عناصر الخطبة
1/ كمال الشريعة الإسلامية وشمولها 2/ ما ترك الإسلام خيرًا إلا دل عليه، ولا شرًّا إلا حذر منه 3/ الوقاية والعلاج من مسالك الشريعة لسلامة المجتمع 4/ بعض السنن النبوية المهمة للسلامة والوقاية من الآفات الاجتماعية 5/ كثرة وقوع الحوادث المفجعة في المجتمع ودلالتها 6/ سبق الإسلام بتشريع أنظمة الدفاع المدني وإجراءاته الوقائية.اقتباس
هذه نماذج من أمثلةٍ كثيرة حرص فيها الشرع على توقي أسباب الهلكة وأسباب الضرر, وهي في الواقع أصولٌ بل هي سابقةٌ لما يُعرف اليوم بأنظمة الدفاع المدني وإجراءاته الوقائية، إنها ليست مجرد أحاديث نقرأها، ولا أحاديث نرفع الرأس ونشمخ بها لوجودها في سُنة النبي -عليه الصلاة والسلام- فحسب, هذا كله حقٌ ومطلوب, لكن المهم: هو امتثال هذه الآداب, ومراعاة هذه الإرشادات؛ لأن الإنسان حينما يفعلها فإنما يفعلها ديانةً هذا في المرتبة الأولى, ويفعلها ثانيةً وقايةً؛ لأن الله -تعالى- استأمنه على هذا البدن, .. فلا يحق له أن يُصرِف شيئًا منه, أو أن يُهمِله, أو أن يتركه, أو أن يتعامل معه في غير ما أمر الله -عز وجل- به أو أباحه.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين... أما بعد:
فأوصيكم ونفسي أيها المسلمون بتقوى الله -عز وجل-.
أيها المؤمنون: حين يقرأ المؤمن قول أبي ذر -رضي الله تعالى- عنه: «تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما طائر يطير بجناحيه إلا عندنا منه علم» (صحيح ابن حبان برقم: 65).
حين يقرأ المؤمنُ هذا الحديث يُدرك أن هذه الشريعة شاملة, وأن هذا الدين ما ترك خيرًا إلا دل عليه، ولا شرًا إلا حذر منه، وقد يكون هذا التنبيه والتحذير إما على صورة إجمالية وإما على صورة تفصيلية.
لقد جاءت شريعة الإسلام كغيرها من الشرائع مُقرِّرةً لحفظ الأصول الخمسة: "الدين, النفس, العرض, العقل, المال".
فكل ما سبب الاعتداء عليها أو هوّن من شأنها فقد أُغلقت الطُرق دونه, ومن تأمل في نصوص الشرع المُطهر وجد أنها في سبيل حياطة هذه الأصول والضرورات الخمس سلكت مسلكين أساسيين: أولهما: الوقاية.
وثانيهما: هو العلاج بعد أن يقع الأمر, فليكن الحديث في هذا المقام عن الأمر الأول والأسلوب الأول وهو "الوقاية".
فإن شريعة الله -تعالى- جاءت فيها عشرات بل مئات النصوص الوقائية التي تحفظ هذه الضرورات الخمس, وثمة أصولٌ عامة ونصوصٌ خاصة.
أما النصوص العامة ففي مثل قوله -عز وجل-: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)[البقرة:195], وفي مثل قوله سبحانه: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء:29].
هذان الأصلان وما جاء في معناهما شاملان لكل وسيلةٍ تؤدي إلى القتل أو إتلاف النفس أو إيقاعها في الهلكة، أو إيقاعها في الحرج الشديد, وقد قال الله -عز وجل-: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج:78].
أما إن نظرت في الأدلة التفصيلية فإنك واجدٌ من ذلك عجبًا، عجبًا في حرص هذا الدين على أبدان أهله كما حرص على أديانهم، وفي حرصه على عقولهم وأعراضهم وأموالهم، كل ذلك لأنه لا قيام للدين إذا اُنتهكت هذه الضرورات أو تعطلت بعضُ قواها وأسبابها.
نجد في سبيل حفظ العِرض: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى)[الإسراء:32].
ونجد في سبيل حفظ العقل: تحريم شرب الخمر وكل مسكر ومفتر.
ونجد في سبيل حفظ البدن -وهو ما يُعرف اليوم بالدفاع المدني ونحوه من المسميات- أمثلةً مدهشة, لا يملك الإنسان أمامها إلا أن يوقن بتلك القضية الكلية التي أشار لها أبو ذرٍ رضي الله عنه وأرضاه.
ولنأخذ على ذلك جملةً من الأمثلة: فلقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ترك النار موقدة قبل النوم, ففي الصحيحين من حديث أبي موسى: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- ذُكر له بيتٌ احترق على أهله في المدينة, فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم» (البخاري ح: 6294، واللفظ له، ومسلم ح: 2016).
لماذا؟ قال -عليه الصلاة والسلام-: «فإن الفويسقة ربما جرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت» (البخاري ح: 6295، واللفظ له، مسلم ح: 2012، المراد بالفويسقة: الفأرة؛ لخروجها من جحرها على الناس وإفسادها).
ومن ذلك مثلًا: حفظ الأولاد وخصوصًا قُبيل غروب الشمس، وهو وقتٌ يُهمله كثيرٌ من الناس, ففي الصحيح من حديث جابر -رضي الله تعالى- عنه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا استجنح الليل، أو قال: جنح الليل؛ فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم، وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله، وخمر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئا»(صحيح البخاري ح:3280).
فانظروا كم يُهمل كثيرٌ من الناس هذه الساعة من النهار والتي يكثر فيها لعبُ الصبيان، ثم يتساءل بعض الناس عن سبب الأذى الذي لحق هذا الطفل أو ذاك! إنه مخالفة الهدي النبوي.
ومن ذلك أيضًا: أمر الشرع بالتوقي من مخالطة المرضى أيًّا كانت أمراضهم، وإن ذلك لا ينافي التوكل، بل هو أحد الأسباب التي من كمال التوكل الأخذ بها, ففي الصحيح من حديث أسامة رضي الله عنه قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها»(متفق عليه)، وفي الصحيحين أيضًا: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد»(متفق عليه).
وهذه الأحاديث وأمثالها أصلٌ لما يُعرف اليوم بالحجْر الصحي.
ومن ذلك أيضًا أيها الإخوة: الأمر بنفض الفراش حينما يأوي الإنسانُ إلى نومه, ففي الصحيحين عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه، وليسم الله، فإنه لا يعلم ما خلفه بعده على فراشه...» (متفق عليه).
قد تكون أتت دويبةٌ أو أتى شيءٌ يؤذي، وهذا قد يكون في البيوت السابقة أكثر، لكن هذا لا ينفي وقوعه في مثل هذه الأزمان، وقد جرب الناس بركة هذا الهدي النبوي الكريم.
ومن الأمثلة التي تدخل ضمن التصنيف الوقائي لهذه الأمور: قوله -عليه الصلاة والسلام- موصيًا أهل السفر, ولكم أن تتصوروا صور القوافل وهي تريد أن تأوي إلى النوم بعد مسير مضنٍ وطويل! فقال -صلى الله عليه وسلم-: «...إذا عرّستم بالليل، فاجتنبوا الطريق، فإنها طرق الدواب، ومأوى الهوام بالليل»، والتعريس: هو النزول في أواخر الليل للنوم والراحة، فانظروا عباد الله كيف يحرص الإسلام على هذه الإجراءات الوقائية.
ومن الأمثلة أيضًا: ما جاء في الصحيحين من حديث جابر أيضًا قال -عليه الصلاة والسلام-: «وأغلق بابك واذكر اسم الله، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله، وخمّر إناءك واذكر اسم الله، ولو تعرض عليه شيئا»(متفق عليه)، أوكِ: يعني أحكم إغلاقها، ومن عاش فترةً وأدرك الكرب أدرك صورة هذا الهدي النبوي.
هذه أيها المسلمون نماذج من أمثلةٍ كثيرة حرص فيها الشرع على توقي أسباب الهلكة وأسباب الضرر, وهي في الواقع أصولٌ بل هي سابقةٌ لما يُعرف اليوم بأنظمة الدفاع المدني وإجراءاته الوقائية، إنها ليست مجرد أحاديث نقرأها، ولا أحاديث نرفع الرأس ونشمخ بها لوجودها في سُنة النبي -عليه الصلاة والسلام- فحسب, هذا كله حقٌ ومطلوب..
لكن المهم: هو امتثال هذه الآداب, ومراعاة هذه الإرشادات؛ لأن الإنسان حينما يفعلها فإنما يفعلها ديانةً هذا في المرتبة الأولى, ويفعلها ثانيةً وقايةً؛ لأن الله -تعالى- استأمنه على هذا البدن, واستأمنه على هذا العقل, واستأمنه على هذه النفس, واستأمنه على العِرض, واستأمنه على المال, فلا يحق له أن يُصرِف شيئًا منه, أو أن يُهمِله, أو أن يتركه, أو أن يتعامل معه في غير ما أمر الله -عز وجل- به أو أباحه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم ليّ ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...أما بعد:
فما سمعناه في الخطبة الأولى إنما هو نماذج قليلة من أحاديث كثيرة أظهرت عناية الشريعة بأهلها, وأظهرت سبقها لكل أنظمة الدفاع المدني العالمي اليوم, وهذه محصلةٌ إيمانيةٌ مهمة، وهي تزيد المؤمن يقينًا بشمول هذا الدين وعظمته, وشمول أحكامه وآدابه لكل ما يتعامل معه الإنسان في يومه وليلته, ويزداد يقينه بأن هذا الدين ما ترك خيرًا إلا دلّ عليه، ولا شرًا إلا حذّر منه, فاتقوا الله عباد الله وخذوا بآداب دينكم تسلموا وتغنموا.
أيها الإخوة: إن الأخبار لا تكاد تنفك عن نقل ما يدمي القلب, وما يُحزن النفس من ضحايا لإهمال أمثال هذه التوجيهات النبوية، وإهمال التوجيهات الصادرة من الجهات المعنية بالوقاية والسلامة، والحفاظ على هذه الأشياء التي ليست ترفًا! بل هي من الدين كما أشرنا إلى ذلك في الخطبة الأولى.
ذكرتْ إحصائيةٌ قريبةٌ للدفاع المدني في عاصمة بلادنا: أن سبعة وستين بالمائة من أسباب الحرائق التي تحصل في البيوت هي بسبب الكهرباء وما يتعلق بالتمديدات والتوصيلات والأسلاك المستعملة في الأدوات الكهربائية أو الوصلات للشواحن وأمثالها, وثلاث عشرة بالمائة من أسباب الحرائق نتجت بسبب الغفلة وإهمال مراقبة الأطفال.
هذه نماذج كارثية -أيها الإخوة- حينما تسمع أن هناك أكثر من ألفي حادث في سَنة واحدة! وفي مدينة واحدة! إن هذا قدَرٌ بلا شك؛ لكننا مأمورون بالتوقّي, ومأمورون بمراعاة هذه التوجيهات النبوية, والتوجيهات التي تصدر من الجهات المعنية.
خذوا أمثلةً على ذلك من واقعنا: هذا حريق يحصل بسبب إهمال ترك النار في المُلحق أو في الخيمة بحجة أنه لا يوجد أحدٌ هناك وأن الناس غادروا المكان! وهذا خطأ, فالحديث صريح الذي ذكرناه آنفًا: «إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم».
ومثال آخر:
تترك المسابح المنزلية أو المسابح الموجودة في الاستراحات مفتوحة، ثم يُفجع أهل البيت بموت طفلٍ أو انجرافه في هذا الماء, أو يقع الغرق أحيانًا بسبب ما يُنقل ويُرى من مغامرات بعض الشباب هداهم الله، حينما يسمعون بسيلان بعض الأودية فيغامر أحدُهم بسيارته ويظن أنه ناجٍ كما نجا غيره! ولا يتصور أنه قد يهلك كما هلك غيرُه.
كذلك أيضًا: تُنقل لنا صورٌ دامية في أيام الأعياد وغيرها من الأفراح من التشوهات التي تلحق أجساد الأطفال وغيرهم بسبب العبث بالألعاب النارية وغيرها.
ومما يُلحق بذلك أيضًا: ترك العقاقير الطبية والعلاجات بين أيدي الأطفال, وتزداد الخطورة حينما تكون تلك الجرعات الطبية ذات أثرٍ عظيم، كبعض الأدوية التي تُصرف في حالاتٍ خاصة.
فانظروا يا عباد الله وتأملوا كم يحصل بإهمال هذه الإرشادات الشريفة من الشريعة المُطهرة من ضرر, فاتقوا الله أيها المسلمون، ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولا بأيدي من ولاكم الله -تعالى- أمرَهم؛ فإن حياطة هذه الأصول الخمسة والضرورات الخمسة دينٌ يتدين الإنسانُ به, كما أنه موافقٌ للفطرة التي فطر الله الناس عليها.
اللهم كما هديتنا لهذا الدين اللهم يا حي يا قيوم أمتْنا عليه راضيًا عنا, اللهم يا حي يا قيوم واحفظنا في أنفسنا واحفظنا في أعراضنا واحفظنا في عقولنا واحفظنا في أبداننا واحفظنا في أدياننا واحفظنا في أموالنا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم