من فقه المستمع (3-3)

محمد بن صالح بن سليمان الخزيم

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: أحكام المستمع

اقتباس

وجوب الإنصات لمن حضر الجمعة من حين بدء الخطيب خطبته إلى أن ينتهي منها فلا يجوز لأحد التحدث خلال الخطبة. لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد. وحكى ابن عبد البر التحريم من غير خلاف..

 

 

 

 

فصل في حكم الكلام حال استماع خطبة الجمعة، مع بيان رفع اليدين حال دعاء الخطيب، وبيان بعض آداب الخطبة.

 

يتفرع عن هذا أمور منها:

 

1-وجوب الإنصات لمن حضر الجمعة من حين بدء الخطيب خطبته إلى أن ينتهي منها فلا يجوز لأحد التحدث خلال الخطبة. لما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"([1]). وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد. وحكى ابن عبد البر التحريم من غير خلاف ([2]).

 

2-لا يحرم الكلام من الخطيب ولا من المأموم معه حال الخطبة إذا كان لمصلحة؛ لأنه لا يشتغل عن سماع الخطبة كما هو ثابت بالسنة المطهرة ([3]).

 

3-يجوز الكلام لمستمع الخطبة حال تحذيره ضريرًا أو غافلاً من الوقوع في بئر أو حفرة، أو خاف عليه نارًا أو نحو ذلك. بل يجب الإتيان به.

 

كما يجوز قطع الصلاة في هذه الحال لإنقاذ معصوم الدم ([4]).

 

4-أيضًا يجوز الكلام عند جلوس الخطيب بين خطبتي الجمعة لأنه ليس بخاطب. قال المجد -رحمه الله-: "هذا عندي أصح وأقيس".

 

5-من رأى من يتكلم حال الخطبة أو سمعه وجب عليه أن ينكر ذلك الأمر، وكيفيته أن ينكر عليه بالإشارة من غير كلام كوضع إصبعه على فمه، أو يحرك إصبعه ليرتدع المتكلم، ونحو ذلك مما يفهم منه الإنكار، وهذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

 

6-يسن لمن سمع ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- حال الخطبة أن يصلي عليه سرًا ففي الحديث "رَغِم أنَف رجل ذُكرتُ عنده فلم يصلي عليَّ"([5]).

 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أما رفع الصوت بها أمام بعض الخطباء مكروه أو محرم اتفاقًا"([6]).

كما أن للمصلي يوم الجمعة أن يُؤمَنِّ على دعاء الخطيب غير جاهر بها، وكذلك له أن يذكر الله -سبحانه وتعالى- حال الذِّكرْ.

 

7-ليس لمستمع الخطبة أن يرد السلام على من سلم عليه؛ لأنه سلم عليه في غير موضعه وأيضًا لا يصافحه؛ لأنه يشغله عن استماعها، لكن يُسن له ذلك بعد انتهاء الخطبة؛ ليزيل ما وقع في نفس أخيه، ويرشده إلى الحكم الشرعي كما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا قلت لصاحبك أنْصِت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت"([7]).

 

أيضًا ليس لمستمع الخطبة أن يُشَمِّت العاطس لأنه من كلام الناس كما في حديث معاوية بن الحكم -رضي الله عنه-  عندما قال في صلاته يرحمك الله لمن عطس بجواره؛ فأنكر عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذا القول لكن ذات العاطس له أن يحمد الله خفية([8]).

 

8-لا يشرع رفع اليدين عند دعاء الإمام حال خطبة الجمعة؛ وإنما يشرع للخطيب ما لم يخطب من صحيفة أن يمسك يده اليسرى بيده اليمنى أو يرسلهما عند جنبيه ولا يحركهما، والحكمة من ذلك الخشوع وعدم العبث. غير أن له الإشارة بإصبعه السبابة إذا دعا، فعن عُمارة بن رويبة –رضي الله عنه- أنه رأى بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة فقال: "قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المُسبَحة"([9]).

 

وقال الشافعية والمالكية ببدعية رفع اليدين حال الخطبة وأيضًا عند أبي البركات، أما شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فذهب إلى كراهية ذلك ويستثنى من هذا الاستسقاء حال خطبة الجمعة فإنه يشرع للجميع رفع اليدين، بل يبالغ الإمام بالرفع حتى يبدوا بياض إبطيه؛ لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-  قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى إبِطَيْه"([10]).

 

وبهذا يتضح مجانبة كثير من الخطباء سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عندما يحركون أيديهم حال خُطبهم. فالخير كل الخير بالأخذ بالسنة المطهرة فما اندثرت سنة إلا حل مكانها بدعة.

 

9-يسن في حق الخطيب أن يقصد تلقاء وجهه حال خطبته فلا يتجه يمينًا ولا شمالاً لأنه فعله -صلى الله عليه وسلم-، ولأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضًا عن الآخر. بل حكى النووي -رحمه الله-: اتفاق العلماء على كراهية هذا الالتفات؛ لأن خطبة الجمعة أمر تعبدي مُتَلَقى عن الشارع فلا يزاد فيه ولا ينقص ([11]).

 

وكما يستحب للخطيب أن يُقبل على المصلين بوجهه حال خطبته فإنه يستحب لهم أن يقبلوا بوجوههم على الخطيب ما لم يكن هناك مشقة لأنه أبلغ في الوعظ. فعن ابن مسعود -رضي الله عنه-  قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا"([12]).

 

10-يسن للخطيب أن يُسلم مرتين إحداهما: إذا دخل المسجد سلم على من يمر به، لعموم أدلة الأمر بالسلام، والثانية: إذا صعد المنبر. وهذا السلام عام لجميع المصلين تأسيًا به -صلى الله عليه وسلم-: ولفعل الصحابة -رضوان الله عليهم- من بعده، ورد السلام في هذه الحال فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين([13]).

 

مشروعية الدعاء يوم الجمعة:

 

أجمع العلماء على استحباب الدعاء يوم الجمعة والإكثار منه تحريًا لساعة الإجابة وحيث إن من أرجح الأقوال: أنها من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة، فإنه يسن للمصلي أن يكثر من الدعاء في هذا الوقت ويختص ما بين الخطبتين حيث سكوت الخطيب وكذلك عند إقامة صلاة الجمعة وفي أدبار تلك الصلاة وفي سجودها لأن هذا كله مظنة إجابة الدعاء حيث رجاء تلك الساعة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله -عز وجل- خبرًا إلا أعطاه الله –تعالى- إياه، وقال بيده. قلنا يقللها يزهدها"([14])، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-  قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضَي الصلاة"([15]).

 

ذكر ابن حجر -رحمه الله- في تعيين ساعة الإجابة ثلاثة وأربعين قولاً. وأرجحها أحد قولين:

 

الأول: من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. 

 

الثاني: أنها بعد العصر وعليه أكثر الأحاديث. قال الإمام أحمد -رحمه الله-: "أكثر أهل الحديث أنها بعد العصر وترجى بعد الزوال" أي: زوال الشمس، وقال ابن القيم -رحمه الله-: أرجح الأقوال أنها بعد العصر ثم قال: "وعندي أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضًا وكلاهما ساعة إجابة"([16]). فحري بالمؤمن أن يكثر من الدعاء في هذين الوقتين فإنهما مظنة الإجابة. والحكمة في إخفائها والله أعلم ليجتهد المؤمن في الدعاء، وهذا كإخفاء ليلة القدر.

 

تم بحمد الله –تعالى- وشكره وفضله تحرير ما أردنا التبصير به سائلاً المولى أن يفقهنا في دينه ويهدينا إلى سبيل الحق والصواب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 

--------

[1]) متفق عليه.

[2]) انظر فيض القدير (2/2822) والإجماع لابن عبد البر 93 والمحرر (1/152).

[3]) انظر المغني (2/321) وحاشية ابن قاسم (2/489).

[4]) معصوم الدم: هو من لا يجوز قتله من البشر. إذ ليس محاربًا للمسلمين ولم يأت بما يوجب هدر دمه.

[5]) رواه الترمذي وحسنه ورواه الحاكم وصححه.

[6]) انظر الاختيارات (80).

[7]) متفق عليه.

[8]) انظر الانصاف (7/417) وحاشية ابن قاسم (2/488) والمجموع (4/441).

[9]) رواه مسلم. المسبحة: هي الإصبع التي تلي الإبهام لأنه يُسَبَّح بها ويقال لها السبابة.

[10]) قال ابن حجر: (يحمل حديث أنس على أن رفعهما في دعاء الاستسقاء صفة زائدة على رفعهما في غيره). انظر كشاف القناع (2/36) ونيل الأوطار (2/271) وشرح الزركشي (2/182) وفتح الباري (2/412).

[11]) انظر المبدع (2/163) والشرح الممتع (5/85) والمجموع (4/447).

[12]) رواه الترمذي وله شاهد عند ابن خزيمة.

[13]) انظر الإنصاف (2/396) والمجموع (4/447) وشرح الزركشي (2/167) ونصب الراية (2/205).

[14]) رواه البخاري ومسلم.

[15]) رواه مسلم.

[16]) انظر زاد المعاد (1/389 و 394) والإنصاف (2/409) والمجموع (4/407) وفتح الباري (2/416).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات