عناصر الخطبة
1/ أهمية الحديث عن المجالس 2/ أشرف المجالس 3/ من آداب المجالساقتباس
إن شيئاً يتعاطاه الناس بشكل يومي تقريباً، لا بد أن يكون للشرع فيه حِكَم وآداب، وهكذا كان؛ فإن نصوص الوحيين عامرة بذكر آداب المجالس والإشارة إليها، والتي يمكن تقسيمها إلى: آداب ما قبل حضور المجالس، وأثناء حضورها، وما بعد حضورها.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فحين يقرأ الإنسانُ قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا) [المجادلة:11]، فإنه يدرك أن موضوع المجالس ذو أهمية كبيرة، فشيءٌ يُصدّر بهذا النداء العظيم، وفعلُه يزيد الإيمان، وتركه ينقص الإيمان، يعني أهميته الجليلة.
والمجالس التي يلتقي فيها الناس، هي تجاوبٌ فطري مع طبيعة البشر التي تحب الأُنس والاجتماع.
وإذا ذُكرت المجالس فإن أشرفها هي تلك المجالس التي تبحث عنها ملائكة الرحمن، ففي صحيح مسلم: "إن لله -تبارك وتعالى- ملائكة سيارة، فُضُلا، يتتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذِكر قَعدوا معهم، وحف بعضُهم بعضًا بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله -عز وجل-، وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض، يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك".
ومن أشرف المجالس: تلك التي يتذاكر فيها الناس سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-: ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك، يقول: مر أبو بكر والعباس -رضي الله عنهما- بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد عصب على رأسه حاشية بُرْدٍ...".
أيها المسلمون: إن شيئاً يتعاطاه الناس بشكل يومي تقريباً، لا بد أن يكون للشرع فيه حِكَم وآداب، وهكذا كان؛ فإن نصوص الوحيين عامرة بذكر آداب المجالس والإشارة إليها، والتي يمكن تقسيمها إلى: آداب ما قبل حضور المجالس، وأثناء حضورها، وما بعد حضورها.
أما التي قبل حضورها فمن أبرزها إحضار أشخاص دون إذن المضيف، ويتأكد هذا في المناسبات الخاصة، لما في ذلك من الحرج، أما العامة فأمرها أيسر؛ ففي صحيح مسلم، عن أنس، أن جارا للنبي -صلى الله عليه وسلم- فارسياً كان طيب المرق، فصنع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء يدعوه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "وهذه؟" لعائشة، فقال: لا، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا"، أي: لن آتي حتى تأذن لها معي. فردد عليه ثلاث مرات: "وهذه؟"، حتى قال الفارسي في الثالثة: نعم، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله.
واستثنى أهلُ العلم من ذلك: ما إذا علم الضيفُ برضا المضيّف، بل وفرحه بذلك، فلا حرج، كما دلت عليه السنة.
ومن الآداب المتعلقة بالمجلس قبل حضوره: الحضور في الوقت المحدد، فإن بعض الناس لا يراعي ذلك، ويصبح له عادة، وبئست العادة! خاصة إن كان ممن يترتب على تأخره إحراجٌ للذين حضروا مبكّرين، والذين عادةً ما يعاقَبون بأمثال هؤلاء الذين يتأخرون، فلا تدار القهوة، ولا تبدأ مراسم الضيافة إلا إذا حضروا! وتلك عادة سيئة في المجتمع، وهي معاقبة المبكِّرين بالمتأخِّر، الذي لم يراع حق الضيف، اللهم إلا مِن عذر ظاهر.
وأما الآداب التي تتعلق بالمجلس عند بلوغه، فكثيرة جداً، من أهمها: السلام على الداخلين، والبشاشة في وجوه القادمين، والترحيب بهم: ففي سنن أبي داود وغيره بسند قوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا انتهى أحدُكم إلى المجلس فليُسَلِّم، فإذا أرادَ أن يقومَ فليُسَلِّم، فليست الأولى بأحقَّ مِن الآخِرَة". وفي صحيح مسلم: لما قدم وفدُ عبد القيس على النبي -صلى الله عليه وسلم- أقبل عليهم ورحّب بهم قائلاً: "مرحبا بالقوم غير خزايا ولا نَدامى".
إذا تبيّن هذا، فليس من الأدب ولا المروءة: أن يُقابَلَ القادمون بانعقاد الجبين، وعدم الطلاقة في وجوههم، وما أحسن قول الشاعر:
أُضاحكُ ضيفي قبل إنزال رحله *** ويخصب عندي والمحل جديبُ
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى *** ولكنما وجه الكريم خصيب
وليس من الأدب ولا المروءة أيضاً: كثرة العتاب عند تلقي القادم والزائر، أو ما نسميه بـ"التشرّه"، واللوم على قلّة الزيارة والسلام؛ فإن هذا مما تكرهه النفوس، وتجعلها تنفر عن مجلس كهذا.
والعتابُ -إن كان له موجِب- فيؤجل لوقتٍ لاحق، ولا يكون في ذات المجلس وأمام الحضور، والمضيّفُ الحكيم -إن كان له حق في العتاب- فإنه يستطيع أن يوصل الرسالة لاحقاً، أو إن كان لاستعجالها ضرورة: فعند توديع الزائر، بلطفٍ ممزوجٍ بابتسامة، فيقال: يا فلان، زيارتك سرّتني، وتكرارها يسعدني، فلا تبطئ علينا فإننا نشتاق لك، وأمثال هذه العبارات التي سيكون لها الأثر الكبير على الضيف، وإلا فقد يذهب الضيف ولا يعود.
ومن أدب المجالس: ما أشارت إليه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) [المجادلة:11]، قال العلامة السعدي -رحمه الله-: "فهذا تأديب من الله لعباده المؤمنين، إذا اجتمعوا في مجلس من مجالس مجتمعاتهم، واحتاج بعضُهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلا لهذا المقصود. والجزاء من جنس العمل، فإن من فسح فسح الله له، ومن وسع لأخيه، وسع الله عليه. (وإذا قيل انشزوا) أي: ارتفعوا وتنحوا عن مجالسكم لحاجة تَعرِض، (فانشزوا) أي: فبادروا للقيام لتحصيل تلك المصلحة، فإن القيام بمثل هذه الأمور من العلم والإيمان، والله -تعالى- يرفع أهل العلم والإيمان درجات بحسب ما خصهم الله به، من العلم والإيمان".
ومن أدب المجالس البعد عن آفات اللسان، ومن أخطرها: آكلة الحسنات، وجالبة السيئات، فاكهة كثير من المجالس: الغيبةُ، وما أدراك ما الغيبة؟! تلك الخطيئة التي قلّ أن يَسلم منها مجلس، وهي من كبائر الذنوب، التي لا تغسلها الصلوات الخمس، ولا الجمعة إلى الجمعة، ولا رمضان إلى رمضان، في قول كثير من أهل العلم، حتى الحج، بل تجب فيها توبةٌ خاصة.
وحقوق العباد مبنية على المشاحة، فإياك -يا هذا- أن تهدي حسناتك إلى من تغتابهم! وما أجمل أن يتواصى الجلساء -خاصة ممن لهم مجلس دوريّ ثابت- بالكف عن الغيبة، وأن يتشارطوا على منعها في مجلسهم، كما كان يصنع بعضُ أهل العلم، فإنهم اشترطوا على جلسائهم عدم الخوض فيها.
ومن آفات اللسان التي تظهر في بعض المجالس -وخصوصًا مجالس النساء-: السخرية، وأقبح من ذلك: ألا يجد رادعاً، بل قد يجد من يشجعه، وقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ) [الحجرات:11]، وحسب الساخر أن يعلم أن الله لم يذكر السخرية خُلقاً إلا عن الكفار والمنافقين!.
ومن أدب المجالس: الجلوس حيث ينتهي به المجلس: بوّب البخاري في صحيحه، والنسائي في الكبرى: فقالا: "باب من قعد حيث ينتهي به المجلس"، ثم ذكرا حديث أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد -والناس معه- إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما أحدهما: فرأى فُرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبًا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
الخطبة الثانية:
أما بعد: ومن أدب المجالس: غضُّ الصوت عند الحديث أو النقاش، فإن النفوس إلى الكلام الهادئ أكثر ميلا، والحجةُ لا يقوّيها رفع الصوت، بل يقويها: قوتها في ذاتها، وحسن عرضها، وقوة حجتها.
ومن أدب المجالس: ترك الاستفصال في الأسئلة التي لا حاجة لها من قبل أحد الطرفين: الضيف أو المضيّف: فإن بعض الناس مولع بالسؤال عن التفاصيل التي لا حاجة لها، وقد توقِع في الحرج، أو قد تلجئه للتورية أو الكذب، وفي الأثر: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان.
ومن أدب المجالس: الجلوس حيث يجلسك صاحب الدار، فالناس أعلم بعورات بُيُوتهم.
ومن أدب المجالس: الإنصات للمتحدث حتى ينتهي، والإصغاء إليه، وعدم مقاطعته. قال الإمام الجليل عطاء بن أبي رباح: "إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أكن سمعته، وقد سمعته قبل أن يولد".
قال الإمام مالك: "لا خير في كثرة الكلام، واعْتبر ذلك بالنساء والصبيان، إِنَّمَا هم أبدا يتكَلَّمُون ولا ينصتون".
ومن أدب المجالس: حفظ حق المضيف؛ فلا يصوّر في بيته ومناسبته إلا بإذنه، ولا يُسجّل حديث المتكلم إلا بإذنه، فإن صاحب الحق والدار قد يكره ذلك، كما أن بعض الحضور قد يكون ذا جاهٍ أو علم أو مكانة اجتماعية يكره هذا ولا يرضى به، فهذا حق يجب أن يُراعَى، ويجب التأكيد عليه في هذا العصر الذي أصاب بعض الناس فيه هوسٌ شديد في نقل التفاصيل دون إذنٍ أو رعايةٍ لحق الضيف.
أيها المسلمون: لم ينته الحديث عن هذه الآداب، وفي الجمعة القادمة - إن شاء الله - نكمل الحديث عما تيسر منها.
اللهم أدبنا بأدب كتابك وسنة نبيك...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم