَّى المخلوق من تراب، بمالك الرقاب، وسوَّى الذي لا يملك من الأمر شيئاً، بمن له الأمر كله، وسوَّى الناقص الفقير من جميع الوجوه، بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه" (تفسير السعدي: ص648).
فالشرك -يا عباد الله- هو أعظم ذنب عند الله، عَنْ عَبْدِ الله ابن مسعود -رضي الله عنه- قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ"(أخرجه الشيخان).
وَفِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: "أُوصِيكَ بِخِصَالٍ تُقَرِّبُكَ مِنَ الله، وَتُبَاعِدُكَ مِنْ سَخَطِهِ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ لَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَرْضَى بِقَدَرِ الله فِيمَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ". ثم ذكر الله -تعالى- بعد هذه الوصية، الوصية بالوالدين، قال -تعالى-: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[لقمان: 14، 15]؛ قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وَإِنَّمَا يَذْكُرُ -تعالى- تربيةَ الْوَالِدَةِ وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، ليُذكّر الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ -تعالى-: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الْإِسْرَاءِ:24]، وإن أمراك بالشرك "فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يمنعنَّك ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا"(ينظر تفسير ابن كثير: 6/336-337).
وبر الوالدين من سمات أهل الخير والصلاح، وهو من أعظم الأعمال الصالحة وأحبِّها إلى الله، والمؤمن الصادق يجاهد في البر بهما، أمَّا من عقَّ والديه فأغضبهما، ولم يرع حقهما، فإنَّه آثم وقع في كبيرة من الكبائر، قال ابن القيم -رحمه الله-: "لَيْسَ مِنَ الْإِحْسَانِ وَلَا مِنَ الْمَعْرُوفِ تَرْكُ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فِي غَايَةِ الضَّرُورَةِ وَالْفَاقَةِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْغِنَى، وَقَدْ ذَمَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَاطِعِي الرَّحِمِ، وَعَظَّمَ قَطِيعَتَهَا، وَأَوْجَبَ حَقَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، قَالَ -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)[النساء:1] إلى أن قال: "وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَتْ لِكَافِرٍ، فَلَهُ دِينُهُ وَلِلْوَاصِلِ دِينُهُ"(أحكام أهل الذمة:2/792).
وقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: "أَيْ بُنَيَّ وَاصِلْ أَقْرِبَاءَكَ، وَأَكْرِمْ إِخْوَانَكَ، وَلْيَكُنْ أَخْدَانُكَ مَنْ إِذَا فَارَقْتَهُمْ وَفَارَقُوكَ لَمْ تُعَبْ بِهِمْ"(الإخوان لابن أبي الدنيا: ص102).
فاجتهدوا أيها الأبناء في البر بالأمهات والآباء، وإنَّ من البر بالوالدين خفض الصوت عندهما وحال مخاطبتهما، وانتقاء أحسن الألفاظ وألينها وأحبِّها إلى المسامع، ومن البر قضاء حوائجهما والإحسان إليهما، وتقديم ما يحبَّانه على ما تحبُّه النفس، وعدم إغضابهما أو التأفف عندهما، قال -تعالى-: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء:23-24].
ونستكمل بقية الوصايا في جمعة قادمة -إن شاء الله-.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ننتفع به.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم