اقتباس
وإذا كان أحمد بن طولون قد سخر مواهبه وذكاءه لتأسيس أول أسرة حاكمة مستقلة في تاريخ مصر الإسلامية، فإن ابنه خمارويه قد سخر حياته وموارد البلاد التي ساقه القدر إلى حكمها، ونفوذ الأسرة الحاكمة التي..
من مسلمات المنهج الإسلامي أنّ حركة الوجود الإنساني تخضع لسنن ونواميس إلهية محكمة ضابطة لحركة الوجود الإنساني، ولقد طرح القرآن الكريم منظومة السنن التي تحكم حركة الوجود حفظاً له من الفوضى والفساد، وعرضها جملة وتفصيلاُ، كلية وجزئية، ليتم البلاغ الإلهي بخصوص هذا الأمر الهام في حياة الأمم والدول، ولما كان عمران الأرض مقصداً من مقاصد الرسالات السماوية، كانت سنن المداولة والمدافعة والاستبدال والاستدراج وغيرها من السنن الحضارية هي الحاكمة على الواقع، ومن ثم فإن المسيرة الحضارية للأفراد والأمم محكومة بهذه السـنن والقوانين المضطردة وهي سـنن محايدة (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)[الإسراء:20].
والسنن منها ما هو جزئي وهي السنن المحايدة التي تعطي صاحبها بقدر ما يتعاطها ويباشرها بصورة صحيحة، ومنها ما هو كلي، وهي السنن التي جعلها الله مفتاحاً لقيام الحضارات بمفهومها الشامل كسنة الإيمان (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ)[الأعراف:96].
ولا غنى للسنن الجزئية عن السنن الكلية، ولا غنى للسنن الكلية عن السنن الجزئية، فحضارة تؤمن بالله ولكنها لا تكتشف سنن الآفاق والأنفس -وهي سنن جزئية- هي حضارة عاطلة؛ وحضارة تستنطق السنن الجزئية يوماً بعد يوم -كالحضارة الغربية- دون أن تهتدي للإيمان الصحيح -وهو سنة كلية- هي حضارة تائهة، ضارة لنفسها نافعة لغيرها عند اكتشافها لسنن الرقي المادي.
وهذا يعني أن لهذه الدنيا مقاييسها التي تجري على المؤمن والكافر، وفي كل أمر جعل الله له في هذا الكون سنة يجري عليها؛ والإنسان مهما تكن عقيدته ومهما تكن نيته وباعثه يمكن أن يستثمر هذا الكون ويستفيد من هذه السنن.
ومن أعظم الحوادث البشرية؛ سقوط الأمم والحضارات، إذ أن السقوط عادة ما يكون مصحوباً بكمّ كبير من الدروس والعبر والعظات، فالسقوط الأممي غالباً ما يكون لأسباب داخلية أكبر وأعمق من الأسباب الخارجية، والواقع أن السبب الخارجي يكون عادة هو المسمار الأخير في نعس الدول والممالك الزائلة، بعد أن نخرتها وهدمتها الأسباب الداخلية. وسقوط الأمم والحضارات من أكبر دروس التاريخ وأعظم تجاربه وأبلغ عظاته، فالموت نهاية كل شيء حتى بالنسبة للأمم والحضارات، فليس ثمة أمة أو دولة أو مملكة سقطت وعادت مرة أخرى.
وأسباب سقوط الحضارات في الرؤية الإسلامية ترجع إلى الإنسان وإرادته، وهذا يجيئ امتداداً لنظرية استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها وتحقيق العبودية لله عليها، وقد سخر الله كل ما في الكون للإنسان ليعينه على أداء دوره، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِم)[الأنفال: 53]؛ أي أنّ الله لا يزيل ما بقوم من العافية والنعمة والرخاء والهناء ويبدلها بالآلام والأمراض والنوازل والفتن والأحداث وغيرها من ضروب العقاب الرباني حتى يزيلوا هم ويغيروا فيجحدون النعمة ويعلنون الكفر والمعاصي ويتمردون على سنن الله في إسعاد البشر ويتظاهرون بالفحش والمنكر والفساد، فتكون النتيجة أن تحل بهم قوارع الدهر وينزل بساحتهم عذاب من الله.
ويعتبر "الترف" من أهم أسباب سقوط ودمار الأمم والحضارات السابقة، وإنما اكتسب أهميته في المقام الأول من كون الوحي السماوي قد نصّ عليه صراحة في غير ما آية كسبب مباشر للانهيار والسقوط، ومحذرة من عواقب الترف والمترفين، هذا غير المحصول النبوي الوافر في هذا الباب، والمشاهدات المتواترة الكثيرة والمتنوعة من عرب ومن عجم سقطت دولهم وممالكهم من أثر الترف والتلف الأخلاقي والسلوكي.
وقد حذر من الترف مفكرو كل قوم وعقلاؤهم؛ لما يتركه من آثار وخيمة على المجتمعات والأمم؛ يقول المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت في بحثه عن أسباب انهيار الحضارة اليونانية: "سرت في جميع بلاد اليونان موجة من نقص المواليد، ومن قلة السكان تبعاً لهذا النقص، نشأ عنها أن أقفرت المدن من السكان، وأجدبت الأرض فلم تعد تخرج ثمرها؛ ذلك أن الناس قد انغمسوا في الترف والبخل والكسل.. ".
كما أرجع ديورانت سقوط دولة البطالمة في مصر في يد روما؛ نتيجة لحالة الانغماس في الترف التي عمت البلاد حيث يقول: "بدأ الانحلال يدب في كل شيء، فانتقل البطالمة من الرذائل الطبيعية إلى الرذائل غير الطبيعية، ومن الذكاء إلى الغباوة، وانطلقوا يتزوجون بلا قيد وبسرعة أفقدتهم احترام الشعب، وانغمسوا في الترف انغماساً أعجزهم عن إدارة دفة الحرب أو الحكم... حتى جاء قيصر فاستولى على مصر من غير عناء، في عام 30 ق. م ".
وكما أثر الترف في الحضارات والأمم السابقة وأدى في النهاية إلى سقوطها وانهيار انجازاتها واندرست معالمها، فإنه قد أثر في أمة الإسلام تأثيراً أشد وأمضى من الأمم السابقة؛ فعن تأثير الترف في سقوط دولة الإسلام في الأندلس، يقول المؤرخ الأوروبي كوندي: "العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاؤوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات".
ويضيف المؤرخ الإسلامي الكبير شوقي أبو خليل: "والحقيقة تقول: إن الأندلسيين في أواخر أيامهم ألقوا بأنفسهم في أحضان النعيم، وناموا في ظل ظليل من الغنى والحياة العابثة والمجون، وما يرضي الأهواء من ألوان الترف الفاجر، فذهبت أخلاقهم كما ماتت فيهم حمية آبائهم البواسل، الذين كانوا يتدربون على السلاح منذ نعومة أظفارهم، ويرسلون إلى الصحراء ليتمرَّسوا على الحياة الخشنة الجافية وغدا التهتك والإغراق في المجون، واهتمام النساء بمظاهر التبرج والزينة والذهب واللآلئ. لقد ديست التقاليد وانتشر المجون، وبحث الناس عن اللذة في مختلف صورها... ".
وسوف نعرض لمثال جلي للسقوط الأممي في التاريخ الإسلامي بسبب الترف والفساد الأخلاقي الذي كان عليه بعض حكام المسلمين، وكيف كان مصيرهم ومصيرهم دولهم وممالكهم بسبب الترف والانحراف الأخلاقي. وهو خمارويه الطولوني.
نشأة الدولة الطولونية:
تعتبر الدولة الطولونية التي أسسها الأمير التركي أحمد بن طولون أول دولة مستقلة عن عباءة الدولة العباسية يؤسسها الأمراء الأتراك الذين كانت بداية ظهورهم مع الخليفة العباسي المعتصم بالله الذي استقدمهم من بلاد ما وراء النهر ليستبدلهم بالعنصر الفارسي الذي كان يخطط ويحلم باستعادة أمجاد كسرى وهدم الخلافة السنية، وكان المعتصم بفعلته هذه كالمستجير من النار بالرمضاء؛ إذ كان قدومهم وبالاً على الدولة العباسية من الأسباب المبكرة لسقوط الدولة العباسية ووفاتها أكلينيكاً.
حكم أحمد بن طولون دولته التي شملت مصر والشام من سنة 254 ه حتى سنة 270 ه، وكان شديد العزم وافر الإقدام، طموحاً لدرجة كبيرة، يضع رأسه برأس الخلفاء ويرى نفسه أحق منهم، وبالفعل كان خليقاً بالإمارة، ميمون الراية، نادراً ما يُهزم في معركة، جدد نشاط الغزو الإسلامي ببلاد الروم، جاداً في أموره كلها، ديّناً في الجملة، ولكنه كان مستبداً شديداً في التعامل مع خصومه.
وُلد خمارويه بن أحمد بن طولون في المحرم من سنة 250 ه، قبل أن يؤسس أبوه دولته المستقلة ذاتياً عن الدولة العباسية، وإذا كان أحمد بن طولون قد سَخر مواهبه وذكاءه لتأسيس أول أسرة حاكمة مستقلة في تاريخ مصر الإسلامية، فإن ابنه خمارويه قد سخر حياته وموارد البلاد التي ساقه القدر إلى حكمها، ونفوذ الأسرة الحاكمة التي أقامها أبوه لإشباع رغباته الشخصية في المتعة والترف، ومظاهر العز التي استنفدت موارد البلاد، وأرهقت العباد، وأطاحت بحكم أسرته.
تولى خمارويه الحكم بعد وفاة والده أحمد ابن طولون سنة 270 ه، وكانت لديه ثروة هائلة من الذهب والجواهر والفضة بالإضافة إلى أربعة وعشرين ألفا من المماليك وسبعة آلاف من الموالي الذين أعتقهم أبوه، هذا سوى آلاف الخيل ومئات المراكب الحربية مع جيش قوي تمكن به والده ابن طولون من بسط نفوذه ما بين ليبيا إلى الجزيرة الفراتية. وكان حري بمن كان عنده كل هذا المال والجاه والسلطة والقوة أن يسير على درب أبيه فيوسع دولته أو على الأقل يحافظ على حدودها الواسعة، ولكن حب الترف والبذخ الشديد والانغماس في المحرمات ومساوئ الأخلاق قاده إلى أسوأ مصير.
مظاهر البذخ والترف في عهد خمارويه
ورث خمارويه عن أبيه ثروة هائلة، لم يتعب في جمعها، فأهلك نفسه في تبديدها بسبب غرامه بالترف؛ فحب خمارويه للترف أبرز ما يميز تاريخه البئيس، وهو السبب في قتله مذبوحا على سريره الفاخر. ونعرض هنا أبرز مظاهر ترف خمارويه:
1- بستان خمارويه: بدأ خمارويه حكمه بتوسيع قصر أبيه والزيادة فيه، وحول الميدان الكبير المجاور للقصر إلى بستان رائع زرع فيه أنواع الرياحين والأزهار وأصناف الشجر ونقل إليه الأشجار النادرة، وتفنن في تزيين أشجار النخل فكساها نحاسا مذهبا جميل الصنعة وجعل بين النحاس وأجساد النخيل مواسير من الرصاص أجرى فيها الماء وأوصل تلك الأنابيب الى البستان لتسقي أشجاره.
ثم أوكل للبستانية مهمة تشذيب الأشجار والريحان؛ لتكون على شكل نقوش وكتابات، وكان البستانية يتعهدونها بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة وتظل بنفس الشكل المنسق والعبارات المنقوشة، واستورد للبستان نباتات ملونة من فارس وإيطاليا وكان عنده خبراء في تطعيم شجر المشمش باللوز وغير ذلك. كما جمع في هذا البستان كل نادر وعجيب من طيور الزينة خاصة الطواويس الملونة.
2- قصر خمارويه: أقام خمارويه له قصرا كان من أعجب مباني الدنيا؛ حيطانه كلها مطلية بالذهب واللازورد في أحسن نقش وأظرف تفصيل، وازدانت تلك الحيطان بصورة خشبية بارزة لصور محظياته من المغنيات في أحسن تصوير وجعل على رؤوسهن أكاليل الذهب الخالص والجواهر، وتلونت أجسامهن في الحيطان بثياب وأصباغ عجيبة جعلتهن كأن الحياة تطل منهن.
وفي وسط قصره أنشأ فسقية عبارة عن بركة واسعة مساحتها خمسون ذراعا في خمسين ذراعا، وملأها بالزئبق وجعل أركان البركة سككا من الفضة الخالصة، وجعل فيها مقاطع من حرير فيها حلق من فضة، وجعل له فرشا محشوا بالهواء المضغوط منتفخا محكم الشد والقفل، ويلقي ذلك الفرش المنتفخ على مقاطع الحرير ويشد بحلق الفضة، فوق سكك الفضة التي تعلو سطح الزئبق الرجراج، وهكذا جعل له سريرا يرتج بارتجاج الزئبق لينام عليه كأنه يسبح في الهواء. وفي الليالي المقمرة كان نور القمر ينعكس على سطح البركة الزئبقي فكان يرى لها منظر عجيب أخاذ، فكانت تلك البركة من أعظم ما عرف.
وقد بنى في هذا القصر حديقة للحيوانات المفترسة من سباع ونمور وفهود، حيث كان مولعاً بالصيد والسباع والكلاب، وقد تفنن في بنائها على الطراز الروماني القديم وأحضر للسباع ساسة من بلاد الحبشة، والرواية التاريخية لحديقة السباع في قصر خمارويه تكشف مدى الأموال الطائلة التي أنفقها عليها، وكان من جملة تلك السباع أسد أزرق العينين سماه خمارويه زريق، وقد استأنس خمارويه ذلك الأسد فأصبح مطلق السراح يسير في القصر لا يؤذي أحدا ويصاحب سيده في جولاته، فإذا وضعت لخمارويه مائدته أقعد ذلك الأسد بين يديه فيرمي له بالدجاج واللحم فيأكل معه، كان ذلك الأسد يحرس خمارويه في نومه يربض بين يديه في السرير ولا يغفل عن حمايته فلا يقدر أحد أن يدنو من خمارويه طالما قبع زريق أمام سريره، مثل كلاب الحراسة.
ومن أعجب الحكايات التي رواها المؤرخون عن هذا الحاكم اللعوب المترف، أن أباه "أحمد بن طولون" كان قد بنى قرب مجلسه حجرة، يجلس فيها رجال أسماهم "المكبرين"، عددهم اثني عشر رجلا: يبيت منهم بالتناوب أربعة رجال في كل ليلة يتعاقبون الليل نوبا يكبرون، ويسبِحون، ويحمدون، ويهللون، ويقرأون القرآن، ويتوسلون بقصائد زهدية، ويؤذنون في أوقات الأذان. وعندما تولى خمارويه الحكم أبقى على أولئك المكبرين؛ ولكن العجيب أنه كان يجلس مع ندمائه لشرب الخمر بين محظياته والمغنيات، يستمع إليهن ويشاهد رقصهن، في الوقت الذى كان فيه المكبرون مستمرين في أداء واجبهم. وقد لخص لنا المؤرخ تقي الدين المقريزي في كلمات ساخرة الصورة التي كانت تضج بالتناقض بين المجلسين: "وكان يجلس للشراب مع حظاياه في الليل، وقيناته تغنيه، فإذا سمع أصوات هؤلاء يذكرون الله، والقدح في يده، وضعه على الأرض وأسكت مغنياته، وذكر الله معهم أيضا حتى يسكت القوم، لا يضجره ذلك ولا يغيظه بعد أن قطع عليه ما كان فيه من لذته بالسماع".
من ناحية أخرى، كان ذلك الحاكم المتباهي مولعا بالتظاهر بالعظمة الزائفة؛ فقد كان يحاول أن يصطنع لنفسه مهابة كانت همته القاصرة لا توفرها له. فاتخذ لنفسه حرسا يسير في موكبه من رجال اشتهروا بالشجاعة والبأس، وكان من ضمن حرسه ألف جندي أسود لهم درق من حديد محكم الصنعة، وعليهم أقبية سود وعمائم سود؛ فيخالهم الناظر بحرًا أسود يسير لسواد ألوانهم وسواد ثيابهم؛ وبعدهم بمسافة يأتي على فرسه وحوله حرسه الشخصي.
هذا الترف ترك أثره على خمارويه من اليوم الأول لحكمه، فرغم أن كنيته "أبو الجيش" إلا إنه لم يكن يثبت في الحروب فُواق ناقة، فقد كان شر خلف لخير سلف في الحروب، فأبوه كان أسطورة الحروب في عصره، لم يُهزم قط في معركة، إلا إن خمارويه كان أجبن من نعامة، خرج أول ولايته في سبعين ألف ليقاتل جيشاً عباسياً يقدر بأربعة آلاف فلم يثبت في القتال ساعة وانهزم منه سريعاً، وقرر بعدها أن يشتري سلامته بالمال والمصاهرة.
طلب خمارويه الصلح من الموفق العباسي وعمل على إرضائه بالأموال حتى اعترفت به الدولة العباسية واليا على مصر والشام ثلاثين عاما فانطلق خمارويه في حياة الترف ثم مات الموفق والمعتمد العباسي وتولى المعتضد المعروف بقوة شكيمته فخشي خمارويه أن ينغص عليه حياته المترفة، فأرسل إليه بالهدايا والأموال فجدد المعتضد لخمارويه عقده بالولاية ثلاثين عاما من الفرات إلى برقة في مقابل أن يؤدي مائتي ألف دينار عن كل عام مضى وثلاثمائة ألف عن كل عام سيأتي.
وأراد خمارويه أن يطمئن على مستقبله أكثر حتى يستريح بالا ويقبل على ملذاته بنفس لا تعرف الهموم فطلب أن يتزوج ابن المعتضد وولى عهده من ابنته قطر الندى، ورفض المعتضد أن يتزوج ابنه المكتفي قطر الندي حتى لا يسيطر خمارويه وابنته على ولي عهده ومستقبل الخلافة العباسية، وطلب أن يتزوج هو نفسه قطر الندى، فكان جهاز "قطر الندى" مضرب الأمثال عبر العصور على البذخ والسرف والترف غير المسبوق، وفعلا كان جهاز قطر الندى من نوادر التاريخ، وأضيفت جواهره ونفائسه إلى خزانة الخلافة العباسية. ووصلت قطر الندى إلى الخليفة المعتضد في شهر محرم سنة 282. وطابت نفس خمارويه بتلك المصاهرة وأعلن لنفسه وهو في دمشق أنه آن له الآوان لكي يتفرغ للهو واللعب بدون مناوشات مع الدولة العباسية.
ولأن البذخ لا ينتهي بصاحبه عند حد، ولأن الترف مطغي، يقود أهله إلى الجنوح والشطط، فإن خمارويه سار في طريق الهاوية إلى النهاية، فقد قاده الترف للبحث عن لذات جديدة بعد أن حصّل كل لذة معروفة، فإذا به يجد لذته في أفحش الفواحش وأشدها قبحاً؛ اللواط، وفاحت رائحة فواحشه وأزكمت الأنوف، فكان فيها قضاء نحبِه ومصرعه بأبشع صورة.
فقد دخل الحمام يوماً وأراد الفاحشة بشاب من الخدم فامتنع الخادم، فأمر خمارويه بقتله بأبشع الصور، وظلوا يعذبونه به حتى مزقوا أحشاءه ومات أمام أعين رفاقه من الخدم. قصد خمارويه بذلك أن يجعله عبرة لهم حتى لا يعارضونه في إتيان الفاحشة بأحد منهم مستقبلاً، وعندها صمم الخدم على قتل سيدهم خمارويه، فاستفتوا العلماء دون تعيين فأفتوا بالقتل. ولم يستطيعوا الاختلاء به في قصره بمصر حيث يحرسه الأسد زريق، فصبروا الى أن سافروا معه إلى دمشق، فاختلوا به في قصره في دير مرّان خارج دمشق وذبحوه في شهر ذي الحجة عام 282، وكان في الثانية والثلاثين من عمره. وحُمل الجثمان إلى مصر حيث دفن بها، ولم يحزن عليه أحد.
من الحكام من يدخل التاريخ بسبب مآثره وإنجازاته لصالح أمته؛ ومنهم من يدخل التاريخ بسبب فضائحه وجرائمه؛ كخمارويه.
بمقتل خمارويه تصدع بنيان الدولة الطولونية وأخذت في الانهيار سريعاً؛ فأبناء خمارويه اقتتلوا على الملك من بعده حتى قتلوا بعضهم بعضاً، وما لبثت أن سقطت دولة كانت بدايتها قوية تنذر بطول مدة واتساع مساحة وهيمنة وسيادة؛ فما لبثت أن سقطت وتصدعت أركانها بسبب الترف والبذخ الشديد والانحراف الأخلاقي المشين، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم