من هدايات السنة النبوية (11) حديث الاستقامة

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أمر النبي –عليه الصلاة والسلام- بالاستقامة على الدين 2/ الديمومة على الإيمان والعمل الصالح 3/ معنى الاستقامة 4/ الصوارف عن الاستقامة 5/ باستقامة القلب تستقيم الجوارح 6/ رمضان شهر الاستقامة

اقتباس

والتحلي بالإيمان وأنواعٍ من العمل الصالح هو دأب جمهور المسلمين؛ فمنهم المستكثر السابق بالخيرات بالمحافظة على الفرائض، وإتباعها بالنوافل، المكثر من القُرَب، المباعد عن المحرمات، الورِع في المكروهات، المقلل من فضول المباحات، ومنهم المقتصد المقتصر على الفرائض، وشيء قليل من النوافل، مع الكف عن الكبائر والموبقات، ومنهم الظالم لنفسه بالتفريط في بعض الواجبات، المسرف على نفسه في المحرمات ..

 

 

 

 

(الحَمْدُ لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ * يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ) [سبأ:1-2]. 

نحمده على وافر نعمه وجزيل عطاياه؛ خلقنا من ماء مهين، فكرَّمنا وحَمَّلَنا الدين، وهدانا فجعلنا مسلمين: (هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج:78]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أمر بالاستقامة مع استقامته؛ حضًّا عليها، وتأكيدًا لها، ودعوة إلى لزومها، والاستمساك بها، والدوام عليها: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) [هود:112].

قال قتادة -رحمه الله تعالى-: "أمر الله نبيه –صلى الله عليه وسلم- أن يستقيم على أمره ولا يطغى في نعمته". صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
 

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بحبله، واشكروا نعمه، وأديموا على طاعته، ولا تنقضوا عهده؛ فإن نعمة إدراك المواسم الفاضلة، والتوفيق للعمل الصالح فيها تستوجب أعظم الشكر؛ ليبقى المرء على استقامته وصلاحه واجتهاده في العبادة عمره كله؛ فإن الله تعالى لا يسلب هذه النعمة العظيمة من عبده حتى يكفرها ولا يشكرها؛ وذلك بتغيره بعد انقضاء موسم العبادة: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال:53].
 

أيها الناس: وهذا حديث عظيم جامع في هذا الباب، هو من جوامع الكلم، ومن مهمات العلم، ومن عظيم الوصايا؛ لأن الموصي به أعلم الناس بالله تعالى، وأنصحهم لعباده، وجاءت الوصية به على إثر طلب وسؤال، ولم يكن كغيره من الأسئلة؛ ذلكم ما جاء في حديث سُفْيَانَ بن عبد الله الثَّقَفِيِّ -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رَسُولَ الله: قُلْ لي في الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عنه أَحَدًا بَعْدَكَ -وفي رواية: غَيْرَكَ- قال: "قُلْ: آمَنْتُ بِالله فَاسْتَقِمْ". وفي رواية: "ثم استقم". رواه مسلم.

فتأملوا حسن مسألته، وقوة بلاغته، وجميل عبارته، حين طلب شيئًا يتمسك به ويلزمه، ويكف عن المسألة بعده، وهذا من قوة الحزم والعزم، والتزام ما ينفع، والديمومة عليه.
 

وفي رواية لأحمد قال: "مرني في الإِسْلاَمِ بِأَمْرٍ لاَ أَسْأَلُ عنه أَحَداً بَعْدَكَ". وللدارمي: "أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ في الْإِسْلَامِ لَا أَسْأَلُ عنه أَحَدًا". ويتضح ذلك بجلاء في رواية أخرى قال: "حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ".

فهو يريد الاستمساك بشيء ولزومه إلى أن يلقى الله تعالى وهو لم يخلَّ به أو يفرطْ فيه، فأوصاه النبي –صلى الله عليه وسلم- بالإيمان والاستقامة؛ قال: "قُلْ: آمَنْتُ بِالله فَاسْتَقِمْ". وفي رواية الدارمي قال: "اتَّقِ الله ثُمَّ اسْتَقِمْ".

وهذه الوصية النبوية مستفادة من قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصِّلت:30]، وقال عُثْمَانُ الْأَزْدِيُّ -رحمه الله تعالى-: "دَخَلْتُ على ابن عَبَّاسٍ فقلت: أَوْصِنِي، فقال: نعم، عَلَيْكَ بِتَقْوَى الله وَالِاسْتِقَامَةِ...". رواه الدارمي.

والأمر بالإيمان يشمل التصديق والإقرار والإذعان، كما يشمل العمل الصالح بفعل المأمورات، والكف عن المنهيات؛ لأن العمل فعلاً وكفًّا يدخل في مسمى الإيمان، ولا إيمان بلا عمل.
 

والتحلي بالإيمان وأنواعٍ من العمل الصالح هو دأب جمهور المسلمين؛ فمنهم المستكثر السابق بالخيرات بالمحافظة على الفرائض، وإتباعها بالنوافل، المكثر من القُرَب، المباعد عن المحرمات، الورِع في المكروهات، المقلل من فضول المباحات، ومنهم المقتصد المقتصر على الفرائض، وشيء قليل من النوافل، مع الكف عن الكبائر والموبقات، ومنهم الظالم لنفسه بالتفريط في بعض الواجبات، المسرف على نفسه في المحرمات.

لكن الديمومة على الإيمان والعمل الصالح مطلب عزيز، ومقام رفيع، ومنزلة سامقة، لا يصل إليها إلا الخُلَّص من عباد الله تعالى، الذين اصطفاهم الله تعالى فأعانهم على شياطينهم وعلى أنفسهم الأمارة بالسوء؛ إذ إن النفوس تتغير، والقلوب تتقلب، ولها في الإيمان والعمل إقبال وإدبار، وموجاتُ التغيير التي تجرف الناس وتفتنهم عن دينهم في هذا الزمن أكثر من أن تحصى، حتى صار التغيير شعارًا يرفعه كل من يريد الخروج عن الشريعة، ودعوةً يدعو إليها من يريد إذابتها وصرف الناس عن حقيقتها؛ ولذا لم يكتف النبي –صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الإيمان وحده، وإنما أتبعها بالدعوة إلى الاستقامة عليه؛ فقال له: "ثُمَّ استقم".

قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القويم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها".

وأعظم شيء يصرف عن الاستقامة هو الهوى الذي يجمح بأهله إلى الطغيان؛ ولذا قرن الله تعالى الأمر بالاستقامة مع النهي عن اتباع الهوى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) [هود:112]، وفي آية أخرى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [الشُّورى:15]، ولا يتخلى المرء عن الاستقامة ويتبع أهواء الناس فيوافقهم فيما يريدون إلا لهوىً في نفسه يبتغي منه حظًّا دنيويًّا.
 

ولأن أمر الاستقامة على الدين إلى الممات ثقيل على النفوس المجبولة على حبِّ الهوى والشهوة فإن جزاء المستقيمين عظيم، وثوابهم كبير؛ إذ أمَّنهم الله تعالى من الخوف يوم الخوف، وبشرهم بالجنة، وجعل الملائكة أولياءهم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) [فصِّلت:30-31]. وقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال فيهم: "استقاموا والله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعلب".
 

وكان الحسن إذا تلاها قال: "اللهم فأنت ربنا فارزقنا الاستقامة".
 

وأرباب السلوك يقولون: "إن الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق؛ ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: "استقيموا ولن تحصوا". أي: لن تطيقوا الاستقامة التي أمرتم بها".

وباستقامة القلب تستقيم الجوارح، والقلب يستقيم باستقامة اللسان؛ لأن اللسان آلة الذكر واللغو، فإن استقام على الذكر كان سببًا في استقامة القلب والجوارح، وإن حاد إلى اللغو والباطل أفسد القلب ففسدت الجوارح، وقد جاء في حديث أَنَسٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ". رواه أحمد.

وأحيانًا يضعف الإنسان ويغلبه الهوى والشيطان، فيفرط في وصية الله تعالى ووصية رسوله –صلى الله عليه وسلم- بلزوم الاستقامة، فعليه حينئذ أن يجاهد نفسه، ويغالب شيطانه، ويرجع للاستقامة، ويتسلح بالاستغفار؛ للتكفير عن تفريطه فيها: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصِّلت:6].
 

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاستقامة على الدين، والثبات على الحق، والتزود من الباقيات الصالحات، إنه سميع مجيب.
 

وأقول قولي هذا وأستغفر الله...
 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
 

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:123].

أيها المسلمون: يصدق على شهر رمضان المبارك أنه شهر الاستقامة لولا أن شياطين الإنس في فضائياتهم قد أفسدوا بشبهاتهم وشهواتهم من سلَّم نفسه وأهل بيته لشاشاتهم فحرفتهم عن الحق إلى الباطل، وقذفت في قلوبهم كمًّا كبيرًا من أمراض الشبهة والشهوة.
 

وإلا فإن رمضان شهر استقامة بما يقوم به الصائمون من المحافظة على الفرائض، ولزوم المساجد، والترنم بالقرآن، والتنفل آناء الليل والنهار، وكثرة الاستغفار بالأسحار، وأنواع البذل والعطاء.
 

شهر مبارك استقام فيه كثير من المسلمين على طاعة الله تعالى، وجانبوا ما يسخطه، فحري بهم وقد وجدوا حلاوة القرب من الله تعالى أن لا يبتعدوا عنه بعد رمضان، وأن يكون لهم من عباداتهم فيه نصيب طوال العام؛ ذلك أن الله تعالى يحب من المؤمن مواصلة عبادته طوال العام وإلى الممات؛ كما خاطب سبحانه نبيه محمدًا –صلى الله عليه وسلم- آمرًا إياه بذلك: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ) [الحجر:99].
 

فعمل النبي –صلى الله عليه وسلم- بوصية الله تعالى بلزوم الاستقامة، وامتثل أمره في دوام العبادة، حتى لقي الله تعالى؛ كما قالت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ". رواه مسلم. وفي رواية للبخاري قالت: "وكان أَحَبَّ الدِّينِ إليه ما داوم عليه صَاحِبُهُ". وفي رواية لمسلم: "سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلى الله؟! قال: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ".

وَكَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- تتأسى به –صلى الله عليه وسلم-، فإذا عَمِلَتْ الْعَمَلَ لَزِمَتْهُ.

فحري بنا أن نتأسى به –صلى الله عليه وسلم-، وأن نستفيد من رمضان ما ألفناه فيه من أنواع العبادات، فنأتي منها بما نستطيع، ولا نقطعها إلى رمضان القابل؛ فإن الإنسان لا يدري متى يبغته الأجل، وقد يأتيه وهو على غير طاعة، نعوذ بالله تعالى من الخذلان ومن ميتة السوء.
 

وصلوا وسلموا على نبيكم...
 

 

  

 

المرفقات

هدايات السنة النبوية (11) حديث الاستقامة

هدايات السنة النبوية 11 مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات