من ثمار الإيمان

خالد بن سعد الخشلان

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الإيمان
عناصر الخطبة
1/نعمة الإيمان 2/شمولية الإيمان للأعمال الظاهرة والباطنة 3/فوائد الإيمان وثمراته العاجلة والآجلة 4/ابتلاء الله لأهل الإيمان

اقتباس

أيها الإخوة في الله: كم للإيمان الصحيح بمفهومه الواسع الشامل الذي يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ونطق اللسان الذي يشمل الدين كله؟ كم للإيمان الصحيح لهذا المفهوم الواسع الشامل من الفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة؟ كم لهذه الشجرة المباركة شجرة الإيمان من ثمار يانعة، وجنى لذيذ، و...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا -رحمكم الله- أن الله -عز وجل- أوصاكم بهذه الوصية العظيمة لما اشتملت عليه من خيري الدنيا والآخرة، ألا فلنستجب لوصية مولانا، ولنبادر بتنفيذها: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131].

 

جعلني الله وإياكم ممن عمرت التقوى قلوبهم، وهذبت جوارحهم.

 

أيها الإخوة المسلمون: إن من أعظم نعم الله على العبد أن يوفقه للإيمان الصحيح به سبحانه وتعالى ربا، وإلاه ومعبودا، لا معبود بحق سواه، وأن يوفقه للإيمان بمحمد رسول الله نبيا، وأن يوفقه للإيمان بهذا الدين دينا، صالحا مصلحا شاملا في جميع جوانب الحياة ومناحيها: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)[الحجرات: 17].

 

من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا نبيا.

 

حقا إنها نعمة تتضاءل عندها كثير من نعم الدنيا ومتاعها، بل لا قيمة لمتع الدنيا وملذاتها إذا حرم العبد نعمة الإيمان غير أن هذا الإيمان لا يكون إيمانا صحيحا إلا إذا كان إيمانا يشمل العقائد القلبية من تصديقا بالله -عز وجل- وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويشمل الأعمال القلبية من خوف الله ورجاءه وخشيته ومراقبته، وتقديم مراده سبحانه وتعالى على كل مراد.

 

كما يشمل الإيمان هذه الأمور القلبية فإنه كذلك يشمل الأعمال البدنية وشرائع الإسلام الظاهرة من صلاة وزكاة وصيام، ومما يؤيد هذا المعنى العظيم ورود كثير من الأحاديث المبينة للإيمان، والتي تجمع بين الأعمال القلبية والأعمال البدنية؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد قيس حينما قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "مرنا بأمر فصل نخبر به من ورائنا وندخل به الجنة؟".

 

وسألوه صلى الله عليه وسلم عن الأشربة، فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس..."الحديث..

 

ففسر النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان بهذه الأمور كلها الظاهرة والباطنة؛ وكقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان".

 

فانظر كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحب والبغض في القلب والباطن والعطاء والمنع في الظاهر، جعل ذلك كله من الإيمان، فمحبة المؤمنين ومحبة الصالحين، والفرح بأحوالهم الطيبة، والحزن لما يصيبهم من هم وغم ونصب ولأواء، كل ذلك من الإيمان وبغض الكفار وبغض المنافقين من الإيمان، موالاة المؤمنين الصالحين والفرح بنصرهم وظفرهم كل ذلك من الإيمان والاستبشار بانتصار المنافقين وانتصار الكفار كل ذلك منافي لحقيقة الإيمان.

 

هذا المعنى من أن الإيمان يشمل الأمور القلبية والأمور الظاهرة، هذا المعنى الذي عليه أهل السنة والجماعة في تعريف الإيمان وبيانه مما خالف فيه أهل السنة المبتدعة الذين قصروا الإيمان على مجرد التصديق، فخالفهم أهل السنة، واعتقدوا ما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة من دخول الأعمال كلها في مسمى الإيمان.

 

أيها الإخوة في الله: كم للإيمان الصحيح بمفهومه الواسع الشامل الذي يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح، ونطق اللسان الذي يشمل الدين كله؟

 

كم للإيمان الصحيح لهذا المفهوم الواسع الشامل من الفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة؟

 

كم لهذه الشجرة المباركة شجرة الإيمان من ثمار يانعة، وجنى لذيذ، وأكل دائم، وخير مستمر؟

 

إن هذه الشجرة شجرة الإيمان إذا ثبتت وقويت أصولها، وتفرعت فروعها، واستقرت جذورها في القلوب عادت على صاحبها وعلى غيره بكل خير عاجل وآجل.

 

فمن أعظم ثمار الإيمان الصحيح، متى استقر في القلب، وعمرت به الجوارح: الاغتباط بنيل ولاية الله التي يتنافس فيها المتنافسون، وأجل ما حصله الموفقون، والتي من نالها نال سعادة الدارين: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[يونس: 62- 64].

 

هذه الولاية العظيمة التي يفرح بها المؤمنون، والتي يسر بها عباد الله الصالحون؛ تتضاءل أمامهم كل رتب الدنيا ومباهجنا.

 

ومن ثمرات الإيمان: الفوز برضا الله -عز وجل-، والظفر بدار كرامته: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].

 

وفي الآية الأخرى: (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 72].

 

فنال المؤمنون رضا ربهم ورحمته، والفوز بالمساكن الطيبة، نالوا ذلك كله بإيمانهم الذي كملوا به أنفسهم، وأصلحوا به قلوبهم وجوارحهم، وكملوا به غيرهم، وذلك بقيامهم بطاعة الله ورسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

لئن فات المؤمنين ما يفوتهم في الدنيا من متع الدنيا الزائلة ومباهجها الفاتنة، فإنهم لا يفوتهم نعيم الدنيا من راحة القلب، وطيب الحياة، ولا يفوتهم في الآخرة الفوز بنعيم الله، والظفر بجنة الله –عز وجل-، ولئن حصل الكفار والمنافقون من الدنيا ما حصلوا من مباهجها ومفاتنها؛ فإنهم يعيشون في غم دائم، وقلق مستمر، لا يعلمه إلا الله -عز وجل-، وإن ما ينتظر الكفار والمنافقون في الآخرة فعذاب أليم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145].

 

ومن ثمار الإيمان: أن الإيمان الكامل يمنع من دخول النار، وأن الإيمان ولو كان قليلا يمنع من الخلود في النار.

 

ومن الثمرات التي يجدها المؤمن: أن الله -عز وجل- يدفع عنهم جميع المكاره، وينجيهم من الشدائد: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)[الحـج: 38].

 

أي يدفع عنهم كل مكروب، يدفع عنهم شرور شياطين الجن والإنس، ويدفع عنهم الأعداء، ويدفع عنهم المكاره قبل أن تنزل بهم، ويرفعها أو يخففها بعد نزولها، وإن أصاب المؤمنين في الدنيا ما أصابهم من لأواء وضراء، فقد أصاب أنبياء الله ورسله، وخاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- من الأواء والبأساء، والشدة والضراء ما أصابهم، ولكن ذلك كله كان سببا في رفعة درجاتهم في الدنيا، ورفعة درجاتهم في الآخرة.

 

يبتلى الناس على قدر إيمانهم الأمثل فالأمثل، أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، في قصة يونس -عليه الصلاة والسلام- خير شاهد على هذا: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 87-88].

 

أي إذا وقعوا في الشدائد، وأصابهم من الشدائد ما أصابهم، فإن ذلك لا يدوم ولا يستمر، بل عاقبة الشدائد الفرج القريب، والنصر والمؤكد لا محالة، ننجيهم كما أنجينا يونس -عليه السلام-.

 

إن المؤمن التقي ييسر الله أموره، وييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويسهل عليه الصعاب، ويجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.

 

إن المؤمن مهما أصابته الشدائد لا يقنط من رحمة الله -عز وجل-، ففرج الله قريب، ونصره آت لا محالة.

 

إن الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا من نصيب المؤمنين: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[النحل: 97].

 

إن من خصائص الإيمان التي حرمها الكفار والمنافقون: أن الإيمان يثمر طمأنينة القلب، يثمر راحة القلب، يثمر انشراح الصدر، وقناعة العبد بما رزقه الله، وعدم تعلقه بغير مولاه، وهذه –والله- هي الحياة الطيبة التي من حرمها فهو المحروم حقا، ومن نالها فهو السعيد صدقا.

 

ومن ثمار الإيمان وأعظم فوائده: أن صاحب الإيمان يهديه الله إلى الصراط المستقيم، يهديه إلى علم الحق والعمل بالحق، يهديه الله -سبحانه وتعالى- إلى تلقي المسار بالشكر، وتلقي المكاره والمصائب بالرضا والصبر: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)[يونس: 9].

 

(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن: 11].

 

قال علقمة بن قيس: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم".

 

لأنه يعلم أن ما قدر الله على عبده من البلايا والمصائب فهو خير له، تكفير لسيئاته، ورفعة لدرجاته، ولا يزال البلاء ينزل بالمؤمن حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة.

 

أيها الإخوة في لله: لو لم يكن من ثمرات الإيمان إلا: أنه يسلي صاحبه عند المصائب والمكاره، والتي تكون على كل شخص، بل والتي يكون كل شخص عرضة لها في كل وقت، لو لم يكن من ثمرات الإيمان إلا أنه يسلي صاحبه حينئذ، لكان ذلك أعظم باعث إلى الإيمان ولزومه.

 

إن حلاوة الأجر تخفف مرارة الصبر: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ) ولكن الفارق: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ)[النساء: 104].

 

إنك تجد اثنين تصيبهم مصيبة واحدة أو متقاربة؛ من موت عزيز، أو مرض شديد، أو ابتلاء في مال، أو بدن، أو سجن، أو طرد، أو تهجير، أو تشريد، أو نحو ذلك من المصائب التي يقدرها الله على عباده، وأحدهما عنده إيمان، والآخر فاقد للإيمان، إنك تجد الفرق عظيما بين حاليهما، في تلقي المصيبة، والصبر عليها، وذلك راجع إلى الإيمان والعمل به.

 

تأمل قصة يعقوب -عليه السلام-، فهي مثال حي على هذه الحقيقة، لولا أن يعقوب -عليه الصلاة والسلام- كان عنده من الإيمان ما يهون عليه مصيبته في فقد حبيبه يوسف مع شدة حبه العظيم له، بحيث قال لإخوته لما طلبوا منه يوما من الأيام أن يذهب معهم بعض يوم ليرتع ويلعب، فقال: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ)[يوسف: 13].

 

فأخبر أن المانع لهم من إرساله أنه لا يصبر على فراقه، ولا ساعة من نهار، ولكنهم عالجوه، وذكروا له الأسباب التي توجب أن يرسله معهم، فأرسله معهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

 

فمن هذا حبه البليغ لولده الذي لا يمكن أن يعبر عنه هل يدخل في الذهن أنه يبقى هذه المدة الطويلة بعد فقده على الوجود؟

 

بل يغلب على الظن أن الحب يفتت كبده بأسرع وقت، ولكن قوة الإيمان، وقوة الرجاء بالله، وثقة الله بوعده، ونصره؛ أوجب ليعقوب -عليه السلام- أن يتماسك كل هذه المدة الطويلة، حتى جاء الله بالفرج الذي وعد الله به المؤمنين.

 

إنه الإيمان المثبت عند الشدائد، المسلي عند المصائب، المقوي إذا وهنت القوى، والمعزي إذا عزى العزى.

 

فنسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا جميعا إيمانا صادقا، نثبت به عند الشدائد والمصائب، ونقطع به الفيافي، إن ربنا على كل شيء قدير.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)[الكهف: 107-108].

 

بارك الله لي ولكن في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها الإخوة في الله: إن من الثمار العظيمة التي يجنيها المؤمن: ما أخبر الله -عز وجل- عنه بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) [مريم: 96].

 

أي بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحة يحبهم الله، ويجعل لهم المحبة في قلوب المؤمنين، ومن أحبه الله وأحبه المؤمنون من عباده حصلت له السعادة والفلاح، والفوائد الكثيرة؛ من محبة المؤمنين، من الثناء والدعاء له، حيا وميتا، والاقتداء به، وفي أحداث التاريخ شواهد عديدة على ذلك.

 

"إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ".

 

إن من أحبه الله -عز وجل- لا تستطيع قوى الكون كله أن تحرم هذا العبد من محبة عباد الله له، ولو حاولوا تشويه صورته، وتشويه سمعته، فإن الله -عز وجل- كما قال في هذه الآية الكريمة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)[مريم: 96].

 

سيجعل لهم من عباده من يحبهم ويواليهم وينصرهم ويدعو لهم: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا).

 

إن أهل الإيمان والعلم يرفعهم الله في الدنيا والآخرة، فهم أعلى الخلق درجة عند الله وعند عباده في الدنيا والآخرة؛ كما أن المؤمنين مبشرون من ربهم -عز وجل- بكرامته سبحانه، والأمن التام من جميع الوجوه: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223] حيث أطلق الله -عز وجل- في هذه الآية الكريمة هذه البشارة: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223] ولم يذكر ما يبشرون به بل أطلقها، فقال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[البقرة: 223] لتعم هذه البشارة الخير العاجل والآجل.

 

وقيدها سبحانه في آية أخرى: (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)[البقرة: 25].

 

وقال عز وجل موضحا ما يحصل لهم من الأمن التام: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].

 

فهو أمن من سخط الله، أمن من عقاب الله، أمن من جميع المكاره والشرور، إنها البشارة الكاملة بكل خير في الدنيا والآخرة: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)[يونس: 64].

 

ولا يعني ذلك كله أيضا -أيها المؤمنون- أن المؤمنين في الدنيا لا يصيبهم ما قدر الله، وكتب عليهم، من بلاء ومحنة وشدة ولأواء، فقد حصل لخيرة خلق الله أنبياء الله ورسله ما حصل لهم من الشدة، قتل من أنبياء الله من قتل، وأوذي من أوذي، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتمهم وسيدهم، حصل له من الأذى الجسدي والنفسي ما حصل له، قيل عنه ساحر، وقيل عنه كاهن، وقيل عن ما أتى به: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون: 83].

 

سعيا لتشويه صورته وتشويه سمعته، لكن الله يأبى إلا أن يتم نوره، ويظهر كلمته، ويعلي كلمته، وينصر رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-.

 

تأمروا على قتله رغبة في القضاء على هذا الدين الذي أتى به ولكن قدر الله نافذ، فذهب من ذهب ممن حاول أن يتصدى لهذا الدين، وبقى هذا الدين قرونا طويلة إلى زماننا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يحاولون أن يطفؤوا نور الله، ولكن الله متم نوره، وناصر عباده، وممكن لأوليائه الصالحين.

 

إن البلاء ينزل بالمؤمنين وهي سنة كونية سنة قدرية: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ)[البقرة : 214].

 

من شدة ما نزل بهم من بأساء ولأواء وضراء: (مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)[البقرة: 214].

 

لقد حصل لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما حصل من أذى كفار قريش، وأذوا وعذبوا، وصب عليهم العذاب صبا، يأتي الخباب بن الأرت -رضي الله عنه وأرضاه- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس بجانب الكعبة، يقول: يا رسول الله ألا تنظر إلى ما حصل بنا، ألا تنظر إلى ما حل بنا من أذى الكفار؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه....".

 

ثم قال صلى الله عليه وسلم في تلك الظروف الحرجة التي اشتد فيها البلاء على المؤمنين الصالحين، واشتد تآمر الكفار على عباد الله الصالحين؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله -تعالى- والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون".

 

وها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هم الكفار والمنافقون يوجه سهامهم على عباد الله الصالحين، على عباد الله المؤمنين، محاولة منهم لطمس أنوار هذا الدين، محاولة منهم للصد عن هذا الدين، ولكن يأبه الله أن يتم نوره.

 

فيصبح هذا الدين أول دين، وأعظم دين في الانتشار في المعمورة، والمنتسبين له يزيد عن المليار ونصف المليار، يقول صلى اله عليه وسلم مبشرا: "ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله -عز وجل- بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل".

 

لا يأس -أيها الإخوة المسلمون- على ما يصيب المسلمين من فتن من قبل الكفار والمنافقون، فهذا طريق الأنبياء والمرسلين، ولكن العاقبة للمتقين، العاقبة لمن ينصر دين الله: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47].

 

فنسأل الله بمنه وكرمه نسأله بأسمائه العلي وصفاته العلى أن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه وعباده الصالحين؛ إن ربنا على كل شيء قدير.

 

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

وقال عليه الصلاة والسلام: "من صل علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا".

 

اللهم صل وسلم وبارك...

 

 

 

المرفقات

ثمار الإيمان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات