من أسباب الهداية والثبات حتى الممات

الشيخ خالد المهنا

2025-04-11 - 1446/10/13 2025-04-12 - 1446/10/14
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/أفضل نعمة الثبات على الدين ولزوم السُّنَّة 2/بعض أسباب الثبات على الدين وحسن الخاتمة 3/وجوب الاقتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم

اقتباس

إنَّ مِنْ أَبْيَنِ سُبُلِ الثباتِ على الحقِّ صحبةَ الأخيار الأتقياء؛ فإنهم يُذكِّرون بالله ويهدون بأمره، ويتواصون بالحق والصبر عليه، ويحتسبون أخوتهم محبة في الله ربهم، فينتفعون بها في الدنيا وفي يوم الحساب، يوم يفر المرء من أقرب أقاربه...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

 

أما بعدُ: فإن الله -تعالى- قد تفضَّل على أهل هذه الأمة بفضائل لا تُحصى، وأنعَم عليهم نعمًا لا تُستقصى؛ أكمَل لهم دِينَهم، وأتمَّ عليهم نعمتَه، ورضي لهم الإسلامَ دِينًا، فما أُوتي أحدٌ نعمةً بعدَ الإسلام خيرًا من الثبات على الدين ولزوم السُّنَّة، حتى يلقى العبدُ ربَّه غير مبدِّل ولا زائغ، ويُبَشَّر برضوان الله وكرامته عند موته، وتلك -لعمر الله- المنزلة الشريفة التي يكرم الله بها من عباده من آمن به، والمرتبة المنيفة التي يمن بها على من استهداه من أوليائه، كما قال -تعالى ذِكْرُه-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)[إِبْرَاهِيمَ: 27]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي)[الْكَهْفِ: 17]، وقال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 74]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: في الحديث الإلهي: "يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم".

 

ولَمَّا كانت العبرة بالخواتيم كان عباد الله المتقون وأولياؤه الصالحون أخوف الناس من سوء الخاتمة، ومن الزيغ بعد الْهُدَى، لا تغرهم طاعة عملوها، ولا توبة أحدثوها، أحوالهم مع ربهم بين خوف بلا قنوط، ورجاء بلا إهمال، لا يحتقرون ذنبًا اقترفوه، ولا يُيَئِّسُون العباد من كبير جُرم عملوه، قال الإمام أبو عبد الله البخاري في صحيحه: "باب: الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها"، ثم خرج حديث سهل بن سعد رضي الله -تعالى- عنه قال: "نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى رجل يقاتل المشركين، وكان من أعظم الناس غناء عنهم فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا"، فتبعه رجل فلم يزل على ذلك حتى جرح فاستعجل الموت فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه، فتحامل عليه حتى يخرج من بين كتفيه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة، وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنَّما الأعمال بخواتيمها".

 

ألَا ما أجَلَّ هذا الحديثَ، وما أعظم بركته لمن تفكر فيه وأخذ بمعانيه، فها هو الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- يخبر أن الشأن ليس في مجرد العمل الصالح، وإنَّما في الثبات عليه، حتى يلقى العبد ربه به، فإنما العمر بآخره، والعمل بخاتمته، كما بُيِّنَ ذلك في حديث جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.

 

وكم من عامل بطاعة الله خُتم له بخاتمة السوء نعوذ بالله، واللهُ حَكَمٌ عدلٌ لا يظلم الناس شيئًا، ولكنَّ الناسَ أنفسَهم يظلمون، فذاكَ يعمل الطاعة وجُلُّ همِّه نظرُ الناسِ إليه وثناؤهم عليه، وآخَرُ يستبطئ الحسنةَ على طاعته، يرجو بها عرض الحياة الدنيا، وثالث يعجب بعمله، وهلم جرًّا.

 

وإنَّما حُسن الختام لمن أحسن العمل، فإن الله -تعالى- هو الكريم الأكرم، الغفور الشكور، لا يخذل عبدًا عبده مخلصًا له، مقتفيًا في عبادته أثر نبيه، ثابتًا على دينه حتى يوم يلقى مولاه.

 

ألَا وإنَّ للثبات على الحق حتى الممات أسبابًا أرشَد إليها الحقُّ المبينُ -سبحانه-، وعلمها المُرسِل رحمة للعالمين أمته، وعمل بها سلف هذه الأمة وتمسكوا بها، فمن أجلها وأعظمها غناء عن العبد لزوم الدعاء بالهدى إلى الصراط المستقيم والثبات عليه، فإنَّه الطريق الأوحد الموصل إلى الله -تعالى-، والبقية سبل الشيطان، وقد شرع الله هذا الدعاء لعباده، وذلك في فاتحة الكتاب العزيز وأم القرآن، حين ينتهي حمد الله وثناؤه وتمجيده ذاته العلية، إلى دلالة العبد إلى أعظم مطالبه وهي الهداية، وذلك في قوله -سبحانه-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الْفَاتِحَةِ: 6]، وكان من دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"، ومن دعائه -عليه الصلاة والسلام-: "اللهمَّ إني أسألك الْهُدَى والتقى"، وأرشَد عليًّا -رضي الله عنه- إلى أن يقول: "اللهمَّ اهدني وسددني"، وأرشد إلى هذا الدعاء: "اللهمَّ إني أسألك الثابت في الأمر"، وكان من دعائه -عليه الصلاة والسلام- وهو أتقى الناس لربه، وأعلمهم به: "أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني".

 

ومن أصول أسباب الثابت اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولزوم سُنَّتِه، والحذر من تتبُّع الأهواء المضِلَّة، وكل متَّبِع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مستجيب له، وكل مُعرِض عن نور السُّنَّة التي بعَث اللهُ بها رسولَه، فهو واقع في ظلمات البدع، ناكب عن الصراط، ظالم لنفسه، مستحق للذم والعقاب، كما قال -سبحانه-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[الْقَصَصِ: 50]، قال الإمام الجنيد بن محمد -رحمه الله-: "الطُّرق كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم-" انتهى كلامه.

 

ومن ظنَّ أن طريقًا تُوصِل إلى الله -تعالى- غير طريق رسوله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به فقد زلت به قدم الغرور إلى مهواة التلف، وسقط عن متن النجاة، ووقع في أسر الهلاك.

 

ومن أعظم أسباب الثبات كثرة ذكر الله -تعالى-، قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 41]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28]؛ أي: تسكن إلى شرع الله وقضائه واختياره، وترتفع عنها الشُّبُهات والشكوك والوساوس، وما أكثر عبد من ذكر مولاه، إلا لاح من أنوار الْهُدَى ما يثبت به فؤاده، وتستقر على لزوم الحق نفسه.

 

ومِنْ أَجَلِّ أسبابِ الثباتِ على الدين الإقبالُ على كتاب الله -تعالى- تلاوةً وتدبُّرًا، وفي ذلك قال -جل جلاله-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)[النَّحْلِ: 102].

 

ومن أعظم أسباب الثبات طاعات الخلوات؛ وهو أن يكون للعبد خَبْأٌ صالحٌ لا يطَّلِع عليه إلا اللهُ -تعالى-؛ فذاك أصل الثبات؛ لأنَّه علامة الإخلاص وبرهان صدق الإيمان.

 

وممَّا يثبت العبد على طاعة مولاه دوام تذكر الآخرة وما يذكر بها من ذكر الموت وزيارة القبور؛ لأنَّه يقصر الأمل، ويبعث على حسن العمل، وقد تكرر في كتاب الله -تعالى- ذكر الموت؛ ليثبت العباد على الإيمان بربهم، ويعملوا للقاء مولاهم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هاذم اللذات"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "زوروا القبور فإنَّها تذكر الآخرة"، وفي رواية: "فإنَّها تذكر الموت".

 

نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، مَنِ استهدَى به هَدَاهُ، ومَنْ توكَّل عليه كفاه، ومَنْ أوَى إليه آواه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله ومصطفاه.

 

أما بعدُ: فإنَّ مِنْ أَبْيَنِ سُبُلِ الثباتِ على الحقِّ صحبةَ الأخيار الأتقياء؛ فإنهم يُذكِّرون بالله ويهدون بأمره، ويتواصون بالحق والصبر عليه، ويحتسبون أخوتهم محبة في الله ربهم، فينتفعون بها في الدنيا وفي يوم الحساب، يوم يفر المرء من أقرب أقاربه؛ (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)[الزُّخْرُفِ: 67]، ثم يكمل انتفاعهم بصحبتهم حين يلتقون في جنات النعيم؛ إخوانًا على سرر متقابلين، وعلى منابر من نور.

 

ومن أعظم أسباب الثبات ولزوم الْهُدَى، تذكُّر فناء الدنيا وزوال نعيمها، وتغير أحوالها، وتقليب الفِكْر في معاني انقطاع لذاتها ومنعها، وأن من حكمة ذلك تثبيت قلوب العباد على الرغبة في النعيم المقيم، الذي لا يدرك بعد رحمة الله إلا بالثبات على الحق والثبات عليه، ومنها الاعتبار بسرعة مر الزمان على العباد كلهم، فأما المسيء فيلقى أعماله حسرات عليه، في حال وصفها الحق المبين بقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)[يُونُسَ: 45]، وأمَّا المحسن الثابت على الحق فيلقى نضرة وسرورًا، ويجزى بما صبر جنة وحريرا.

 

عبادَ اللهِ: اغتنموا فضل ساعات هذا اليوم المبارَك بكثرة الصلاة والسلام على خاتم النبين وقائد المرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، فإن من صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آله الكرام الأطهار، وارض اللهمَّ عن صحابته البررة الأخيار، المهاجرين منهم والأنصار، اللهمَّ واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّر أعداءَكَ أعداءَ الدِّينِ.

 

اللهمَّ يا غياث المستغيثين، ويا مجيب دعوة المضطرين، ويا خير الناصرين، كن لإخواننا المستضعَفين في فلسطين معينًا وظهيرًا، ووليًّا ونصيرًا، اللهمَّ وعليك بالصهاينة المعتدين الظالمين، اللهمَّ منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم، اللهمَّ انتقم منهم لعبادك واشف صدور أوليائك.

 

اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا ودورنا، وفِّق اللهمَّ أئمتَنا وولاةَ أُمُورنا، اللهمَّ وفق إمامنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهمَّ أَعِنْهُ ووليَّ عهدِه على ما فيه عز الإسلام والمسلمينَ، وصلاح أمر الدنيا والدين؛ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8]، اللهمَّ ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فاطر السماوات والأرض، أنتَ وَلِيُّنَا في الدنيا والآخرة، توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين؛ (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].

 

 

المرفقات

من أسباب الهداية والثبات حتى الممات.doc

من أسباب الهداية والثبات حتى الممات.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات