عناصر الخطبة
1/الصلة العقائدية والتاريخية في الحج 2/ وحدة الإنسانية من أسرار الحج 3/ من بناء البيت إلى وضع الحجر الأسود 4/ الحج رحلة إيمانية 5/ الحج نبذ للفرقة والفوارق 6/ من فضل البيت ومن خصائصه 7/ دمعات في عرفات.اهداف الخطبة
التشويق إلى حج البيت العتيق / بيان بعض أسرار الحج.عنوان فرعي أول
وأذن في الناس بالحجعنوان فرعي ثاني
مبدأ المساواةعنوان فرعي ثالث
في عرفات محرمااقتباس
إن الحج إلى هذا البيت.. هو خاصةُ هذا الدين، وهو سر التوحيد. إنه خاصة الحنيفية، وزيارة المحب لمحبوبه، وإجابة دعوته، ومحل كرامته في شعار قديم جديد، لم يضعف صداه على مر القرون وتعاقب الأجيال: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحفظوا أوامر ربكم، وعظموا حرماته وشعائره (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج: 78].
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة:132]. اختار لكم صفوة خلقه محمد صلى الله عليه وسلم؛ يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم. وكل ذلك أيها المؤمنون، اختيارٌ في اختيار في اختيار (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [القصص:68].
وكما اختار سبحانه في الأمم والنبيين، اختار من الأماكن أشرفها، ومن البقاع أفضلها. بيتٌ شرفت مكانته، وحددت معالمه، وأسست دعائمه. بوأ الله لإبراهيم – عليه السلام- مكانه.. بناه الأبوان الكريمان: إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. في إنابةٍ، وخشوع، وتضرع، ودعاءٍ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:127].
وأمةُ الإسلام ورسولُ الإسلام – عليه الصلاة والسلام- هما إجابةُ هذه الدعوة المباركة. فلقد اقترن أصل هذه الأمة ببناء هذا البيت وتطهيره ومناسكه: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:128-129].
إن هذه الأمة تجد في البيت والحج والمناسك أصلها العريق، الضارب في أعماق التاريخ من تلك العهود الأولى: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا...) [الحج:78].
إن هذه الصلات العقائدية والتاريخية؛ سرٌ من أسرار حج هذا البيت. يجد فيه المؤمنون ما يشدهم إليه، إنها قبلتهم أحياءً وأمواتاً. يجدون فيه رايتهم التي يفيئون إليها راية العقيدة والتوحيد: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26]، (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) [الحج: 30-31].
تنمحي في ظلال هذا البيت فوارق الأجناس والألوان والأوطان، تتجلى في عرصات المناسك قوة التجمع والتوحيد والترابط.. تضم الملايين والملايين من الخلائق يحنون إليه كما تحن الحمائم إلى أوكارها.. في أفئدتهم من الحنين شوق، وفي قلوبهم من المشاعر فيض، يفدون إليه من أعماق القارات، ومن شطآن المحيطات: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة: 125].
إن الإنسانية واحدة من آدم إلى إبراهيم إلى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، شرفها في عبادة ربها، وولاؤها لوحدانيته، وعمل الشيطان وجهده تعكير هذه العبادة، وتقطيع ذلك الولاء فكان إبراهيم – عليه السلام- نموذج النبوة الأولى شعاراً للتوحيد، ومناراً للعبادة الخالصة. ثم جاء خاتمُ المرسلين محمدُ صلى الله عليه وسلم فأرسى القواعد لألوف المساجد التي تتبع هذا البيت في والوسيلة والهدف.. فدوائر صفوف المصلين حول الكعبة لا تزال تنداح وتتسع حتى تشمل الدنيا كلها.
حقاً – أيها الإخوة- إن الأمة لتجد أصلها وأصالتها من خلال هذا البيت وتاريخه، ومن خلال مناسكه ومتعبداته.
وكأنكم بهذه الأمة وهي تتجلى طيف إبراهيم عليه السلام، وهو يودع فلذة كبده إسماعيل وأمه، و يتوجه بقلبه الدافق، ودمعه الخانق: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37]. وها هي هاجرُ تتطلبُ الماء لطفلها ولنفسها.
وفي ذلك الجو اللاهب.. حول مكان البيت.. تهرول بين الصفا والمروة.. قد نهلها العطش، وبلغ منها الجهد، وأضناها الإشفاق.. وفجأةً فإذا هي بالنبع يتدفق زمزمَ الرواء والشفاء.
وتتسارع الأطياف.. فإذا إبراهيم وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت بأمر ربهما: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125].
ويزداد التاريخ في الاستعراض.. فإذا عبدُ المطلب بن هاشم ينذر دم ابنه العاشر.. ابنه العاشر.. إنه عبد الله الذي يفدى بما يزيد على المائة من النوق.. ليأذن الله بخروج أكرم الخلق على الله المصطفى المختار محمد صلى الله عليه وسلم. ويمر الزمن فإذا بهذا الفتى يضع الحجر الأسود موضعه من البيت بيمينه لتنطفىء نارُ الفتنة، ثم يبعثه الله من جوار بيته هادياً ومبشراً ونذيراً.
أيها الإخوة، إن الحج إلى هذا البيت.. هو خاصةُ هذا الدين، وهو سر التوحيد. إنه خاصة الحنيفية، وزيارة المحب لمحبوبه، وإجابة دعوته، ومحل كرامته في شعار قديم جديد، لم يضعف صداه على مر القرون وتعاقب الأجيال: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
في أشهر الحج تنطلقُ قوافل الملبين.. قاصدين هذا البيت، مؤكدين الولاء لرب هذا البيت.. تتزايد تلك القوافل رويداً رويداً، فإذا ما قرب الموسم؛ تحول إلى سباق نشط دؤوب.. يقطعون الفيافي والقفار، ويمخرون عباب البحر، ويطيرون في جو السماء.. آمّين هذا البيت من المشارق والمغارب، وفود استوعبت البر والبحر والجو.. لا تسمع إلا هتافاً واحداً للواحد الأحد.. في استعراض خاشع منيب.. يلبون ويكبرون.. يسبحون ويهللون، كلما علوا نشزاً أو هبطوا وادياً، وإذا تلاقت الركبان، وتقابلت الأفواج في مواكب مهيبة تعظيماً لله، وأداء لشعائر الله، بالدعاء والابتهالات لهم عجيج، وبالبكاء لهم نشيج.. أملاً في حط الخطايا والأوزار، تلبياتٌ ونداءاتٌ تهزّ المشاعر، وتتجاوب معها الأودية والوهاد.. ذكرٌ وشكرٌ، وحمدٌ وتمجيدٌ: "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله، من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وها هنا.."
إن الحج أيها المؤمنون، رحلة إيمانية عميقة في عبادات عظيمة وذكريات كريمة. في الحج ملتقى المسلمين الأكبر وفي البيت مثابتهم العظمى.. ملتقى الموحدين في المشارق والمغارب، يشهدون منافع لهم.
إن تجمعات الدنيا مهما بلغت في أهدافها.. لن تبلغ سمو هذا الاجتماع الشامل المترابط المتآخي، المتضامن في أهدافه وآماله.
إنه ليس لقاء أجساد، ولا من أجل حمل ألقاب، إنه فرصة الإعداد، وخطة الإنقاذ. موسم جامع ينتهز فيما ينتهز للتوجيهات العامة، والنظر في قضايا الأمة الكبرى، تجسده كل التجسيد، ويمثله حق التمثيل.. كلمات المصطفى صلى الله عليه وسلم، كلمات الوداع من المشفق الحريص بكل حب ونصح في وصية مودع: "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنتي". "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
كلماتٌ موجزاتٌ بليغاتٌ. رسمت سياسات العلاقات البشرية، إنسانية واجتماعية ودولية.. مبينة طبيعة هذا التجمع ووظيفته: "كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي ولا عجمي إلا بالتقوى". رواه أحمد والترمذي بمعناه: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض". متفق عليه من حديث جرير.
لقاءات وتوجيهات في رحاب هذا البيت.. من أجل رفعة البشرية وترقِّيها في مدارج الشرف الكرامة.
إنها تعاليم الإسلام، وحراسة الدين، ورفع راية الحق، وتحديد المواقف من العابثين، والمبيتين للأمة الضياع.
أيها الإخوة في الله، حجاج بيت الله، هذا هو البيت، وذلكم هو الحج في الشعائر والمشاعر. فلئن أصيب المسلمون في أعصارهم المتأخرة بضعف وتفكك.. وتفرق وتشتت.. تجلت فيه سيطرة الأجنبي، واستحكام العدو فما ذلك إلا لغلبة نزعة الأنانية الضيقة، والعصبية المقيتة، والبعد عن منهج الحق، والقيام بأمر الله. والإسلام في تعاليمه ووصاياه لا يعرف هذه الفوارق ولا يرضاها، والحج في عظمته وحقيقته وغايته أكبر برهان على نبذها، والبراءة منها ومن دعاتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124].
الخطبة الثانية:
الحمد لله جعل بيته مثابة للناس وأمنا. أحمده سبحانه وأشكره يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات فضلاً منه ومَنَّاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أكرمنا به ربنا فبعثه مِنا، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون. واعرفوا لهذا البيت فضله وخصائصه. فهو بلد المقدسات، ومتنزل الرحمات. ملتقى وفود الله. حرمه وحمى حماه، وجعل قصده مكفراً لما سلف من الذنوب ماحياً للأوزار، حاطاً للخطايا: "من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه". رواه البخاري ومسلم واللفظ له من حديث أبي هريرة.
خير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله. يتجرد قاصد هذا البيت من لباس أهل الدنيا.. مفارقاً الأهل والأولاد والأوطان.. في تذلل وخضوع لله، وتواضع لعباد الله.
سموٌ وارتفاع فوق مقاييس أهل الدنيا، وتركٌ لألوان الرفاهية والترف.. تتجلى فيه المساواة بأسمى معانيها. حتى قال بعض أهل العلم: إذا كان أشرف حالات المرء أن يأتي يوم القيامة آمناً. فأشرف أحواله في الدنيا أن يكون في عرفات محرماً.
فاتقوا الله أيها المؤمنون وتقربوا إلى ربكم بتعظيم حرماته: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]. (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ) [البقرة: 197].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم