من سير علماء السلف عند الفتن 1

صالح بن عبد الله الهذلول

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ الهجمة الشرسة على الإسلام 2/ حاجتنا للراسخين في العلم للاستضاءة بعلمهم في ظلام الفتن 3/ ترجمة مُطرِّف بن عبد الله الشِّخِّير 4/ فتنة ابن الأشعث ونجاة ابن الشخير منها 5/ ملحوظات على خروج ابن الأشعث.

اقتباس

ومن الناس من تكون له قوة عملية من زهد في الدنيا ورغبة في الآخرة، وجِدٍّ في العبادة، وتشمير في العمل، لكنه أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأقوال والأعمال، فَدَاءُ هذا الصنف من جهله، وهو حال أكثر أرباب التصوف على اختلاف مسميات طرقهم، كما أنه حال كثير من الشباب اليوم الذين تقوى فيهم النزعات الجهادية، فتزاحم غيرها من التكاليف الشرعية..

 

 

 

 

 

فإن هذه الصحوة المباركة في العودة إلى الإسلام والتي أرقت أعداء الدين والملة، فباتوا يخططون الليل والنهار لوأدها، والقضاء عليها (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المـَاكِرِينَ) [الأنفال:30]، (وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [الأنعام:123]، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة:32].

هذه الهجمة الشرسة من لدن أعداء الدين، ينبغي أن تقابل من حماة الدين والدعاة والعلماء المصلحين، بحماسة الشباب، وعقول الشيوخ؛ لأن الأعداء والمتربصين ما يفرحون بشيء فرحهم بطيش عابر، وفكرة عجْلَى لم تُبْنَ على برهانٍ من كتاب ولا سنة.

معشر الفضلاء: إن الحديث عن الفتن وما ورد فيها من نصوص الوحيين الكتاب والسنة لقي اهتماماً بالغاً من علماء الإسلام، وشغل حيزاً كبيراً من كتب السنة، كصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن أبي داود، وسنن الترمذي، وغيرها كثير أيضاً من كتب العقيدة.

بل إن من أوائل الأبواب التي أفردت بالتصنيف عند المحدثين: "باب الفتن" فقد صنف فيه نعيم بن حماد الخزاعي (ت228هـ) كتاباً.

ونحن في هذا الزمان -زمان الفتن بألوانها- بحاجة لتأمل الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، وأخذ العبر والعظات والأحكام، وما ينبغي عمله وتركه.

والذي يُحدد ذلك هم الراسخون في العلم، وفيما يروي الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال: هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشرة آلاف، فما خفَّ فيها منهم مائة، بل لم يبلغوا ثلاثين.

أيها المؤمنون: إن للفتن فقهاً لا يعقله إلا من استضاء بنور الكتاب والسنة، فجمع بين القوة العلمية والعملية، قال ابن القيم: من الناس من تكون له قوة علمية كاشفة...؛ لكنه ضعيفٌ في القوة العملية، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم.

ومن الناس من تكون له قوة عملية من زهد في الدنيا ورغبة في الآخرة، وجِدٍ في العبادة، وتشمير في العمل، لكنه أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأقوال والأعمال، فَدَاءُ هذا الصنف من جهله، وهو حال أكثر أرباب التصوف على اختلاف مسميات طرقهم، كما أنه حال كثير من الشباب اليوم الذين تقوى فيهم النزعات الجهادية، فتزاحم غيرها من التكاليف الشرعية.

عباد الله: إن تاريخ أمتنا زاخر ولله الحمد بنماذج وُفِّقت للجمع بين العلم والعمل حال الفتن، فأنقذت نفسها، وحمى الله بهم فئاماً لا تحصى من المسلمين، وكانت نبراساً يحتذى علماً وعملاً عبر التاريخ.

ومن أولئك: مطرِّف بن عبدالله بن الشِّخيِّر، فقد عاصر فتناً عظيمة، فوفق للنجاة منها، قال الإمام العجلي: مطرف، تابعي ثقة من خيار التابعين، رجلٌ صالح، وكان أبوه من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم ينج من فتنة ابن الأشعث زمن الحجاج بن يوسف بالبصرة إلا رجلان: مطرف بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، ولم ينج منها بالكوفة إلا رجلان: خيثمة بن عبدالرحمن الجعفي، وإبراهيم النخعي.

وقال ثابت البنائي: إن مطرف بن عبد الله قال: لبثت في فتنة ابن الزبير -يعني زمن الحجاج- تسعاً أو سبعاً، ما أُخبرت فيها بخبر، ولا استخبرتُ فيها عن خبر.

هذا مع جلالة قدره، وغزارة علمه، وقوة عقله ورجاحته؛ فاللهم وفقنا لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

أيها المؤمنون: مطرف بن عبدالله، أبوه صحابي جليل روى عدداً من الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ولد مطرِّف في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- عام بدر أو عام أحد، وذكره بعضهم في كتاب الصحابة، ومات سنة خمس وتسعين من الهجرة بالبصرة.

غالب شيوخه من كبار الصحابة، كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وأبيه، وغيرهم، رضي الله عنهم جميعاً؛ وقد لازم مطرف عمران بن حصين ملازمة شديدة، تأثر به منهجاً وسلوكاً، ومن ذلك كيفية التعامل مع الفتنة.

ومن أبرز تلاميذه الذين نهلوا من علمه وتأثروا بعقله وعمله: الحسن البصري، وأخوه يزيد بن عبد الله، وأبو التياح يزيد بن حميد، وثابت البناني، وقتادة السدوسي، ومحمد بن واسع، وخَلق سواهم، وله في الكتب التسعة قرابةُ مائة وثمانين حديثاً.

أثنى عليه العلماء ثناءً عجيباً، من ذلك قول ابن سعد: وكان مطرف ثقة، له فضل وورع ورواية وعقل وأدب. وقال ابن حبان عنه: كان من أهل العبادة والزهد والتقشف، وممن لزم الورع الخفي. وقال ابن خلكان: كان مطرف فقيهاً من أعبد الناس وأنسكهم. وقال ابن كثير: كان مطرف مجاب الدعوة، وله منزلة عند الخلفاء والملوك والأمراء، وكان من أرشد الناس فيهم.

وأقوال علماء السلف في تعديله والثناء عليه أكثر من أن تحصر وتذكر، وعني علماء الإسلام بأقواله وأخباره عناية بالغة.

ومن أقواله -رضي الله عنه-: ما أوتي أحد أفضل من العقل، وعقول الناس على قدر زمانهم. وقوله: لأن أبيتَ نائماً، وأصبح نادماً، أحب إليّ من أن أبيت قائماً، وأصبح معجباً. وقوله: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه. وقوله: لا تُطعم طعامك من لا يشتهيه. أي: لا تحدث بالحديث مَن لا يريده. وقوله: إنك لتلقى الرجلين أحدهما أكثر صوماً وصلاة، والآخر أكرمهما على الله بوناً بعيداً. قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: يكون أورعَهمها عن محارم الله.

رحم الله مطرف بن الشخير رحمة واسعة، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت.

أقول قولي هذا وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة لي وللمسلمين كافة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله موفق مَن أطاعة وأتقاه، وخاذل من خالف أمره وعصاه، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان يفتتح صلاته إذا قام من الليل: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم". صلى الله عليه وعلي آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: أيها المسلمون: ما هي فتنة ابن الأشعث التي نجا منها القليل من العلماء الأفاضل أيامها، وكان مطرف بن عبدالله بن الشخير ممن نجا؟ فتنة قُتل فيها عشرات العلماء والعبّاد والصالحين، ونال بعض الصحابة الأذى بسببها وهم لم يشاركوا فيها البتة.

ابن الأشعث هذا هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، كان أحد أمراء الحجاج بن يوسف الذي ولاّهم، فثار عليه، وأقبل في جمع كبير، وقام معه علماء وصلحاء وقرَّاء وعُبّاد غيرةً لله تعالى لمــَّا انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته، خرجوا طوعاً لله، حسب اجتهادهم، رحمهم الله وعفا عنهم. قال مالك بن دينار: خرج مع ابن الأشعث خمسمائة من القراء كلهم يرون القتال.

وكان ذلك سنة إحدى وثمانين من الهجرة، أي في خير القرون، وبدأت بينهم وبين الحجاج حروب ووقائع شرسة قتل فيها خلق كثير، وانتهت سنة ثلاث وثمانية بهزيمة ابن الأشعث. قال ابن كثير في حوادث سنة ثلاث وثمانين للهجرة: وفيها فُقد جماعة من القراء والعلماء الذي كانوا مع ابن الأشعث، منهم من هرب، ومنهم من قُتل في المعركة، ومنهم من أُسر فضرب الحجاج عنقه، ومنهم من تتبعه الحجاج حتى قتله.

ثم ذكر أسماء بعضهم، ومنهم: سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن شداد، والشعبي، وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، والمعرور بن سويد، ومحمد بن سعد ابن أبي وقاص، وأبو البختري، وغيرهم، وكلهم من سادات التابعين وفضلائهم وعلمائهم وصلحائهم.

وأخيراً -معشر المؤمنين-، وبعد نهاية فتنة ابن الأشعث، نرصد ملحوظاتٍ كثيرةً جداً، منها:
أولاً: إن الأئمة والعلماء نصوا على خطأ ابن الأشعث ومَن معه في خروجهم على الحجَّاج، وقد عبر عن هذا ابن كثير بقوله: والعجب كلُّ العجب من هؤلاء الذين بايعوا ابن الأشعث بالإمارة، وهو ليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش...

فكيف يعمد أتباع ابن الأشعث إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونه، وهو من صلبة قريش -يعني الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان- ويبايعون لرجل من كندة بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد؟ ولهذا لمــَّا كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كثير هلك فيها خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ.

ثانياً: كان لبعض علماء السلف جهودٌ عظيمة في محاولة إطفاء هذه الفتنة، ومن أشهر أولئك الحسن البصري. قال قتادة: كان مطرف إذا كانت الفتنة نهى عنها وهرب، وكان الحسن البصري ينهي عنها ولا يبرح، فقال مطرف: ما أشبِّه الحسن إلا برجل يحذر الناس السيل ويقوم في طريقه.

يشير مطرف إلى موقف الحسن البصري من فتنة ابن الأشعث، حيث نهاهم الحسن عن الخروج على الحجاج، وجادلهم في ذلك، وأما مطرف فيرى أنه عند الفتن الأسلم البعد عن جميع الأطراف؛ لأن الكل معجب برأيه، متمسك بقوله.

قال ابن تيمية: والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25]، وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصم الله. اهـ.

وللحديث صلة في الجمعة القادمة إن شاء الله...

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المرفقات

سير علماء السلف عند الفتن 1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات