من أحوال الخائفين

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ حقيقة الخوف ومعناه   2/أسباب الجرأة على حدود الله ومعاصيه 3/الخوف من أجلّ أعمال القلوب   4/سلف الأمة الصالح والخوف من الله   5/الخوف من الله عبادة قلبية   6/الخوف ومنازل اليقظة والاطمئنان   7/ خوف الله سبيل للنجاة والأمن

اقتباس

فمن منعه الخوف من الله من فعل المحرمات فخوفه حقيقة، ومن لم يمنعه الخوف من الله من فعل المحرمات وتمادى بها؛ فإن خوفه صورة لا حقيقة، وادعاؤه كاذب. وكنتيجة لهذا الخوف الصوري رأينا انتشار المعاصي والمنكرات في أوساط المسلمين, فما خاف الله حقيقةً مَن تجرأ على محارم الله، ما خاف الله حقيقةً مَن ترك الصلاة أو تهاون فيها، وما خاف الله حقيقةً مَن تعامل بالربا...

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير.

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين ببصر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، وعظموه حق تعظيمه، واعلموا أن الخوف من مقامات الأنبياء والمرسلين، ومنازل المتقين، وحلية أولياء الله المخلصين.

 

أيها الإخوة: الخوف تألم النفس خشية من عقاب اللّه، من جراء عصيانه ومخالفته, وهو من خصائص الأولياء، وسمات المتقين، والباعث المحفّز على الاستقامة والصلاح، والوازع القويّ عن الشرور والآثام.

 

والخوف من الله تعالى سمة المؤمنين، وآية المتقين، وديدن العارفين، وإن خوف الله تعالى في الدنيا طريق للأمن في الآخرة، وسبب للسعادة في الدارين، ودليل على كمال الإيمان وحسن الإسلام وصفاء القلب وطهارة النفس، إذا سكن الخوف في القلب أحرق مواضع الشهوات منه، وطرد بهرج الدنيا عنه، وهو سوط الله يقوّم به الشاردين عن بابه ويرد به الآبقين إلى رحابه.

 

احتوى القران الكريم على آيات من الوعيد تزلزل الوجدان، وتهز النفوس، وتفتت الأكباد، وتقرح الجفون، وبيّن أنها تخويف لعباده؛ ليسلكوا النهج القويم ويخالفوا أصحاب الجحيم, فأين القلوب الممتلئة بخوف الله، المفعمة بخشية الله، المترعة بمهابة الله؟، أين القلوب التي ذلّت لعزة الجبروت، وخشعت لصاحب الملكوت، وأعدت لما بعد الموت؟.

 

أيها الإخوة: إن الخوف شجرة طيبة إذا ثبت أصلها في القلب امتدت فروعها إلى الجوارح، فآتت أُكُلها الطيبة بإذن ربها وأثمرت عملاً صالحًا، وقولاً رابحًا، وسلوكًا قويمًا، وفعلاً كريمًا تخشع الجوارح، وينكسر القلب، ويرق الفؤاد، وتزكو النفس، وتجود العين، وإذا خاف المرء ربه أخاف الله منه كل شيء، وان لم يخف ربه أخافه من كل شيء.

 

عباد الله: إن الخوف من الله تعالى مانعٌ للذنب، عاصم من الخطأ، حافظ من الزلل، مبعد عن الخلل، حافز للنفس، موقظ للضمير، حاثّ على الاجتهاد، وأنى لقلب لم يزرع فيه خوف الله أن يرتدع عن الهوى، ويرعوي عن الجهل، وكيف لفؤاد لم تسكنه خشية الله والهيبة لجلاله، والوجل من بطشه، والإشفاق من وعيده، كيف له أن يعمر بالطاعة، ويتجافى عن المعصية، ويتنكر للخطيئة، ويستوحش من الذنب.

 

عباد الله: الخوف من اللَّه هو الطريق الأمثل لدرك الجنة ورضا اللَّه، وهو الطريق لإصلاح النفس؛ فالخائف من اللَّه لا يكذب ولا يغتاب ولا يفعل ما يحرّمه اللَّه تعالى، وفي المقابل فإن اللَّه تعالى ينزل عليه بخوفه من أنواع الرحمات ويدخله فسيح جنته، وفوق ذلك الخائف من اللَّه مطمئن النفس؛ لأنه مستعد للموت في أي لحظة.

 

وكل إنسان قادر على أن يدّعي الخوف من الله، ولكن هذا الخوف: إما أن يكون صورة، أو حقيقة؛ فمن منعه الخوف من الله من فعل المحرمات فخوفه حقيقة، ومن لم يمنعه الخوف من الله من فعل المحرمات وتمادى بها؛ فإن خوفه صورة لا حقيقة، وادعاؤه كاذب.

 

وكنتيجة لهذا الخوف الصوري رأينا انتشار المعاصي والمنكرات في أوساط المسلمين, فما خاف الله حقيقةً مَن تجرأ على محارم الله، ما خاف الله حقيقةً مَن ترك الصلاة أو تهاون فيها، وما خاف الله حقيقةً مَن تعامل بالربا، وما خاف الله حقيقةً مَن استمع إلى آلات اللهو المحرمة أو اشتراها بماله أو مكّن من تحت يده من استماعها أو النظر إليها أو باعها أو أعان على نشرها، وما خاف الله من شرب الدخان أو باعه، وما خاف الله من ازدرى نعم الله... إلخ.

 

أيها الإخوة: إن الخوف من الله تعالى من أجلّ أعمال القلوب التي تبعَث على الأعمال الصالحةِ وترغِّب في الدار الآخرة، وتزجر عن الأعمال السيئة، وتزهِّد في الدنيا، وتكبَح جماحَ النفس العاتية.

 

إن الخوفَ من الله سائقٌ للقلب إلى فعل كلِّ خير، وباعِث للهِمَم إلى جليلِ صالح الأعمال، وصارفٌ له عن قبيح الفعال, والخوف من الله تعالى مانعٌ للنفس عن شهواتها، وزاجرٌ لها عن غيِّها، ودافع لها إلى ما فيه صلاحُها وفلاحها.

 

والخوفُ من الله تعالى شُعبة من شُعَب التوحيد، يجِب أن يكونَ لربِّ العالمين، وصرفُ الخوفِ لغير الله تعالى شعبَة من شعَب الشرك بالله تعالى. فبالخوف ينزع العبد عن المحرمات وبه يقبل على الطاعات, فهو والله أصل كل فضيلة وباعث كل قُرْبَة.

 

أيها المؤمنون: إن الله -تبارك وتعالى- ببالغ حكمته فرض علينا خوفه وأوجبه، قال -جل ذكره-: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل: 51], وأمرنا ربنا أن نفرده بالخوف وأن لا نخاف من غيره، قال الله تعالى: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].

 

ومن تأمل في قوله الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) [المؤمنون: 57 - 59]، تبين له أهمية الخوف كدافع لعمل الخيرات، وسبب لغلق باب العجب على النفس، ويفتح باب الوجل من قبول العمل.

 

عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا، يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات" [الترمذي (3175) وصححه الألباني].

 

فلسان حال العبد الخائف يقول: نعم صمت، وصليت، وحججت، واعتمرت، وأحسنت إلى الفقراء والمساكين، وحفظت لساني عن غيبة إخواني المسلمين، وحفظت يدي عن حقوقهم، لكني والله لا أدري أتُقبل مني هذه العبادة أم لا؟، ويرجع يلوم نفسه فيقول: ربما كان في الحج من الرفث واللغو والفسوق والجدال أو الرياء ما أحبط الحج، فلربما كان في الصلاة والزكاة ما يحبطها، وربما انتفت بعض الشروط أو بعض الواجبات، أو فسدت النية فلم تقبل هذه الطاعة...إلخ ذلك.

 

أيها الإخوة: إن العبد المؤمن الذي يخشى ربه يعمل الطاعة وهو يخاف أن لا تقبل منه، وهذه هي الدرجة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن، لكن الواقع من كثير من الناس أنهم يعملون المعاصي، ويرتكبون المحرمات ولا توجل قلوبهم، ولا يخافون من الله، والله تعالى يقول: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) [البقرة:281]، فالإنسان إذا عمل طاعةً أو معصيةً فعليه أن يتقي الله، ويشعر أنه راجع إلى الله، فإن كان ما عمله طاعةً فيخاف ألا تقبل وإن كان ما عمله معصيةً أو منكراً أو فاحشةً، فهو أحرى وأجدر أن يخاف الله، فليتب وينزجر عن معصية الله -تبارك وتعالى-.

 

فلا إله إلا الله ما أطيب قلوبهم! وأزكى سرائرهم! وأشد خوفهم وحبهم وتعظيمهم لربهم -جل وعلا-! فإن هذه الآيات والعظات لا يعتبر بها إلا من عمر الخوف قلوبهم، قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود: 1.3]، وقال -سبحانه-: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) [الذاريات: 37].

 

وإن الخائف من الله تعالى عاقبته الأمن والسلام، وثوابه أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فقد ذكر -عليه الصلاة والسلام- السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم ،القيامة فذكر منهم كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "رجلاً دعته امرأة ذات حسن وجمال، فقال إني أخاف الله رب العالمين"، وذكر منهم: "ورجلاً ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه" [البخاري (68.6)].

 

كلا الصفتين من أعمال الخائفين، فمن خاف من الفاحشة قال عنه- تبارك وتعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41]، وكذا من تذكر جلال الله وعظمته، فبكى قلبه وذرفت عيناه الدموع حبًّا لربه وخوفًا منه ورجاء فيه، فهذه صفات عباد الله الصالحين، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

 

أيها المؤمنون: هذا نبيكم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, بلغ الغاية في العمل والطاعة, ومع ذلك كله كان شديد الخوف من ربه, حتى كان أكثر دعائه كما في حديث أنس قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" [الترمذي (214) وصححه الألباني].

 

عباد الله: وعلى هذا السبيل الواضحة سار سلف الأمة الصالحون في خشيتهم من ربهم، فسِيَرُهم -رضي الله عنهم- حافلة بالعبر والعظات، فهذا صدّيق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها المبشر بالجنة وعظيم المنة كان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله تعالى، وهذا عمر بن الخطاب المبشر بالجنة قرأ سورة الطور حتى إذا بلغ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) [الطور: 7]، بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعاده الناس, وكان يقول لابنه وهو في الموت: "ويحك ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني"، وهذا عثمان كان إذا وقف على القبر بكى حتى يبل لحيته.

 

وكذا كان حال جمهور الصحابة0 رضي الله عنهم-، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب يومًا فقال: "والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى" [البخاري (4621) ومسلم (2359)] قال الراوي: فغطى الصحابة -رضي الله عنهم- رؤوسهم ولهم خنين، لقد أثرت فيهم موعظة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فأجهشوا بالبكاء خوفًا من مستقبل لا يدرون كيف يكون.

 

وعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أن عبد الرحمن بن عوف أُتي بطعام، وكان صائماً، فقال: "قُتل مصعب بن عمير، وهو خير منى، وكُفّن في بردة: إن غطي بها رأسه؛ بدت رجلاه، وإن غطيت رجلاه؛ بدا رأسه، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قُدمت لنا. ثم جعل يبكى حتى ترك الطعام" [البخاري (1275)].

 

وعن مسلم بن بشير، قال: بكى أبو هريرة –رضي الله تعالى عنه– في مرضه، فقيل له: ما يبكيك، يا أبا هريرة؟ قال: "أَمَا إنِّي لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبُعد سفري وقلَّةِ زادي. أصبحت في صعود مهبطة على جنَّة ونار، فلا أدري إلى أيِّهما يُسْلَك بي".

 

وهذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بكى يوماً فبكت فاطمة بنت عبد الملك، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء . فلما توقف عن البكاء، قالت فاطمة : بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال : "ذكرت يا فاطمة منصرف القوم بين يدي الله -عز وجل-، فريق في الجنة وفريق في السعير"، ثم صرخ وغشي عليه.

 

وهذا محمد بن المُنْكَدِر بكى ليلةً فكثر بكاؤه حتى فزع أهلُهُ، فأرسلوا إلى أبي حازم، فجاء إليه فقال: ما الذي أبكاك؟ قد رُعتَ أهلكَ. قال: "مرَّت بي آية من كتاب الله -عزَّ وجلَّ-: (وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ) [الزمر: 47]"، فبكى أبو حازم معه، فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرّج عنه فزدته.

 

أيها المؤمنون: إنه لما ضعف إيماننا بالله وقلّ خوفنا منه وتعظيمنا له قست منا القلوب وساءت الأعمال وصدق في كثير منا قوله -جل وعلا-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف: 1.5]، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك أن تصلح لنا قلوبنا، وتهدي نفوسنا، وترشدنا سبل السلام.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.

 

عباد الله: لا شك أن من خشي الله تعالى وخافه على نحو ما ذكر، فقد عبد الله حق عبادته، وأمن يوم الفزع الأكبر، وارتاح يوم يقلق الناس، فمن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.

 

وإن الخوف من الله تعالى من سمات المتقين، وصفات المؤمنين، بل من شروط الإيمان، ومكملات العقيدة، قال تعالى: ( فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 175]، وقال عن العلماء العاملين الربانيين (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) [فاطر: 28]، ولذا من كان بالله أعرف كان منه أخوف.

 

عباد الله: الخوف من الله -سبحانه- والخشية من عقابه القائمة على الشعور بقدرة الله تعالى وهيمنته، وما توعد به الكفرة والمجرمين من عقاب أليم لا ينبغي أن يُفضى إلى اليأس من رحمة الله تعالى، والاستبعاد لمغفرته، وتجاوزه؛ لأن هذا شأن مسيء الظن بالله من الكافرين كما قال تعالى: ( وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) [يوسف: 87].

 

وقد وعد الله من خافَ منه فحجزه خوفُه عن الشهوات وساقه إلى الطاعاتِ وعدَه أفضلَ أنواع الثواب، قال الله تعالى : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46] وقال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41].

 

لقد كانت تلك العيون التي ذرفت دمعًا حجابًا لأصحابها، والأجساد التي وجلت قلوبها وقاية من إحراقها، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "عينان لا تمسهما النار:  عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله " [صحيح الجامع (4112)].

 

إن الخوف من الله عبادة قلبية عظيمة لا تصدر إلا من مؤمن صادق الإيمان، فلذلك كانت له هذه المنزلة العالية والفضيلة العظيمة والخوف المحمود هو ما دفع صاحبه إلى عمل الطاعات، وحجزه عن فعل المحرمات.

 

وبالخوف -أيها المؤمنون- يستيقظ القلب من غفلته, وينتفع بالإنذار ويتأثر بآيات القرآن, قال الله تعالى: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [طه: 2، 3]، وقال 0سبحانه-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23].

 

إن الخوف من الله تعالى يبعث على اليقظة، ويمنع من الغفلة والتهاون الذي قد يصيب الإنسان، ويوصله إلى المهالك, والخوف من الله هو الحصن الذي يحمي الإنسان في هذه الدنيا، من شرورها، وكمائنها، التي نصبها إبليس وجنوده عند كل مفترق فيها.

 

ونختم بما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه جعل خشية الله -تبارك وتعالى- سبيلاً للنجاة من النار، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ: الِاقْتِصَادُ فِي الْغِنَى وَالْفَاقَةِ، وَمَخَافَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ" [الطبراني في الأوسط وصححه الألباني في صحيح الترغيب (453)]

 

بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يسأل ربه أن يرزقه الخشية منه، وكان يعلّم أصحابه أن يدعوا ربهم ويسألوه أن يرزقهم من الخوف ما يمنعهم من عصيان ربهم -سبحانه-، فعن ابن عمران قال: "قلما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصيبات الدنيا" [الترمذي (3502) وحسنه الألباني].

 

فما أجدرنا أن نعظم ربنا ونوقره، ونخافه ونتقيه، فاتقوا الله -عباد الله- وخافوه، وأخلصوا له العمل، واحذروا معاصيه.

 

 

 

المرفقات

أحوال الخائفين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات