عناصر الخطبة
1/التشويق للحج 2/الحج وتعظيم شعائر الله 3/الحج ورجاء ما عند الله 4/الحج وإقامة ذكر الله 5/الحج الاستسلام والامتثال لأمر اللهاقتباس
لقد كان شوق السلف الصالح للبيت مع بُعد الشقة، وصعوبة الترحال، وقلة الظهر، وشدة الحال شيئاً لا يوصف، ذلك أن الحج عبادة مفعمة بالعواطف، وفرصة للتعرض للنفحات والرحمات يتعرض لها العمار والحجاج. لذلك تجد المسلمين في شرق الأرض وغربها تنبعث أشواقهم في هذه الأيام إلى بيت الله الحرام، وليس غريبا أن...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: قال الله -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحـج: 27].
نعم لقد أذن إبراهيم في الناس بالحج فأجابوا، ودعاهم فلبوا، جاؤوا إليه رجالاً على أرجلهم، وركبانا على كل ضامر؛ جاءوا للحج من كل فج، الشوق يحدوهم، والرغبة تسوقهم؛ فهل مرَّ بك ركب أشرف من ركب الحاجين؟ وهل شممت عبيراً أزكى من غبار قوافل المحرمين؟ وهل هزَّك نغم أروع من تلبية الملبين؟
لقد كان شوق السلف الصالح للبيت مع بُعد الشقة، وصعوبة الترحال، وقلة الظهر، وشدة الحال شيئاً لا يوصف، ذلك أن الحج عبادة مفعمة بالعواطف، وفرصة للتعرض للنفحات والرحمات يتعرض لها العمار والحجاج.
لذلك تجد المسلمين في شرق الأرض وغربها تنبعث أشواقهم في هذه الأيام إلى بيت الله الحرام، وليس غريبا أن نرى مشاعرهم عند الوصول إلى ذلك البيت دموعاً، وليس غريبا أن نسمع فرح نظرتهم إليه نحيبا وعويلا، ليس غريبا؛ لأن الله -تبارك وتعالى- جعل البيت مثابةً للناس وأمنا، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) [البقرة: 125].
ومعنى: (مثابة) أي: مرجعا يثوبون إليه، لحصول منافعهم الدينية والدنيوية، يترددون إليه، ولا يقضون منه وطرا، وجعله أَمْنًا يأمن به كل أحد، حتى الوحش، وحتى الجمادات كالأشجار.
والسبب -والله أعلم- أن الله -تبارك وتعالى- استجاب دعاء الخليل -عليه السلام- لما دعاه بقوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم: 37].
هذه الدعوة البليغة المستجابة، هي سر من أسرار حنيننا وأشواقنا ودموعنا، فقد جعل الله القلوب تهوي إلي البيت وأهله رفافةً مجنحةً مع أنهم في ذلك الوادي الجديب.
وقال الشيخ السعدي: "جعل الله فيه سرا عجيبا جاذبا للقلوب، فهي تحجه ولا تقضي منه وطرا على الدوام، بل كلما أكثر العبد التردد إليه ازداد شوقه وعظم ولعه وتوقه، وهذا سر إضافته -تعالى- إلى نفسه المقدسة".
أيها الإخوة: ومما يؤسف له أن ينشغل بعض الحجاج أيام الحج في السؤال عن مسائل فقهية دقيقة بسيطة متعلقة ببعض الأعمال بالحج، ويغفلون عن الأمور المهمة، والمعاني العظيمة فيه، وأسرار هذه العبادة العظيمة التي لا تجب في العمر إلا مرة واحدة؛ مثل العناية بأعمال القلوب، والحِكم التي من أجلها شرع الله الحج.
وأعمال القلوب -أيها الإخوة-: هي الأعمال التي محلها ومصدرها انقياد القلب وإرادته وإقراره، وهي مرتبطة به، وأعظمها الإيمان بالله -عز وجل-.
بالإضافة إلى المحبة التي تقع في قلب العبد لربه ومعبوده، والخوف والرجاء وغيرها.
ومنها: تعظيم شعائر الله، ولها تأثير كبير على استقامة العبد على دين الله -تعالى-، فكلما كان العبد أكثر تعظيما بقلبه لله ولشعائره التي تتجلى في الحج كان أتقى لله، وانتفع بالحج؛ كما قال سبحانه: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة، ومنها المناسك كلها؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) [البقرة: 158].
ومنها: الهدايا والقربان للبيت، ومعنى تعظيمها إجلالها، والقيام بها، وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه العبد، ومن تعظيمها استحسانها واستسمانها، وأن تكون مكملة من كل وجه، فتعظيم شعائر الله صادر من تقوى القلوب، فالمعظم لها يبرهن على تقواه وصحة إيمانه؛ لأن تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله.
ومن أعمال القلوب: الرجاء، وكلما كان العبد أكثر رجاء لما عند الله -سبحانه- كلما ازدادت استقامته، ومعظم من عزم على الحج تجده قد أضمر في نفسه الرغبة بالاستقامة بعده؛ لذا كان الحج فرصة ذهبية لولوج باب الاستقامة على دين الله.
أيها الإخوة: ما أن يتلبس المسلم بأعمال الحج، ويرتدي لباس الإحرام البسيط الذي تتساوى بارتدائه تلك الجموع، ويَنْزل في تلك المشاعر المقدسة، ويَؤُمَ تلك العرصات المباركة.
وما أن ترى عينُه بنيةَ الكعبةِ المشرفة، وقد اكتست بلباسها الأسود المهيب، تلفها تلك الجموع من كل لون وكل لغة، وهي تنادي بنداء التوحيد: "لبيك اللهم لبيكَ، لبيك لا شريك لك لبيك" إلا ويحس بشعور وجداني يهز قلبه، ويستدر مدامع عينه، ويلمس من نفسه إقبالاً على الله، وعبوديةً له لم يسبق له أن أحس بها إلا من كرر هذا الموقف.
ويرى أثر دعوة الخليل -عليه السلام- ماثلة للعيان، حين قال في دعائه: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي: تحبهم وتحب الموضع الذي هم ساكنون فيه.
أحبتي: حري بالمسلم الذي منَّ الله عليه بالحج أن يستثمر هذا الإقبال على الخير والرغبة في الطاعة اللذين يجدهما في نفسه، ويتزود من الطاعات القلبية؛ مثل الخشية والإنابة، والتوبة النصوح، والمسرة بطاعة الله، واجتناب نواهيه، وتعظيم حرمات الله وشعائره.
ثم يكملها بالطاعات البدنية الأخرى؛ مثل الذكر والدعاء، والصلاة والصدقة، وحسن الخلق، والحرص على نفع المؤمنين بدافع حبهم، وغيرها من أعمال البر والإحسان.
أيها الإخوة: الحج كسائر العبادات شرعه الله -عز وجل- لحِكم، وأوجبه تحقيقاً لهذه الحِكم والمقاصد، وأول هذه المقاصد التي أرادها الله من هذه العبادة: إقامة ذكر الله -عز وجل-، فهي تظهر جلية في أفعال الحج، قال الله -تعالى-: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [الحج: 27- 28].
فما أن يهل الحاج ب: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" إلا وهو في ذكر، وكل أعمال الحج مقرونة بالذكر في الطواف والسعي، وأيام العشر التي فيها الحج أيام ذكر لله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأكثروا فيهن من والتهليل الكبير والتحميد".
ثم يصعد الحاج إلى عرفات ليدعو الله ويذكره؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"[رواه الترمذي، حسنه الألباني].
وإذا وصل الحاج إلى المزدلفة، شرع له أن يقف عند المشعر الحرام ليذكر الله، قال الله -تعالى-: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 198-199].
وهذا يفسره فعله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال جابر -رضي الله عنه- وهو يحكي حجة النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثم أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا".
وأيام مني وهي يوم العيد وأيام التشريق أيام ذكر لله -تعالى-، قال الله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى)[البقرة: 203].
وعَنْ نُبَيْشَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ -عز وجل-"[رواه أبو داود، وصححه الألباني].
وإذا ذبح الحاج هديه ذكر الله، قال الله -تعالى-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الحج: 34].
وقال: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الحج: 36ـ].
وإذا انتهى الحاج من حجه فيشرع له أن يلزم ذكر الله ولا يدعه، قال الله -تعالى-: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة: 200].
ثم يؤكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أفضل الحج ما فيه ذكر كثير لله، قال رسول لما سئل مَا الْحَجُّ قَالَ: "الْعَجُّ وَالثَّجُّ" يَعْنِي: بِالْعَجِّ الْعَجِيجَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ نَحْرُ الْبُدْنِ.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
ومن دروس الحج وحِكمه: الاستسلام والامتثال لأمر الله، وهو ما يتربى عليه الحاج في عدد من شعائر الحج، فيؤديها بامْتِثَال، وقد لا يرى وجه الحكمة فيها كالطواف والسعي، وكونها سبعاً، والابتداء بالطواف من الحجر الأسود، والسعي من الصفا، ورمي الجمرات بسبع حصيات، وكل ذلك يصنعه الحاج امتثالاً لأمر الله، واستسلاماً لشرعه.
عن زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ لِلرُّكْنِ: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ"[رواه البخاري].
منتهى التسليم والانقياد منه رضي الله عنه، وعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: طُفْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا كُنْتُ عِنْدَ الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي الْبَابَ مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ، أَخَذْتُ بِيَدِهِ لِيَسْتَلِمَ، فَقَالَ: أَمَا طُفْتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ رَأَيْتَهُ يَسْتَلِمُهُ؟ قُلْتُ: لَا، قَالَ: "فَانْفُذْ عَنْكَ فَإِنَّ لَكَ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً" [رواه أحمد وهو صحيح].
والمراد بالركن هنا الذي أمر عمر بعدم استلامه إنما هو الركنُ الغربي الذي يلي الأسودَ وهو الركن الشامي.
وهذا الدرس نتعلمه من أمنا هاجر -رضي الله عنها- حين تركها إبراهيم في بطحاء مكة حيث لا ماء ولا زرع، فَقَالَتْ: "يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ!؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ"[رواه البخاري].
منتهى الرضا والتسليم، وكذلك يجب أن نكون.
وفقنا الله لكل خير...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم