اقتباس
فالباحثون في الاقتصاد الإسلامي يعدون الحرية المنضبطة إحدى خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام بل إن بعضهم يعد الحرية المنضبطة ركنا في هذا الاقتصاد، مع أن الحقيقة التي يعرفها الفقهاء أن المحرمات في أبواب المعاملات الإسلامية أكثر بكثير من المباحات، لدرجة جعلت تكييف المعاملات المعاصرة أو إيجاد البديل لها من المهمات الصعبة التي ينبري لها جهابذة الفقهاء والاقتصاديين ..
من الآثار السلبية لمصطلح الحرية:
لكن مصطلح الحرية الذي راج بين الناس في هذه الأيام وكثرت نسبته إلى الشريعة كان له أثر فيما يشهده العصر من نفرة من تكاليف الشرع وزهد في النصوص الشرعية، إما بإسقاطها أو تأويلها أو الاستعلاء عليها.
وذلك أن مصطلح الحرية حل محل الاستعباد لله عز وجل بحيث لم يعُد الإذعان لله تعالى هو شأن المسلم حينما يستمع إلى النص، بل أصبح كل نص يخالف الهوى أو مألوف الناس نصاً فيه نظر، الأمر الذي يحقق الغربة الفعلية للملتزمين بالنصوص في هذا العصر، ولعل ذلك أحد مظاهر الغربة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله)بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء).
ومن مظاهر رواج هذا المصطلح على حساب العبودية أنك لا تكاد تجد بابا من أبواب التعامل اليوم إلا ولمصطلح الحرية فيه النصيب الأوفر.
فالباحثون في الاقتصاد الإسلامي يعدون الحرية المنضبطة إحدى خصائص النظام الاقتصادي في الإسلام بل إن بعضهم يعد الحرية المنضبطة ركنا في هذا الاقتصاد، مع أن الحقيقة التي يعرفها الفقهاء أن المحرمات في أبواب المعاملات الإسلامية أكثر بكثير من المباحات، لدرجة جعلت تكييف المعاملات المعاصرة أو إيجاد البديل لها من المهمات الصعبة التي ينبري لها جهابذة الفقهاء والاقتصاديين، وكثيراً ما تعذر عليهم ذلك.
وكذلك يقولون: إن الإسلام أعطى المرأة حرية منضبطة بضوابط الشرع، الأمر الذي يتناقض مع أحكام النساء في الولاية والسفر وغير ذلك، وهو ما أدى إلى الجنوح إلى إنكار هذه الأحكام عند عدد ممن شعر بالتناقض بين القول بالحرية وهذه الأحكام، فاتخذ الحرية دليلا لرد النصوص الثابتة أو تأويلها.
ولا يقل الكلام في هذين الأمرين عن الكلام في حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، فقد أُلقِيَ من أجل الحرية بكثير من الأحكام الفقهية التي تنظم الرأي والفكر وتحفظ المجتمع من مظاهر التجديف والقول على الله تعالى بغير علم.
إذا استبعدنا مصطلح الحرية ماذا نكسب؟
وحين نلقي عنَّا هذا المصطلح الدخيل جانبا، ونعود إلى القول بالاستعباد لله تعالى فلن نخسر شيئاً، بل سوف نحقق مكاسب كثيرة منها:
1- صدق التوصيف لحال الشريعة مع الإنسان، فالإنسان عبد لله اضطراراً، والشريعة تجعل منه عبداً لله اختياراً أيضاً، فيكون بذلك عبداً لله مرتين، الأولى باستسلامه لله تعالى في قضائه وقدره، والثانية باستسلامه لله تعالى فيما أمر ونهى، فالأولى يُعبِّر عنها مثل قوله تعالى في سورة البقرة:(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ؟ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ؟155؟ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ؟156؟ أُولَـ؟ئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ؟ وَأُولَـ؟ئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)سورة البقرة.
والثانية يُعبِّر عنها مثل قوله تعالى في سورة البقرة أيضا:(وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى؟ ؟ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ؟ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ؟111؟ بَلَى؟ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّـهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ؟112؟، ولذلك جاءت العبادة مالكة لسائر يوم الإنسان من يقظته حيث تبدأ معه اليوم بالصلاة الواجبة، وتحكم مفاصل يومه بصلوات مفروضة، ثم تحكم على كل تصرف من تصرفاته في سائر يومه بأحد الأحكام الخمسة فلا يخرج فعل من أفعال العبد عن أن يكون واجباً أو مندوباً أو مكروها أو حراماً أو مباحاً، فحتى الإباحة التي يُنَظَّرُ لها على أنها مثال الحرية في الشريعة، إنما هي جزء من أمثلة استعباد الإنسان لله تعالى في هذه الأرض.
2- نبذ هذا المصطلح الوافد والتركيز على مبدأ العبودية لله يُكسِب الإنسان إيماناً عظيما يجعله مستبصراً لحقيقة الثواب والعقاب التي تنطلق منها أركان العبادة الثلاث: الحب والخوف والرجاء والتي تضمنها قوله تعالى من سورة الإسراء(أُولَـ؟ئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى؟ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ؟ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا).
3-حين يتجرد الإنسان من الاغترار بالحرية إلى الشعور بالاستعباد لله تعالى في كل حركاته وسكناته يكون أقرب إلى الامتثال لأمر الله تعالى لعباده بأن يكونوا ربانيين كما جاء في سورة آل عمران: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّـهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّـهِ وَلَـ؟كِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) قال الرازي في تعريف الربانيين: " أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله ، والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله" تفسير الرازي 4/274, وقال ابن عاشور: " كونوا منسوبين للرب، وهو الله تعالى، لأن النسب إلى الشيء إنما يكون لمزيد اختصاص المنسوب بالمنسوب إليه.ومعناه أن يكونوا مخلصين لله دو ن غيره.تفسير التحرير والتنوير 3/140.
4-كما أن عودة المسلم لاستشعار استعباده لله تعالى يجعله أكثر تعلقاً واستسلاما للنصوص الشرعية على عكس من تشرب مبدأ الحرية فإنه مع الوقت ودون أن يشعر يصيبه استكبار على النصوص وعدم رضوخ لها، وهذا ما رأيناه وللأسف في كل من تحمس للقول باشتمال الشريعة على الحرية، ومع كثرة تأكيد هؤلاء على كونها منضبطة بضوابط الشرع إلا أن سحر المصطلح وبهرجه يُفقد الكثير من الناس صوابهم، حين يجدون أن هذه الحرية لا تتفق حسب أفهامهم مع الكثير من النصوص فيلجؤون إلى إعلاء الحرية على النص كما هو حاصل الآن، وقد أمرنا الله تعالى: أن نجعل النص حاكما على تصرفاتنا وأذواقنا وإراداتنا.
ولكن: ألا يُمكن القول: إنه لا تضارب بين الاستعباد لله تعالى والقول باشتمال الشريعة على الحرية؟
ويُقال: إن الحرية التي تنادي بها الشريعة هي جزء من استعباد الإنسان لله تعالى.
والجواب أنه لا يُمكن ذلك إذ إننا حين نزعم اشتمال الشريعة على الحرية لا بد أن نحدد مكان هذه الحرية، أي مكان التخيير المحض الخالي من أي عقوبة أو زجر في كل الخيارات، وهذا ما لا يوجد في الشريعة على الإطلاق حتى في المباحات إذ إنه ما من مباح إلا وتحف به ضوابط دقيقة تجعل فاعله على خطر الوقوع في المحظور عند تخطيها، وكأنه يسير على جسر ضيق قصير قريب البداية والنهاية ولا يمكن الجنوح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال.
خذ مثالاً لذلك أكل الطيبات: أليس مباحا دون نزاع، منصوصاً على إباحته بالدليل القطعي ثبوتا ودلالة؟
ومع ذلك فإن شروط استمرار إباحته ماثلة دائماً بحيث لا يكاد يفلت أحدٌ من وشك الخروج منها، فكل الطيبات يشترط في حلها عدم الإسراف وعدم التبذير, وعدم التذرع بها إلى المحرم كأن يُتَّخذ وسيلة للخيلاء والكبر وكسر قلوب الناس، إضافة إلى ما يختص به كل طيب من شروط للحل، كتذكية الأنعام وذكر اسم الله على الصيد وسقي الشجر من طاهر...
وكذلك المال الذي يملكه الإنسان وهو بحكم الشريعة مسلط عليه كما يقول الفقهاء، لكن الحقيقة الشرعية أن تسليط الإنسان على المال إنما هو تسليط إئتمان على مال هو في يد فلان من الناس لكنه في حقيقة الأمر مال الله تعالى ومجعول في يد هذا الفرد لمنفعة الأمة لحكمة إلهية في إعمار الكون وتسخير الناس بعضهم لبعض، ولهذا عندما يؤول ملك المال ظاهراً إلى السفيه فإن الخطاب القرآني يُصَرِّح بنسبة المال للأمة، لأن صيرورة المال في يد السفيه تحول دون انتفاع الأمة به على الوجه اللائق، يقول تعالى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّـهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا) لكن حين يرشُد هذا السفيه فإن الآية التالية تعود إلى نسبة المال إليه نسبة اختصاص وائتمان يقول عز وجل: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى؟ حَتَّى؟ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) ثم تمنع الشريعة هذا الراشد من التصرف بالمال أي تصرف لا يحقق للمجتمع مصلحة وإن كان يحقق لصاحبة نماء آمناً، فهو ممنوع من كل صور الإنماء الذاتي للمال وهو الربا بجميع أنواعه والحيل إليه، كما أنه ممنوع من الوصية فيه بأكثر من الثلث وممنوع من حرمان ورثته منه أو اختصاص بعضهم بالوصية دون الآخر، وممنوع من الإسراف فيه والتبذير ومكلف فيه من الزكاة ومندوب إليه الصدقة منه.. إلى غير ذلك مما يؤكد أن المباحات محفوفة أيضا بالكثير من التكاليف التي تمنع من إطلاق لقب مصطلح الحرية على الشريعة بسبب تضمنها لها.
لكن الواقع والتاريخ يُشيران إلى أن هذه المباحات التي جعلها الله تعالى فُسحة للمسلم بل والعبادات التي أوجبها الله أو ندبه إليها يقع حظرها على المسلم أو على الإنسان بشكل عام من الطغاة والطواغيت الذين تُبتلى بهم الأمم كثيرا في كل زمان ومكان.
فيحرمون الإنسان من حقه الشرعي في الارتزاق والعمل، وحقه بل واجبه في اللباس الشرعي والصلاة مع الجماعة، كما يحاصرونه في زكاته وصدقاته وأمره بالمعروف ونهية عن المنكر، ويُسلطون عليه الحرام والمنكر حتى تصبح الموبقات جزءا من حياة المسلم لانفكاك له منها.
ولا شك أن المجتمع حين يقع تحت سلطة مثل هذه الحكومات يبقى مبتلى بأبشع أنواع الاستعباد، ومطاوعة حاكم يفرض الحرام ويمنع الحلال هي من اتخاذه ربا بنص القرآن الكريم (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله)التوبة31
لكن البديل عن استعباد الحكام أو العبودية لهم يجب أن لا يكون الهوى، وهو ما تقتضيه المطالبة بالحرية حالاً أو مآلا.
أما حالاً، فكمطالبة دعاة الليبرالية والعلمانية بها، فاستبعاد هؤلاء لسلطة الشريعة إنما هو تسليم لسلطة النفس والهوى مباشرة أو بوسيط من الدساتير البشرية والقوانين الوضعية.
أما مآلا، فهو ما تؤول إليه عاجلا أو آجلا مطالبات الإسلاميين بالحرية.
فالحرية باعتبارها اليوم مصطلحا فلسفيا لا يمكن أن نغرسه في بقعة ما من العالم إلا وذهبت جذوره إلى الأعماق تبحث عن منابتها الأصلية.
من ربقة الحرية إلى نعمة العبودية (1/2)
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم