اقتباس
فانظر -رحمك الله- يا صاحب المنبر كيف أنت عند جمع كلمات الخطبة وعند إلقائها وعند الانتهاء منها. فإن المدار على هذه المضغة صلاحًا وفسادًا. فالقبول مقرون بصدق النية وإخلاص العمل، رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل، ومجانبة كل نقص وزلل.
خطب السابقين الأولين:
سلفنا الصالح مَعِيْن لا ينضب عرفوا الحق فاتبعوه، وعضوا عليه بالنواجذ، عرفوا الحق للحق، غير غالين ولا جافين، إمامهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- به يقتدون وبه يهتدون.
لذا سطر التاريخ هديهم وسمتهم. نقتبس جانبًا من أقوالهم وأفعالهم في صلاة الجمعة وقصر خطبتها تذكيرًا للغافل، وشحذًا لذهن كل فاهم:
1-خطب عثمان -رضي الله عنه- وأوجز فقيل له: لو كنت تنفست فقال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة"([1]).
معنى قوله: لو كنت تنفست: أي مددت الخطبة وطولتها.
2-وعن أبي راشد قال خطبنا عمار فتجوز الخطبة فقال رجل: قد قلت قولاً شفاء لو أنك أطلت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى أن نطيل الخطبة([2]).
3-قال: عمر -رضي الله عنه-: (طولوا الصلاة وقصروا الخطبة) ([3]).
4-وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "أطيلوا هذه الصلاة وأقصروا هذه الخطبة يعني صلاة الجمعة"([4]).
5-وقال أيضًا: "طول الصلاة وقصر الخطبة من فقه الرجل"([5]).
6-وعن عمرو بن شرحبيل قال: "من فقه الرجل قصر الخطبة وطول الصلاة"([6]).
ومن أقوال الفقهاء والمحدثين قال النووي: "يستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها)، وقال الكاساني: (ويكون قدر الخطبة قدر سورة من طوال المفصل.." المراد بالمفَصَّل قصار السور من سورة (ق) إلى سورة (الناس).
وقال الشوكاني: "إقصار الخطبة أولى من إطالتها"، وقال في المرقاة: "لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها فتصرف العناية إلى الأهم"، وفي الفتح الرباني قال "لا خلاف بين العلماء في استحبابه – أي تقصير الخطبة – إنما الخلاف في أقل ما يجزئ"، بل قال ابن حزم: "ولا تجوز إطالة الخطبة"([7]).
وقال ابن القيم في معرض ذِكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الخطبة: "وكان يقصِّر الخطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر الذِّكر، ويقصد الكلمات الجوامع". وبوب البيهقي في سننه بابًا في كتاب الجمعة فقال: "باب ما يستحب من القصد في الكلام وترك التطويل".
وعند مسلم (باب تخفيف الصلاة والخطبة)([8]).
إذًا قصر الخطبة لا نزاع فيه بين أهل العلم إن لم يكن إجماعًا([9]). بل من الفقهاء من ذكر أن تكون الخطبة الثانية أقصر من الخطبة الأولى، كالإقامة مع الأذان، والقراءة في الركعة الثانية أقصر من الأولى([10]).
هذا قليل من كثير به يعرف اللبيب، الامتثال الصادق، والفهم الثاقب، والانقياد الأمثل من أولئك الأفذاذ. فتأمل هذه الأقوال والأفعال بعين التبصر والاعتبار، إذ هي مبنية على الدليل والتعليل.
فأوصيك في السير في ظلها فإن الخير كل الخير بالأخذ بهديه -صلى الله عليه وسلم- والتزام طريقته؛ لأنه أشفق الأمة بالأمة، فلا إفراط ولا تفريط قال ابن عائشة: "ما أمر الله –تعالى- عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، فإما إلى غُلُوٍّ، وإما إلى تقصير فبأيهما ظَفَر قَنع"([11]).
ما جاء فيمن أطال الخطبة وقصر الصلاة:
سبق أن ذكرنا أن قصر الخطبة وإطالة الصلاة علامة على فقه الخطيب وعلمه. وهذه الصفة برز فيها السابقون الأولون. ولكن مع تباعد الزمان عن صدر الإسلام، قَل العلم الشرعي، وكثر الجهل، وأُعجب كل ذي رأي برأيه. مصداق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْج، والهرج القتل"([12]).
فمن تأمل خُطب الجمعة في حاضرنا، يرى كثيرًا من الخطباء قد نحى منحًا يخالف السنة، إما لقلة العلم والفقه بأحكام الخطبة، أو اجتهد اجتهادًا خالف به النصوص الصحيحة الصريحة بإطالة الصلاة وقصر الخطبة. مما صير الخطبة أضعاف وقت الصلاة. مع الإمكان أن يأتي بها بأوجز عبارة، وأجمع معنى. ومثل هذا ورد ذمه بصحيح الأخبار، إذ هو علامة من علامات تقارب الزمان.
فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إنكم في زمان الصلاة فيه طويلة، والخطبة فيه قصيرة، وعلماؤه كثير، وخطباؤه قليل، وسيأتي على الناس زمان الصلاة فيه قصيرة، والخطبة فيه طويلة، خطباؤه كثير، وعلماؤه قليل.."([13]).
ورواه الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال لإنسان: "إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة، يُبدُّون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، يحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصْرُونُ الصلاة يُبدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم"([14]).
قال الشيخ حمود التويجري -رحمه الله-: "وهذا الحديث له حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن أمر غيبي ومثله لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف".
قوله: تضيع حروفه معناه: أنهم لا يتكلفون في قراءة القرآن كما يتكلف كثير من المتأخرين، ولا يتقعرون في أداء حروفه كما يتقعر كثير من المتأخرين. ومعنى يبدون: أي يُقَدِّمون. وقال -رحمه الله-: "وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا فَقَلَّ فيه الفقهاء، وكثر فيه القراء الذين يحفظون حروف القرآن، ويتقعرون في أدائها، ويضيعون حدود القرآن، ولا يبالون بمخالفة أوامره وارتكاب نواهيه، يطيلون الخُطب، ويقصرون الصلاة، ويقدمون أهواءهم قبل أعمالهم، وقد رأينا من هذا الضرب كثيرًا، فالله المستعان"([15]).
التقعر في الخطابة:
اختيار جميل الألفاظ، وجوامع الكلم، وبديع المعاني، في صياغة المواعظ والخطب، له أثر واضح لما يضيفه على الخطبة من رونق مؤثر، فيزيد السامع شوقًا إليها، وتدبرًا لمعانيها؛ لأن المقصود من الخطابة تحريك القلوب، وتشويقها، وقبضها، وبسطها. في الحديث "إن من البيان لسحراً". ومع هذا فإنه ينبغي للخطيب أن يقصد اللفظ الذي يفهمه السامعون فهما جليًا خاليًا من كل غموض. فممن اشتهر في هذا الفن ابن الجوزي الحافظ والمفسر والواعظ المسدد فقيل فيه: "وله في الوعظ العبارات الرائقة، والإشارات الفائقة، والمعاني الدقيقة، والاستعارة الرشيقة. وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا"([16]) فكم رَقَّق من القلوب، وأسال من الدموع بأسلوبه المؤثر فاهتدى لذلك الكثير، وتاب على يديه الجمع الغفير.
أما الإفراط في هذا الفن، والمبالغة في تتبع غرائب الألفاظ. فإنه يكره؛ لأنه تصنع مذموم، وتكلف ممقوت، وتقعر ممجوج، ولأنه إضاعة لمعنى الخطبة في سبيل البراعة في الأسلوب، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا([17])، والمراد بالتنطع المبالغة في الأمور تعمقًا واستقصاءً.
قال الإمام الغزالي([18]): "والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به، وتلاحق بكائهم وزعقاتهم، وإقبالهم عليه، لذة لا توازيها لذة.
فإذا غلب ذلك على قلبه، مال طبعه إلى كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً، ويَفِر عن كل كلام يستثقله العوام؛ وإن كان حقًا. ويصير مصروف الهمة -بالكلية- إلى ما يحرك قلوب العوام، ويعظم منزلته في قلوبهم، فلا يسمع حديثًا أو حكمة إلا ويكون فرحه به من حيث أنه يصلح لأن يَذْكُره على رأس المنبر. فتدبر هذه المعاني، واقصد الحق من غير تكلف أو تنطع. فإن الزيادة في زخرفة القول تورث لدى السامع الاستثقال، وانصراف البال، والله المستعان.
هديه –صلى الله عليه وسلم- في خطبة الجمعة:
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن تأمل خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدي والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله، وذِكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم. ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر، رسومًا تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سننًا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصَّعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر، وعلم البديع، فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها"([19]).
وقال الشيخ صالح الفوزان: "وقول هذا ما قاله الإمام ابن القيم في طابع الخطب في عصره، وقد زاد الأمر على ما وصف حتى صار الغالب على الخطب اليوم أن تكون حشوًا من الكلام قليل الفائدة، فبعض الخطباء أو كثير منهم يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرس يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، ويطيل الخطبة إطالة مملة، حتى أن بعضهم يهمل شروط الخطبة أو بعضها ولا يتقيد بمواصفاتها الشرعية. فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير والتأثر والإفادة. فيا أيها الخطباء: عودوا بالخطبة إلى العهد النبوي (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21]، ركزوا مواضيعها على نصوص من القرآن والسنة تتناسب مع المقام وضمنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة. عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر، أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب، ونور البصائر. إذ ليس المقصود وجود خطبتين فقط بل المقصود أثرها في المجتمع"([20]).
وصية:
أخي الخطيب المبارك:
لما كانت الخطبة عبادة لله -سبحانه وتعالى- يقصد منها التقرب إليه بتذكير الناس ووعظهم ونصحهم، فقد جاء الوعيد الشديد لمن قصد غير وجه الله بها – نسأل الله السلامة – فعن بشير بن عقربة قال: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قام بخطبة لا يلتمس بها إلا رياء وسمعة وقفه الله -عز وجل- موقف رياء وسمعة"([21]).
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قام مقام رياء راءى الله به، ومن قام مقام سمعة سمَّع الله به"([22]).
وجاء في السير أن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- ربما قطع خطبته ونزل فلما قيل له في ذلك قال: أعجبتني نفسي فنزلت.
وقد سأل عمر بن ذر أباه: مالك إذا تكلمت أبكيت الناس، فإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ قال: "ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة"([23]). وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "إنه تكلم مرة فتاب في المجلس على يده نحو مائتي رجل"([24]).
فانظر -رحمك الله- يا صاحب المنبر كيف أنت عند جمع كلمات الخطبة وعند إلقائها وعند الانتهاء منها. فإن المدار على هذه المضغة صلاحًا وفسادًا. فالقبول مقرونًا بصدق النية وإخلاص العمل رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل، ومجانبة كل نقص وزلل.
وأخيرًا أقول:
قد تبين لك الحق المنبثق من مشكاة النبوة، مقرونًا بصحيح الأدلة، وأقوال الأئمة، تحفة الحكم والعلل، والتي برز من خلالها مقاصد الشارع الحكيم من التقصير وعدم التطويل. فالزم -رعاك الله- هذا الحق البين، وتقيد بالسنة المطهرة؛ تظفر بخيري الدنيا والآخرة. فكم نحن بحاجة إلى الخطيب العالم المتبصر، والفقيه المتأمل؛ لأن نفعه متعدٍ، وأثره نافذ باق، يخاطب الجموع، فيعكس حقيقة سماحة التشريع الرباني، وشفقته. فكن خير داع في خير أمة، ومجانبًا لكل ما قد يُصدع جدار الأمة.
فالله أسأل أن يهدينا إلى الصواب ويجنبنا الخطأ والزلل، إنه أهل الهداية والتوفيق. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتبع المقال الثالث إن شاء الله-تعالى-.
-------------
[1]) رواه مسلم.
[2]) رواه أحمد بسند جيد ورواه ابن أبي شيبة والبيهقي.
[3]) انظر بدائع الصنائع.
[4]) رواه البيهقي.
[5]) المرجع السابق (1/391).
[6]) انتظر التمهيد لابن عبد البر (4/258).
[7]) انظر المحلى (5/60).
[8]) مسلم (2/59).
[9]) انظر الإنصاف (2/397).
[10]) انظر حاشية ابن قاسم (2/457) وكشاف القناع (2/6).
[11]) انظر كتاب العزلة.
[12]) رواه البخاري ومسلم.
[13]) رواه الطبراني ورواه البخاري في الأدب المفرد قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح والحديث حسنه الألباني.
[14]) رواه الحاكم في مستدركه من حديث هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- مختصرًا، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[15]) اتحاف الجماعة (2/104).
[16]) طبقات الحنابلة (3/411).
[17]) رواه مسلم.
[18]) الإحياء (10/162).
[19]) انظر زاد المعاد (1/424).
[20]) انظر مقدمة الخطب المنبرية.
[21]) رواه الطبراني وأحمد وقال الهثيمي رجاله موثقون.
[22]) رواه الطبراني وقال الهثيمي إسناده جيد.
[23]) العقد الفريد (3/195).
[24]) طبقات الحنابلة (3/410).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم