من وحي الإيمان

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-23 - 1432/03/20
عناصر الخطبة
1/ معنى حياة الإيمان 2/ أثر استقرار الإيمان في القلوب 3/ منافذ الوصول إلى حلاوة الإيمان

اقتباس

إن العجب العجاب في أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، أنه لا يجعل صاحبه يتحمل الأذى في سبيل الله فحسب، بل يسمو به حتى يحيل هذه الأشياء التي ظاهرها مكروهة للنفس، وتضيق بها الضمائر، وتغلق دونها الأرواح، يحيلها إلى أشياء يلتذ بها المؤمنون، فتصبح عليه مثل الماء البارد والطعام المستعذب، وحينها يرى فقراء القلوب أن هؤلاء مساكين لم يجدوا من حلاوة العيش شيئًا...

 

 

 

 

إن الحمد لله... 

أما بعد:

أيها المسلمون: إن حياة الإيمان تعني الانقيادَ التام والتسليمَ المطلق لله ولرسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها وراءه ظهريًا، وتعني أيضًا الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً وإخوانًا وأزواجًا وعشيرة، وتعني أيضًا فريضة الصبر على الأذى في الله الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.

إن العجب العجاب في أمر الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، أنه لا يجعل صاحبه يتحمل الأذى في سبيل الله فحسب، بل يسمو به حتى يحيل هذه الأشياء التي ظاهرها مكروهة للنفس، وتضيق بها الضمائر، وتغلق دونها الأرواح، يحيلها إلى أشياء يلتذ بها المؤمنون، فتصبح عليه مثل الماء البارد والطعام المستعذب، وحينها يرى فقراء القلوب أن هؤلاء مساكين لم يجدوا من حلاوة العيش شيئًا، ولم يذوقوا لذاتها، وما علموا أن هؤلاء قد حازوا الحلاوة كلها، وأن المحروم من فات من هذه الدنيا ولم يذق أطيب وألذ وأحسن ما فيها، ألا وهو الإيمان بالله وبرسوله.

من رأى منكم غارًا موحشًا قد عفا عليه الزمان وعلاه الغبار من كل مكان، وخالطت الظلمة أرجاءه، ومازجت الوحشة جوانبه وأطرافه، وأحاطت به تلك الحفر التي لا يَعلم ما بداخلها أهو خير فيُنتظر، أم شر فيُتقى؟! تصور معي ذلك المنظر، ولو قيل لرجل: نم في هذا الغار ليلة واحدة ولك كذا وكذا من المال أو من الجاه، لما رضي به ولو أعطي الدنيا، ولكن حينما تكون القضية قضية إيمان ونفاق، قضية إسلام وكفر، حينها يستعذب الإنسان كل شيء حتى الحفر المظلمة ما دام معه الإيمان الذي يخالط قلبه، وإذا بالظلمة الموحشة تنقلب مع الإيمان نورًا يضيء جوانب الغار، وإذا بالخوف ينقلب أمنًا وطمأنينة لا يثبت بها نفسه فحسب، بل يثبت بها من معه من المؤمنين، وإذا بالصخور تنقلب أرائك يتكئ عليها أو وسائد ينام عليها، وإذا بالحفر المظلمة الموحشة تكون مع الإيمان مصدر أمن وأمان، بل ملجأ يعبد الله فيه وحده لا شريك له، حيث لا رقيب ولا حسيب إلا الله.

تأمل ذلك المشهد الرائع، والموقف الإيماني الذي تتجلى فيه أكمل صور الإيمان، ذلك الغار الذي بات فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ثلاثة أيام، إنه غار ثور، الغار الذي أصبح مخبأً لمن؟! لأشرف مخلوق وأكرم عابد، النبي -عليه الصلاة والسلام- ومعه أكرم إنسان بعد الأنبياء وأفضل أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على الإطلاق، الصدِّيق -رضي الله عنه-، وذلك حينما ذهبَا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاختبآ في غار ثور.

عجيب أمر هذا الإيمان، كيف بلغ بأصحابه هذا المبلغ العظيم، بل تجد أصحابه يُؤْذَوْن في العيش والراحة، في المطعم والمشرب، في سبيل المحافظة على هذا الإيمان، ولا أجد مثالاً لذلك كمثل أولئك الفتية الذين لجؤوا إلى كهف؛ لأنهم لم يجدوا مكانًا لهم يعبدون الله فيه غير هذا الكهف، فإذا به يكون مسكنهم ومعاشهم ومسجدهم ومكانهم الذي يتعبدون فيه، كل هذا لأجل المحافظة على هذا الإيمان أن تشوبه شائبة أو يدنسه شيء.

إن هؤلاء الفتية الذين لجؤوا إلى الغار ما كانوا ليُذْكَروا في كتاب الله ولا يُمتدحوا، لولا أن الإيمان خالط سويداء قلوبهم، ولولا أنهم ضحوا بلذاذة العيش في سبيل المحافظة على الإيمان، لَمَا ذُكروا في كتاب الله، ولماتوا وماتت أخبارهم كما ماتت أخبار أناس كثيرين، لكنهم آثروا الباقي على الفاني، لَمّا علموا أن القضية قضية إيمان وكفر، انكشفت القلوب على شأن عظيم، فإذا هؤلاء الفتية يعتزلون قومهم ويهجرون ديارهم ويفارقون أهليهم، ويتجردون من زينة الأرض ومتاع الحياة، هؤلاء هم الذين يأوون إلى الكهف الضيق الخشن المظلم، هؤلاء يستروحون رحمة الله، ويحسون بهذه الرحمة ظليلة فسيحة ممتدة، وانظر لتعبيرهم الذي قصه الله لنا: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا) [الكهف: 16]، فلفظة (يَنْشُرْ) توحي بالسعة والبحبوحة والانفساح، وأنى يكون ذلك مع الكهف الضيق الموحش المظلم، إنه الإيمان، نعم الإيمان، فإذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع، تنتشر فيه الرحمة وتتسع خيوطها وتمتد ظلالها، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء، إن الحدود الضيقة لتنـزاح، وإن الجدران الصلدة لترق، وإن الوحشة الموغلة لتشف، فإذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق.. إنه الإيمان.

إن هذا الإيمان إذا استقر في سويداء القلب ملأ أركانه خشية وإنابة وخوفًا ووجلاً وإخباتًا، فأصبحت به القلوب لا يهمها أين عاشت أبدانها، أو سكنت أعضاؤها، ما دام القلب يستروح رحمة الله، ويأنس بذكره.

أرأيتم كيف يفعل الإيمان بأصحابه، وكيف يذيقهم لذة الدنيا قبل لذة الآخرة؟! إن الإيمان ليس ادعاءً باللسان، ولا مقالة تقال لا يصدقها عمل؟! كلا وألف كلا، وليعلم كل مسلم أن الإيمان إذا استقر في القلب وذاق الإنسان حلاوته فإن أثر هذا الإيمان سيظهر أول ما يظهر على الجوارح، ولذلك يجب أن يعلم كل مسلم أن كل مخالفة لله في الظاهر فهي نقص في الإيمان في الباطن ولابد، وحينها نعلم خطأ من يقول إذا أُنكر عليه في أمر ما وخاصةً الأمور الظاهرة: الإيمان في القلب، أو يقول: التقوى ها هنا، وأشار إلى صدره.

نعم؛ الإيمان في القلب ولكن أثره على الجوارح، فلو كمل إيمانك حقًّا وصدق يقينك صدقًا لما تجرأت على معصية الله.

أيها المسلمون: لقد قصّ النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصحابة قصة رجلين مؤمنين، ضربهما مثلاً لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العفاف والزهد والإيثار؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب، فقال للذي اشترى العقار منه: خذ ذهبك عني، إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب. فقال الآخر: إنما بعتك الأرض وما فيها. قال -صلى الله عليه وسلم-: فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟! فقال أحدهما: لي غلام. وقال الآخر: لي جارية. قال الحاكم: أنكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا". رواه مسلم.

هكذا ينتصر الإيمان على الأنانية، ويُحوِّل العبد الضعيف إلى قوة هائلة؛ لأنه يستند إلى ركن ركين، وهو الله تعالى.

أيها المسلمون: للإيمان طَعمٌ يفوق كلَّ الطعوم، وله مذاقٌ يعلو على كلّ مذاق، ونشوةٌ دونَها كلُّ نشوة، حلاوةُ الإيمان حلاوةٌ داخليّة في نفسٍ رضيّة وسكينة قلبيّة، تسري سَرَيان الماءِ في العود، وتجري جَرَيان الدّماء في العروق، لا أرَقَ ولا قلق، ولا ضِيق ولا تضيِيق، بل سعَةٌ ورحمة ورضًا ونعمة: (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِللَّهِ عَلِيمًا) [النساء: 70].

الإيمانُ بالله هو سكينةُ النّفس وهداية القلب، وهو منارُ السّالكين، وأمَل اليائسين، وأمانُ الخائِفين، ونُصرة المجاهدِين، وهو بشرَى المتّقين، ومِنحَة المحرومين، الإيمانُ هو أبو الأمَل، وأخو الشّجاعة، وقرينُ الرجاء، إنّه ثقةُ النّفس ومجدُ الأمّة، وروحُ الشعوب.

وأوّلُ منافِذ الوصولِ إلى حلاوة الإيمان وطَعم السّعادة: الرّضَا بالله -عزّ وجل- ربًّا مدبّرًا، فهو القائمُ على كلّ نفسٍ بما كسبَت، رحمنُ الدنيا والآخرة ورحيمُهما، قيّوم السماوات والأرضين، خالق الموتِ والحياة، مُسْبغُ النِّعم، مجيب المضطرّ إذا دعاه، وكاشف السّوء: (أَعْطَى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه: 50].

سوّى الإنسان، ونفخ فيه من روحِه، أطعمَه من جوع، وكسَاه من عُريّ، وآمنه من خَوف، وهداه مِن الضّلالة، وعلّمه من بَعد جَهالة، إيمانٌ بالله تستسلِم معه النّفس لربّها وتنـزع إلى مرضاتِه، تتجرّد عن أهوائِها ورغباتِها، تعبدُه سبحانَه وترجوه وتخافه وتتبتّل إليه، بِيده الأمرُ كلّه، وإليه يُرجَع الأمر كلّه، رضًا بالله ويقين يدفَع العبدَ إلى أن يمدّ يديه متضرِّعًا مخلِصًا: "اللهمّ إنّي أعوذ برضاك من سخَطك، وبمعافاتك مِن عقوبتِك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك".

ومَذاقُ الحلاوة الثّاني: الرّضا بالإسلام دينًا، دينٌ من عندِ الله، أنزله على رسوله، ورضيَه لعبادِه، ولا يقبَل دينًا سواه، اسمَعوا إلى هذا التّجسيد العجيبِ للرّضا بدين الله، عضِب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرّةً على زوجته عاتِكة فقال لها: والله لأسوأنّك، فقالت له: أتسطيعُ أن تصرفَني عن الإسلام بعدَ إذ هداني الله إليه؟! فقال: لا، فقالت: أيّ شيء تسوؤني إذًا؟! الله أكبر، إنّها واثقةٌ مطمئنّة راضية ما دام دينُها محفوظًا عليها حتّى ولو صُبَّ البلاء عليها صبًّا، بل إنّ إزهاقَ الروح مستطابٌ في سبيل الله على أيّ جنبٍ كان في الله المصرَع.

ومذاقُ الحلاوةِ الإيمانيّة الثالث: الرّضا بمحمّد -صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه- رسولاً ونبيًّا، محمّدٌ النّاصح الأمين، والرّحمة المهداة، والأسوة الحسَنَة -عليه الصلاة والسلام-، فلا ينازِعه بشرٌ في طاعة، ولا يزاحِمه أحدٌ في حُكم: (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، الرّضا بمحمّد -صلى الله عليه وسلم- اهتداءً واقتداءً، وبسنّته استضاءةً وعملاً.

أيها المسلمون: إذا صحَّ الإيمان ووقر في القلبِ فاضَ على الحياة، فإذا مشَى المؤمن على الأرضِ مشى سويًّا، وإذا سار سار تقيًّا، ريحانةٌ طيّبةُ الشّذى، وشامةٌ ساطعة الضّياء، حركاته وسكناتُه إيمانيّة: "فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه".

من ذاقَ حلاوةَ الإيمان طابَ عيشُه، وعرف طريقَه، ومن عرف طريقَه سار على بصِيرة، ومن سارَ على بصيرةٍ نال الرّضا وبلغَ المُنى، نَعم، يمضِي في سبيلِه لا يبالي بِما يلقى، فبصرُه وفكره متعلِّق بما هو أسمَى وأبقى: (يا أيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِى إِلَى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة) [الفجر: 27، 28].

هَل رأيتَ زِيًّا ومنظرًا أحسنَ وأجمل من سَمت الصّالحين؟! وهل رأيتَ تَعبًا ونصبًا ألذّ من نعاسِ المتهجّدين؟! وهل شاهدتَ ماءً صافيًا أرقَّ وأصفى من دموع النّادمين على تقصيرهم والمتأسِّفين؟! وهل رأيتَ تواضُعًا وخضوعًا أحسنَ من انحناء الراكعين وجِباه السّاجدين؟! وهل رأيتَ جنّةً في الدّنيا أمتع وأطيب من جنّة المؤمن وهو في محراب المتعبِّدين؟! إنّه ظمأ الهواجِر، ومجافاة المضاجع، فيا لذّةَ عيشِ المستأنسين، هذه حلاوتُهم في التعبُّد والتحنّث.

إن بناء المنشآت من مصانع ومدارس وسدود أمر سهل ومقدور عليه، ولكن الأمر الشاق حقًّا هو بناء الإنسان وتغيير فكره وقلبه، الإنسان المتحكم في شهواته الذي يعطي الحياة كما يأخذ منها، ويؤدي واجبه كما يطلب حقَّه، الإنسان الذي يعرف الحق ويؤمن به ويدافع عنه، ويعرف الخير ويحبه للناس كما يحبه لنفسه ويتحمل تبعته في إصلاح الفساد، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله.

إن التغيير في هذا الإنسان أمر عسير غير يسير، ولكننا نجد الإيمان حينما يتغلغل ويصل إلى سويداء القلوب نجده يفعل الأعاجيب بصاحبه، فالإيمان هو الذي يهيئ النفوس لتقبل المبادئ مهما يكمن وراءها من تكاليف وواجبات وتضحيات ومشقات.

حسبنا مثلاً على الإيمان الصادق والتحول الإيماني الفريد رجل وامرأة عُرف أمرهما في الجاهلية وعرف أمرهما في الإسلام؟! الرجل هو عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي نعرف عنه ونقرأ ما بلغ في الجاهلية قبل إسلامه، وحين انتقل من الجاهلية إلى الإسلام، وتحرر عقله حتى بلغ به الأمر إلى أن قطع شجرة الرضوان التي بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه يوم الحديبية تحتها، خشية أن يطول الزمن بالناس فيقدسونها، ويقف أمام الحجر الأسود بالكعبة فيقول: أيها الحجر: إني أقبلك وأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك. عمر -رضي الله عنه- يبلغ من سمو عاطفته ورقة قلبه وخشيته لله، ما ملأ صفحات التاريخ بآيات الرحمة الشاملة للمسلم وغير المسلم، بل حتى الحيوان، حتى قال -رضي الله عنه-: والله لو عثرت بغلة بشط الفرات لرأيتني مسؤولاً عنها أمام الله: لِمَ لمْ أسوِّ لها الطريق؟!". هذا هو الرجل -رضي الله عنه وأرضاه-.

أما المرأة فهي الخنساء، التي فقدت في الجاهلية أخاها لأبيها "صخرًا"، فملأت الآفاق عليه بكاءً وعويلاً وشعرًا حزينًا، ومن شعرها قولها:

يذكّرني طلوع الشمس صخرًا *** وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكـين حولـي *** على إخوانهم لقتلت نفسي

ولكننا بعد إسلامها نراها امرأة أخرى، نراها أُمًّا تقدم فلذات كبدها إلى ميدان الموت راضية مطمئنة، بل محرضة دافعة لهم. روى المؤرخون أنها شهدت حرب القادسية بين المسلمين والفرس تحت راية القائد سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-، وكان معها بنوها الأربعة، فجلست إليهم في ليلة من الليالي الحاسمة، تعظهم وتحثهم على القتال والثبات، وكان من قولها لهم: أي بنيّ: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم، وتعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية والله تعالى يقول: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونٍَ) [آل عمران: 200]، فإذا أصبحتم غدًا -إن شاء الله- سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغُنم في دار الخلد.

فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتيّة، وأنوف حميّة، إذا فتر أحدهم ذكّره إخوته وصية أمهم العجوز، فزأر كالليث وانطلق كالسهم، وظلوا كذلك حتى استشهدوا واحدًا بعد واحد. وبلغ الأمَّ نَعْيُ الأربعة الأبطال في يوم واحد، فلم تلطم خدًّا ولم تشق جيبًا، ولكنها استقبلت الخبر بإيمان الصابرين، وصبر المؤمنين وقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".

ما الذي تغير في عمر القديم وعمر الجديد؟! وما الذي تغير في الخنساء الحزينة الباكية النائحة، إلى خنساء الصبر والفداء والتضحية؟! إنه الإيمان الصادق بالله -عز وجل-، حيث تغيرا من حال إلى حال، وفي كل زمان ومكان نجد رجالاً ونساءً كانوا يعيشون في الشر والفساد، فأراد الله لهم الهداية والتوفيق، وعاشوا بقية حياتهم حياة إسلامية إيمانية غيّرت تلك الحياة الأولى، وفي زمننا هذا نجد من التائبين العائدين إلى الله رجالاً ونساءً، والفرق واضح لدى الجميع بين حياتهم الأولى وما هم عليه الآن وذلك من فضل الله عليهم وهدايته للأخيار.

نفعني الله وإياكم بهدي...

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه...

أما بعد:

أيها المسلمون: البيوت المؤمنة تُخْرج أشبال الإيمان، والأسر التي تربت على الإيمان تخرج أشبال الإيمان، وإليكم هذا المثل: عمر بن عبد العزيز -عليه رحمة الله ورضوانه- في يوم العيد، وهو خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئوه ويدعوا له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب الرجال ويدخل الأطفال، أطفال الرعية، فدخلوا في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك ركل الدنيا تحت قدميه، وربَّى في أهله الإيمان ففازوا بأعظم حُلة، إنها حلة الإيمان، يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو في تلك الهيئة، طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير، والذي تربى على الإيمان: أبتاه: ما الذي طأطأ بك رأسك وأبكاك، قال: يا بني: والله ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك يوم العيد بين أطفال الرَّعية، وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة، فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: أبتاه: إنما ينكسر قلب من عصى ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله. ما الذي علَّم هذا الطفل أن يجيب هذه الإجابة؟! إنه الله الذي رزقه الإيمان من صغره، فتربى على هذا الإيمان فكان منه ما كان.

الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق متبرِّم حائر، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟! ولماذا ألبسه إياه ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟! الفرد بلا إيمان حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة، بل أضل، والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل، المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء، وإن زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء، المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم: (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُم) [محمد: 12].

قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم وأكرم منـزلهم، وقالوا: يا رسول الله: سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ردوها على فقرائكم". قالوا: يا رسول الله: ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسول الله: ما وفد العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من اليمن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الهدى بيد الله -عز وجل-، فمن أراد به خيرًا شرح صدره للإيمان".

وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم رغبة، وأمر بلالاً بحسن ضيافتهم، فأقاموا أيامًا ولم يطيلوا المكث، فقيل لهم: ما يُعجِلكم؟! فقالوا: نرجع إلى مَنْ وراءَنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلامِنا إياه وما رد علينا، ثم جاؤوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يدعونه، فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز له الوفود. قال: "هل بقي منكم أحد؟!"، قالوا: نعم! غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا سنًّا. قال: "أرسلوه إلينا"، فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاقضِ حاجتك منه، فإنَّا قد قضينا حوائجنا منه وودّعناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله: إني امرؤ من بني أبذي -أي من الرهط الذين أتوك آنفًا- فقضيتَ حوائجهم، فاقضِ حاجتي يا رسول الله، قال: "وما حاجتك؟"، قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا من صدقاتهم، وإني واللهِ ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله -عز وجل- أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبل إلى الغلام: "اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه"، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموسم بمنى سنة عشر. فقالوا: نحن بنو أبذي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟!"، قالوا: يا رسول الله: ما رأيناه قط، ولا سمعنا بأقنع منه بما رزقه الله لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحمد لله، إني لأرجو أن يموت جميعًا". فقال رجل منهم: أوَليس يموت الرجل جميعًا يا رسول الله؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله -عز وجل- في أي أوديتها هلك". قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكَّرهم بالله وبالإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرًا.

فالناس يموتون على ما عاشوا عليه، فمن عاش جميعًا مات جميعًا، ومن عاش أوزاعًا شتى، وأجزاءً متناثرة، مات كما عاش، وقليل من الناس، بل أقل من القليل ذلك الذي يعيش لغاية واحدة، ويجمع همومه في همّ واحد، يحيا له، ويموت له، ذلك هو المؤمن البصير الذي غايته الفرار إلى الله، وسبيله اتباع ما شرع الله، وكل شيء في حياته لله وبالله، حاله تنطق بقوله تعالى: (قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162].

فالمؤمن إذا حارب كان واثقًا بالنصر؛ لأنه مع الله، فالله معه: (إنَّهُمْ لَهُمُ الْـمَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 172، 173]. والمؤمن إذا مرض لم ينقطع أمله في العافية: (وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء: 80]. والمؤمن إذا اقترف ذنبًا لن ييأس من المغفرة: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر: 53]، والمؤمن إذا أعسر لم يزل يؤمل باليسر: (فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5]، والمؤمن إذا انتابته كارثة من الكوارث كان على رجاء من الله أن يأجره في مصيبته، وأن يخلفه خيرًا منها، والمؤمن إذا رأى الباطل يقوم في غفلة الحق، ويصول ويجول، أيقن أن الباطل إلى زوال، وأن الحق إلى ظهور وانتصار، والمؤمن إذا أدركته الشيخوخة واشتعل رأسه شيبًا لا ينفكُّ يرجو حياة أخرى: شبابًا بلا هرم، وحياة بلا موت، وسعادة بلا شقاء.
 

 

  

 

المرفقات

وحي الإيمان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات