من قصص التائبين

خالد بن عبدالله الشايع

2025-02-07 - 1446/08/08 2025-02-21 - 1446/08/22
عناصر الخطبة
1/فتح باب التوبة نعمة ورحمة 2/أهمية التوبة ومكانة التائبين 3/بعض قصص التائبين 4/توبة ماعز بن مالك رضي الله عنه 5/ توبة الغامدية 6/توبة أبي محجن الثقفي 7/توبة القعنبي.

اقتباس

فحُرقة الذنب أحيانًا لا يطفؤها إلا إقامة الحد، وإلا فالأصل أن من قارف ذنبًا في السر فإنه يتوب إلى الله في السر، والله غفور رحيم، ولا يكن العبد كعبد السوء الذي يرتع في المعاصي يمنة ويسرة، بل ويخطط لها، ولا تهتز له شعرة من وقوعه في تلك العظائم...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

أما بعد: فيا أيها الناس: إن مِن فضل الله ورحمته وكرمه أن فتح للناس باب التوبة ليراجعوا أنفسهم، ولم يجعل للتوبة عددًا محددًا، بل جعل باب التوبة مفتوحًا حتى آخر لحظة في العمر، ولقد دعا -سبحانه- خلقه للتوبة فقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النور: ٣١].

 

ولأهمية التوبة تكرَّر ذِكْرها في القرآن، حتى وردت في القرآن في سبعة وثمانين موضعًا، ذكرت قصص التائبين، وعاقبة التائبين، وحذَّرت من التائهين الغافلين، الذي هم عن التوبة معرضون.

 

معاشر المؤمنين: ما منا إلا وله ذنوب وسيئات وجرائم، فمنَّا المُقِلّ ومنا المستكثر، ورحمة الله وسعت كلّ شيء، وسنمر -بإذن الله- على بعض قصص التائبين، علَّنا نلحق بهم فنتوب من ذنوبنا، فالسعيد مَن بادر بالتوبة قبل الممات.

 

ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَقَالَ: "وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ"؛ قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ"، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي؛ فَقَالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فِيمَ أُطَهِّرُكَ"، فَقَالَ مِنَ الزِّنَا.

 

فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَبِهِ جُنُونٌ؟" فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ: "أَشَرِبَ خَمْرًا"؛ فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَزَنَيْتَ"؛ فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ.

 

فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ؛ قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَل مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ؛ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ اقْتُلْني بِالْحِجَارَةِ. قَالَ فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: "اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ"؛ قَالَ: فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ".

 

ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي. وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَرُدُّنِي لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى. قَالَ: "إِمَّا لاَ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي"؛ فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ.

 

قَالَ: "اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ"؛ فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ. فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا.

 

فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ؛ فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: "مَهْلاً يَا خَالِدُ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ"؛ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ.

 

أيها المؤمنون: المؤمن الصادق هو الذي إذا قارف ذنبا، لم يسترح له بال، ولم يَقرّ له قرار، وتجده يحترق من الداخل، حتى يتوب وينزع من ذنبه، وهذا من رحمة الله بالمؤمن، حتى يجيء يوم القيامة سالمًا من الذنوب، وكما سمعنا في قصة ماعز -رضي الله عنه-، لم يستطع أن يستر على نفسه مِن عِظَم الذنب الذي اقترفه في نفسه، ولم يجد له بُدًّا من المطالبة بإقامة الحد عليه ليُطهِّره منه ويرتاح.

 

ومثله الغامدية -رضي الله عنهم أجمعين-، فحُرقة الذنب أحيانًا لا يطفؤها إلا إقامة الحد، وإلا فالأصل أن من قارف ذنبًا في السر فإنه يتوب إلى الله في السر، والله غفور رحيم، ولا يكن العبد كعبد السوء الذي يرتع في المعاصي يمنة ويسرة، بل ويخطط لها، ولا تهتز له شعرة من وقوعه في تلك العظائم، والعياذ بالله.

 

 اللهم ارزقنا التوبة النصوح قبل الممات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد: فيا أيها الناس: لا نزال نعيش مع قصص التائبين العائدين لله -تعالى-، والله يحب التوابين، فمن ذلك: ما أخرجه عبد الرزاق في مصنّفه من حديث مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ سَعْدٌ بِأَبِي مِحْجَنٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَأَمَرَ بِهِ إِلَى الْقَيْدِ، قَالَ: وَكَانَ بِسَعْدٍ جِرَاحَةٌ، فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ إِلَى النَّاسِ، قَالَ: وَصَعِدُوا بِهِ فَوْقَ الْعُذَيْبِ لِيَنْظُرَ إِلَى النَّاسِ، قَالَ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْن عُرْفُطَةَ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ:

كَفَى حُزْنًا أَنْ تُرْدَى الْخَيْلُ بِالْقَنَا *** وَأُتْرَكُ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا

 

 فَقَالَ لاِبْنَةِ خَصَفَةَ، امْرَأَةِ سَعْدٍ: أَطْلِقِينِي، وَلَكِ عَلَيَّ إِنْ سَلَّمَنِيَ اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ، وَإِنْ قُتِلْتُ اسْتَرَحْتُمْ، فَحَلَّتْهُ حِينَ الْتَقَى النَّاسُ، فَوَثَبَ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَالَ لَهَا: الْبَلْقَاءُ، ثُمَّ أَخَذَ رُمْحًا، ثُمَّ خَرَجَ، فَجَعَلَ لاَ يَحْمِلُ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْعَدُوِّ إِلاَّ هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ: هَذَا مَلَكٌ، لِمَا يَرَوْنَهُ يَصْنَعُ.

 

وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ: الصَّبْرُ صَّبْرُ الْبَلْقَاءِ، وَالطَّعَنُ طَعَنُ أَبِي مِحْجَنٍ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ، فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوَّ، رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الْقَيْدِ، فَأَخْبَرَتْ بِنْتُ خَصَفَةَ سَعْدًا بِاَلَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ لاَ أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلاً أَبْلَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى يَدَيْهِ مَا أَبْلاَهُمْ، قَالَ: فَخَلَّى سَبِيلَهُ.

 

فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ: قَدْ كُنْتُ أَشْرَبُهَا حَيْثُ كَانَ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ، فَأَطهر مِنْهَا، فَأَمَّا إِذْ بَهْرَجَتْنِي فَلاَ وَاللهِ لاَ أَشْرَبُهَا أَبَدًا.

 

ومنها ما أورده الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء قال: كان عبد الله بن مسلمة القعنبي شابًّا كثير المجون كثير الشراب، وله قومٌ من الأحداث المردان، يجلس معهم، فدعاهم يومًا وقعد على الباب ينتظرهم فمرَّ به شُعبة بن الحجاج -رحمه الله- أحد أئمة الحديث، فاستوقفه على حماره والناس خلفه يهرعون؛ فقال: مَن هذا؟ فقيل: شعبة. فقال: وأيش شعبة؟ قالوا مُحدِّث، فقام إليه عليه إزار أحمر، فقال له: حدثني. فقال له: ما أنت من أصحاب الحديث فأحدثك، فأشهر سكينه، وقال له: حَدِّثني أو أجرحك، فقال له شعبة: حدثني مَنْصُور عَنْ رِبْعِيّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ".

 

فرمي القعنبي سكينه ورجع إلى منزله، فقام إلى جميع ما كان عنده من الشراب فأراقه، وقال لأُمّه: الساعة أصحابي يجيئون فأدخليهم وقدِّمي الطعام إليهم، فإذا أكلوا فأخبريهم بما عملت بالشراب حتى ينصرفوا، ومضى من وقته إلى المدينة.

 

ولازم مالك بن أنس ثلاثين سنة يسمع منه، ويتعلم، فأكثر السماع عنه حتى صار أثبت رواة الموطأ، قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي: القعنبي أحبّ إليك في "الموطأ " أو إسماعيل بن أبي أويس؟ قال: بل القعنبي، لم أرَ أخشع منه، ثم رجع إلى البصرة، وقد مات شعبة، فما سمع من شعبة غير هذا الحديث.

 

أيها المسلمون: بادروا بالتوبة النصوح قبل فوات الأوان؛ فالموت يأتي فجأة، والقبر صندوق العمل، وربنا غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب إليه، ولو تاب ورجع وتاب في اليوم مائة مرة، ومتى ما علم الله من العبد صدق نيته وفَّقه وسدده للتوبة النصوح.

 

واعلموا أن التوبة عبادة تؤجرون عليها، بل إن الله ليفرح بتوبتك إذا تبت ورجعت؛ فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ".

 

اللهم تُب علينا مع التائبين يا رب العالمين.

المرفقات

من قصص التائبين.doc

من قصص التائبين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات