اقتباس
فهل كانت أسئلة السابقين واختلافهم على أنبيائهم في المسائل العملية والسلوكية، كلا إنها في المسائل التي لا طائل من ورائها ولا عمل يترتب عليها، واليوم نرى كثيرا من الأحزاب والجماعات وخصوصا التي تتسمى بأسماء تاريخية وتتمسك بصلتها الدينية يتنازعون...
أصاب المسلمين ما أصاب الأمم الأخرى من الأدواء، ومنها داء التفرق الذي جعلهم شيعا وطوائف، متناسين قول الله -تبارك وتعالى-: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم)[آل عمران:105]، وقد استفحل هذا الداء حتى أصاب الأمة الإسلامية بكل مكوناتها؛ فالدول الإسلامية تفرقت وتناحرت ولم يتفقوا حتى على مجابهة أعدائهم، والمجتمعات الإسلامية تناحرت وتنابزت على أتفه الأمور، والمسلمون بعلمائهم تفرقوا واختلفوا وتنازعوا وتقاطعوا وتدابروا، وتناسوا قول الله -تعالى-: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين)[الأنفال:46]؛ فتفرقوا شذر مذر وذهبت ريحهم مع أن السبب الذي يقود إلى هذا قد فصله القرآن وبينه ولكننا لا نقرأ القرآن كما أراد الله.
واليوم نرى المشتغلين بالدعوة إلى الله قد اشتد خلافهم وكثر تفرقهم وما عاد دينهم سبيلا إلى جمعهم، وهذه حالة تستدعى من العلماء الربانيين مواجهتها لأنّ تطاير شررها يؤدي إلى هلاك المجتمعات الإسلامية برمتها، ومن عجيب إضافة إلى ما ذكره القرآن من بيان فإن فحول العلماء المتقدمين قد بينوا ذلك على أوفى بيان، ولكننا -أيضا- هجرنا تراثنا وعاديناه.
فهذا الامام الشاطبي في كتابه الموافقات يضع يده على الجرح داعيا إلى الاستطباب منه فهو يقول في كتابه ذاك: "إن الشارع -الحكيم- قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها، فما خرج عن ذلك قد يُظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية، فإن عامة المشغلين بالعلوم التي لا يتعلق بها ثمرة تكليفية، يدخل عليهم فيها الفتنة، والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع، والتدابر، والتفرق، حتى يتفرقوا شيعا، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة، ولم يكن أصل الفرق إلا بهذا السبب، حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني وخرجوا إلى ما لا يعني، فذلك فتنة على المتعلم والعالم"-الموافقات 1/81 بتحقيق الدكتور الحسين آيت سعيد.
وكلامه -رحمه الله- واضح في أن الاشتغال بالمسائل التي لا يترتب عليها عمل يحاسب المرء عليه هو سبب رئيس لهذا الداء، وقد جاء في الحديث ما يكون بيانا لهذا الأمر، فمن ذلك ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذروني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سُؤَالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نَهَيتُكم عن شيء فاجتَنِبُوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
فهل كانت أسئلة السابقين واختلافهم على أنبيائهم في المسائل العملية والسلوكية، كلا إنها في المسائل التي لا طائل من ورائها ولا عمل يترتب عليها، واليوم نرى كثيرا من الأحزاب والجماعات وخصوصا التي تتسمى بأسماء تاريخية وتتمسك بصلتها الدينية يتنازعون ويفترقون ويضلل بعضهم بعضا على مسائل ما أنزل الله بها من سلطان، كذلك الخلاف الذي يدور بين فرقاء المذاهب الفقهية في مسائل فرعية لا يترتب عليها شيء -وفي أحيان يكون الخلاف لفظيا والنتيجة واحدة- من تلاميذ اليوم....
فأخبروني يا عباد الله ما الذي يترتب على الاشتغال بابن عربي الصوفي وهل هو على ضلال أم على هدى، وما يفيده المسلمون من الخلاف حول الحلاج هل قتل ظلما أم قتل بحق، وما الذي يزيد المسلمين من الاختلاف على ابن سينا هل هو ضال ملحد أم هو مسلم موحد، وما الذي يجنيه المسلمون من كون الغزالي يسمى حجة الإسلام أو يجب نزع هذا اللقب منه، وما الذي يجنيه العالم الإسلامي من تسمية ابن تيمية بشيخ الإسلام أو نزع هذه التسمية عنه، وغالب الخلافات التي من هذا النوع هي خلافات على أناس أفضوا إلى الله بما عملوا وليسوا من الأحياء، ومن يراقب ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإسلامية على شبكة الانترنت يرى عجبا من هذا الأمر.
وإن مما يؤسى له ويؤسف أن يصل هذا الاختلاف إلى أروقة الجامعات والمعاهد والكليات والمدارس، تحت مسميات ما أنزل الله بها من سلطان.
فيا أيها المسلمون -على اختلاف مشاربهم- كفاكم فرقة واختلافا، واعلموا أن هذا مما يسرّ أعداءكم ويغيظ إخوانكم، وعدوكم ينام قرير العين سرورا بهذا الاختلاف، ولن ينفعكم هذا الاختلاف في الدنيا ولا في الآخرة، وقد آن أوان نهوض هذه الأمة المباركة وقد مال العالم في كثير من دوله إلى الانحراف حتى وصل إلى تضييق الخناق على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولن يجد من يقوّم هذا الانحراف إلا في أمة الإسلام من خلال دينها وعلمائها، فلا تخيّبوا رجاء المستضعفين في الأرض الذين ينتظرون إفاقتكم من الرقدة على أحر من الجمر.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد ..
تلك نفثة مصدور على صفحة تملؤها السطور..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم