من معاني الصوم وبيان مكانة شهر شعبان

عبد الله بن عبد الرحمن البعيجان

2024-02-16 - 1445/08/06 2024-02-17 - 1445/08/07
عناصر الخطبة
1/من فضائل الصوم وتوضيح بعض معانيه 2/الحث على التقرب إلى الله تعالى في شهر شعبان 3/من فقه قضاء الفوائت 4/شعبان شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى

اقتباس

الصومُ من أفضل القربات، وأجلّ الطاعات، وأعظم المثوبات، وهو عبادةُ الصابرينَ، وزادُ المتقين، وذخر الفائزين، ويكفي أن الله قسَّم عملَ ابن آدم إلى قسمين؛ فجعَل الصوم قسمًا مستقِلًّا أضافَه لنفسه، وجعَل بقيةَ أعماله قسمًا واحدًا...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

أما بعدُ: فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ مُحدَثة بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

 

عبادَ اللهِ: طاعة الله خيرُ مَغنَمٍ ومكسبٍ، ورضاه خيرُ رِبحٍ ومَطلَبٍ، والجنة حُفَّت بالمكاره، وحُفَّت النارُ بالشهوات؛ (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آلِ عِمْرَانَ: 185]، فاتقوا الله فيما أمر، وكفوا عمَّا نهى عنه وزجر؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18].

 

أيها الناسُ: الصوم عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أزكى القربات، وطاعة من أجلّ الطاعات، وحقيقته الإمساك عن المفطِرات وترك الشهوات، واتقاء المحرمات، وغايته تقوى الله -عز وجل-، وتهذيب النفس وتزكيتها من النقص والخلل، وحصول الأجر والثواب منه -سبحانه وتعالى-.

 

عبادَ اللهِ: الصومُ من أفضل القربات، وأجلّ الطاعات، وأعظم المثوبات، وهو عبادةُ الصابرينَ، وزادُ المتقين، وذخر الفائزين، ويكفي أن الله قسَّم عملَ ابن آدم إلى قسمين؛ فجعَل الصوم قسمًا مستقِلًّا أضافَه لنفسه، وجعل بقية أعماله قسمًا واحدًا؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كُلُّ ‌عَمِلِ ‌ابْنِ ‌آدَمَ ‌يُضَاعَفُ، ‌الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ، وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ"(رواه مسلم)، وعند البخاري: "كُلُّ ‌عَمَلِ ‌ابْنِ ‌آدَمَ ‌لَهُ ‌إِلَّا ‌الصَّوْمَ، ‌فَإِنَّهُ ‌لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ".

 

وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "‌إِنَّ ‌فِي ‌الْجَنَّةِ ‌بَابًا ‌يُقَالُ ‌لَهُ ‌الرَّيَّانُ، يَدْخُلُونَ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةَ، لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، يُقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمُونَ؟ فَيَقُومُونَ، فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ، أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ"(رواه مسلم)؛ فالصوم عباد الله جنة ووقاية من النيران، وعصمة من اقتراف المعاصي واتباع الشهوات والشيطان، وللصائم فرحتان، وله في الجنة باب يقال له الريان.

 

عبادَ اللهِ: وأفضل الصيام أداء الركن الواجب بصيام شهر رمضان، وأفضل صيام التطوع صيام شهر شعبان؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشهر من السنة أكثر صيامًا منه في شعبان"(رواه مسلم)، وعنها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان"(رواه البخاري).

 

وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ‌لَمْ ‌أَرَكَ ‌تَصُومُ ‌شَهْرًا ‌مِنَ ‌الشُّهُورِ ‌مَا ‌تَصُومُ ‌مِنْ ‌شَعْبَانَ ! قَالَ: ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"(رواه النسائي)، وعن عائشة -رضي الله عنها- تقول: "‌كَانَ ‌أَحَبُّ ‌الشُّهُورِ ‌إِلَى ‌رَسُولِ ‌اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانَ" رواه الحاكم؛ فكان صيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شعبان تطوُّعًا أكثر من صيامه فيما سواه، وكان يصوم معظم شعبان؛ فصوموا عباد الله من شعبان ما استطعتم؛ (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْمُزَّمِّلِ: 20].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي آنس بطاعته وذكره وحشة القلوب فقال: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28]، فضل بعض الأزمان والأوقات، وخصها ببعض العبادات والطاعات، وهدانا للإيمان، ونسأله أن يبلغنا رمضان.

 

أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا وتبجيلًا، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه وكفى به إمامًا ودليلًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

معاشرَ المسلمينَ: إن الله لم يخلقكم عبثًا، ولم يتركم همَلًا، وقد خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا؛ فبادِرُوا بالأعمال قبل حلول الآجال، واستعِدُّوا للاختبار والسؤال، وحسِّنُوا الأقوالَ بالأفعال، وحاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، واستعِدُّوا للقاء الله الكبير المتعال.

 

عبادَ اللهِ: شعبان شهر تُرفَع فيه الأعمال إلى الله، فاحرصوا على الخواتيم؛ فإنما الأعمال بالخواتيم، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، وقد قال عن شعبان: "وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"(رواه النسائي).

 

وبعدُ عبادَ اللهِ: فالعبادةُ وقتَ الغفلةِ قُربةٌ من أعظم القُرَب، وطاعة لرب العالمين، وتنبيه للغافلين، وذكرى تنفع المؤمنين، وإن شهر شعبان موسم طاعة يغفل عنه كثير من الناس، فاحرصوا على عمارة أوقاته، واغتنِموا أيامه وساعاته، وتعرضوا لنفحات الله وتلمَّسُوا مرضاتَه، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر من صيام أيامه ويقول: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"؛ فاحذروا من الغفلة، فإنَّها تقطع الصلة بين العبد وربه، والله -تعالى- يقول: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)[الْأَعْرَافِ: 205].

 

ومن كان عليه قضاء من رمضان الماضي فليبادر بصيامه قبل نهاية شعبان، فإنَّه لا يجوز تأخير القضاء من دون عذر حتى يدخل رمضان، وفقكم الله لما يحبه ويرضاه، وتقبل منكم صالح الأعمال، وجعلكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه؛ (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزُّمَرِ: 18].

 

اللهُمَّ استعملنا في طاعتك، ووفقنا لاستغلال الأوقات في عبادتك، وبارك لنا في العمر، ومتعنا بالصحة والعافية يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ بلغنا رمضان، ووفقنا فيه لكل خير، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، اللهمَّ اغفر ذنوبنا وذلاتنا، واستر عيوبنا وعوراتنا، وفرج همومنا، ونفس كروبنا، واكلأنا بحفظك ورعايتك يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهُمَّ حبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيِّنْهُ في قلوبنا، وكَرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهُمَّ يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهُمَّ يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك؛ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8].

 

اللهُمَّ اغفر لنا ولوالدينا، وللمؤمنين والمؤمنات، اللهُمَّ اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمِنًا مطمئنًا وسائرَ بلاد المسلمين، اللهُمَّ آمِنًا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ بتوفيقِكَ، وأيِّده بتأييدِكَ، وأعز به دينك، اللهمَّ وفِّقه ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضى، يا سميعَ الدعاءِ.

 

اللهمَّ احفظ جنودَنا، واحمِ حدودَنا، واجمَعْ شملَنا، وأَخْزِ عدُوَّنا، اللهمَّ كن لأهلنا في فلسطين وليًّا ونصيرًا، ومُعِزًّا ومُجِيرًا، اللهُمَّ اكشف عنهم الضر، وارفع عنهم البلاء، واحفظ لهم الأعراض والدماء، اللهُمَّ اجعل لهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، يا أرحم الراحمين.

 

(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصل اللهمَّ وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

من معاني الصوم وبيان مكانة شهر شعبان.doc

من معاني الصوم وبيان مكانة شهر شعبان.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات