من أحكام المسنين

ناصر بن محمد الأحمد

2015-04-01 - 1436/06/12
عناصر الخطبة
1/مراحل حياة الإنسان 2/بعض أخطاء الناس تجاه الكبار والمسنين 3/وجوب إجلال المسنين واحترامهم 4/دور الكبار في تربية المجتمع 5/احفظ الله في الصغر يحفظك في حال الكبر 6/عناية الإسلام بالمسنين وبعض مظاهر ذلك 7/بعض مآسي المسنين في الغرب

اقتباس

عباد الله: حديثنا اليوم سيكون عن المسنين، كبار السن في مجتمعنا من الأهل والأقارب والجيران، وممن نخالطهم في المساجد والمجالس. إنه الكبير الذي رق عظمه وكبر سنه، وخارت قواه وشاب رأسه. إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته، فـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54].

 

سبحان من خلق الخلق بقدرته، وصرَّفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته، وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله، وواسع رحمته،

 

خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا، ثم أمده بالصحة والعافية، فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)[الروم: 54].

 

قوة الشباب التي يعيش بها أجمل الأيام، والذكريات مع الأصحاب والأحباب،

 

ثم تمر السنون والأعوام، وتتلاحق الأيام تلو الأيام، حتى يصير إلى المشيب والكبر، ويقف عند آخر هذه الحياة، فينظر إليها فكأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام، يقف في آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه وانتابته الأسقام والآلام، ثم بعد ذلك يفجع بفراق الأحبة والصحب الكرام: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر: 3].

 

عباد الله: حديثنا اليوم سيكون عن المسنين، كبار السن في مجتمعنا من الأهل والأقارب والجيران، وممن نخالطهم في المساجد والمجالس.

 

إنه الكبير الذي رق عظمه وكبر سنه، وخارت قواه وشاب رأسه.

 

إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته، فرحمه، وعفا عنه، قال الله -تعالى-: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النساء: 98 - 99].

 

نقف اليوم -أيها الأحبة- مع كبير السن، نقف مع حقوقه التي طالما ضُيِّعت، ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جُرحت، ومع آلامه وهمومه وغمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت.

 

أيها المسلمون: أصبح كبير السن اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده، ثقيلاً حتى على أقربائه وأحفاده، من هذا الذي يجالسه؟! ومن هذا الذي يؤانسه؟! بل من هذا الذي يدخل السرور عليه ويباسطه؟!

 

إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان، وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار، فأصبحت حكمته وخبرته في الحياة إلى ضياع وخسران.

 

أما إذا خرج من بيته، فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب، وإلى الإخوان والخلان،

 

يزورهم ويزورونه، يقضي حوائجهم ويقضون حوائجه، أما اليوم فإن خرج، فإنه يخرج إلى الأشجان والأحزان، يخرج اليوم إلى أحبابه وأصحابه من أقرانه، وممن كان يجالسهم، يخرج اليوم يُشيّع موتاهم، ويعود مرضاهم،

 

فالله أعلم كيف يعود إلى بيته، يعود بالقلب المجروح المنكسر، وبالعين الدامعة، وبالدمع الغزير المنهمر؛ لأنه ينتظر دوره، يرجع إلى بيته، ويرى أن معظم أقرانه وجُلسائه، قد فارقوا الحياة، فصار وحيدًا غريبًا ينتظر أمر الله -عز وجل-.

 

فيا معاشر كبار السنن: الله يرحم ضعفكم، الله يجبر كسركم، في الله عوض عن الفائتين، وفي الله أنس للمستوحشين.

 

إنا لنعلم أنه قد تجعّد جلدك، وثقل سمعك، وضعف بصرك، وبطِئت حركتك، وترهلت عضلاتك، وتغيّر لون شعرك، ومع ذلك ـ

 

فيا معاشر الكبار: أنتم كبار في قلوبنا، وكبار في نفوسنا، وكبار في عيوننا، كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين عَلّمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم، لئن نسي الكثير فضلكم، فإن الله لا ينسى، ولئن جحد الكثير معروفكم، فإن المعروف لا يَبْلى,

 

ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات، فإن الخير يدوم ويبقى، ثم إلى ربك المنتهى، وعنده الجزاء الأوفى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف:30].

 

يا معاشر الكبار: أمّا الآلام والأسقام والأمراض التي تجدونها بسبب كبر السن، فالملائكة كتبت حسناتَها، والله عظّم أجورها، وستجدونها بين يدي الله، فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات,

 

اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبكيكم، وتقض مضاجعكم، ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكُم وتضحككُم، فاصبروا على البلاء، واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء، فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء، قال: "عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خيرٌ؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له".

 

عظّم الله أجوركم، وأجزل في الآخرة ثوابكم، فأحسنوا الظن بما تجدونه عند ربكم.

 

ثم -يا معاشر الشباب- توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام، وسنة من سنن سيد الأنام -عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام-.

 

يا معاشر الشباب: إجلال الكبير وتوقيره، وقضاء حوائجه، سنة من سنن الأنبياء، وشيمة من شيم الصالحين الأوفياء: (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص: 23 - 24].

 

يا معاشر الشباب: ارحموا كبار السن وقدروهم ووقروهم وأجلُّوهم؛ فإن الله يحب ذلك، ويثني عليه خيرًا كثيرًا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن من إجلال الله، إجلال ذي الشيبة المسلم".

 

وقال صلى الله عليه وسلم : "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا".

 

إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه، وأكبر شيبَهُ، وقدِّر منزلته، وارفع درجته، وفرج كربته، يَعظُم لك الثواب، ويُجزِل الله لك به الحسنى في المرجع والمآب، بل اعتبر بما رواه الإمام أحمد -رحمه الله- عن أنس أنه قال: جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يوم فتح مكة، يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه".

 

يا معاشر الشباب: أحسنوا لكبار السن، لا سيما الوالدين من الآباء والأمهات: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23 - 24].

 

لا سيما إن كان الكبار من الأعمام والعمات، والأخوال والخالات، كم تجلسون مع الأصحاب والأحباب من ساعات وساعات؟ كم تجالسونهم وتباسطونهم وتدخلون السرور عليهم، فإذا جلستم مع الأقرباء الكبار مللتم وضقتم وسئمتم، فالله الله في ضعفهم، الله الله فيما هم فيه من ضيق نفوسهم.

 

يا معاشر الشباب: ما كان للكبار من الحسنات، فانشروها واقبلوها واذكروها، وما كان من السيئات والهنات فاغفروها واستروها، فإنه ليس من البر إظهار زلة من أحسن إليك دهرا، وليس من الشيمة إعلان هفوة مَن مَا بِكَ مِن خير فبسببه.

 

أيها المسلمون: سُئل بعض السلف، فقيل له: من أسعد الناس؟ قال: أسعد الناس من ختم الله له بالخير.

 

أسعد الناس من حسُنت خاتمته، وجاءت على الخير قيامتُه، قال: "خيركم من طال عمره، وحسن عمله، وشركم من طال عمره، وساء عمله".

 

يا ابن آدم: إذا رق عظمك، وشاب شعرك، فقد أتاك النذير: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ)[فاطر: 37].

 

تذكرة من الله -جل جلاله-، وتنبيه من الله -سبحانه وتعالى- رحمةً بعباده.

 

كان السلف الصالح -رحمة الله عليهم- إذا بلغ الرجل منهم أربعين سنة لزم المساجد، وسأل الله العفو عما سلف، وكان يسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)[الأحقاف: 15 - 16].

 

كانوا إذا بلغوا أربعين عامًا لزموا بيوت الله، وأكثروا من ذكر الله، وأحسنوا القدوم على الله -جل جلاله-.

 

أما اليوم، فأبناء ستين وسبعين في الحياة يلهثون، غافلون لاهون.

 

أما اليوم، فنحن في غفلة عظيمة، من طلوع الصباح إلى غروب الشمس والإنسان يلهث في هذه الدنيا، لا يتذكر ولا يعتبر، لا ينيب ولا يدَّكر، وتجده إذا غابت عليه الشمس وقد مُلئ بالذنوب والآثام من غفلة الدنيا وسيئاتها ينطلق إلى المجالس، إلى مجلس فلان وعلان، وغيبة ونميمة، وغيرِ ذلك مما لا يُرضي الله، فيأتي عليه يومه خاملاً كسلانًا بعيدًا عن رحمة الله.

 

كبارنا خيارنا، أهل الفضل والحلم فينا، هم قدوتنا في كل خير، هم أئمتنا إلى الطاعة والبر.

 

يا معاشر الكبار: أنتم قدوة لأبنائكم وبناتكم وأهليكم، قدوة في مجتمعاتكم، إذا جلست مع الأبناء والبنات، فإن كنت محافظًا على الخير والطاعات أحبوك وهابوك وأجلّوك وأكرموك، وإن وجدوك تسب الناس وتشتمهم وتنتقصهم وتعيبهم وتغتابهم أهانوك وأذلوك، ثم سبوك وعابوك، وهكذا يُجزى المحسن بالإحسان، والمسيؤون بالخيبة والخسران.

 

معاشر الكبار: إنكم قدوة في مجتمعاتكم، أردتم أم لم تريدوا، من هم دونكم في السن ينظرون إليكم نظرة إجلال واقتداء، فالحذر الحذر من المخالفة والعصيان.

 

إن المجتمع لا يقبل أن يُرى كبير السن سيئًا في خلقه وتعامله، لا يرضى المجتمع أن يُرى كبير السن يدخن مثلاً، فكيف بما هو أعظم من التدخين؟! أو يلاحظ عليه ما يشين؟

 

نعم -يا معاشر الكبار- إن من حقكم علينا الاحترام والتقدير والمواساة، ومن حقنا عليكم القدوة، وأن تكونوا نماذج يُحتذى بكم، ويستفاد من خبرتكم وتجاربكم.

 

يا معاشر الكبار: إنابة إلى الله الواحد القهار، وتوبة من الحليم الغفار، إذا تقربت إلى الله شبرًا تقرب منك ذراعًا، وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا، وإذا أتيته تمشي أتاك هرولة، إذا نظر الله إلى قلبك أنك تحب التوبة وتحب الإنابة إليه، فتح لك أبواب رحمته، ويسر لك السبيل إلى مغفرته وجنته، إلى متى وأنت عن الله بعيد؟! وإلى متى وأنت طريد؟! ما الذي جنيت من السهرات؟! وما الذي حصلت من الجلوس هنا وهناك؟!

 

قال بعض كبار السن: "اللهم أحسن لي الخاتمة" فمات بين الركن والمقام.

 

وقال ثان: "اللهم أحسن الختام" فمات وهو ساجد بين يدي الله -جل جلاله-.

 

وقال ثالث: "اللهم إني أسألك حسن الخاتمة" فمات يوم الخميس صائمًا لله -جل جلاله-.

 

أحسنوا الختام، وأقبلوا على الله -جل جلاله- بسلام، وودعوا هذه الدنيا بأحسن الأعمال وشيم الكرام، فإن الأعمال بالخواتيم.

 

يا معاشر الكبار: إن مما يحفظ عليك صحتك وقوتك حتى مع كبر سنك طاعة الله -جل وتعالى-، وأن لا تستخدم هذه الجوارح في معصيته، وهذا شيء من معنى قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله يحفظك".

 

أي: من حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.

 

رُوي عن أبي الطيب الطبري -رحمه الله تعالى- أنه جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فركب مرة سفينة، فلما خرج منها قفز قفزةً قوية لا يستطيعها الشباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب؟! فقال: ولِمَ وما عصيت الله بواحدة منها قط؟!

 

وفي أزماننا المتأخرة، فإنا قد عاصرنا مثل إمام هذا العصر الإمام عبد العزيز بن باز  -رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته- وقد جاوز الثمانين من عمره، وهو بكامل قواه العقلية وذاكرته وحفظه.

 

وكان رحمه الله يستحضر ويُعلّم ويُدرّس ويفتي حتى آخر لحظة من حياته.

 

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

إنها جوارح متى ما حُفِظت حَفَظَت "احفظ الله يحفظك".

 

عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قلّما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: "اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا".

 

والوارث هو الباقي، والمراد إبقاء قوته إلى وقت الكبر.

 

معاشر الكبار: لقد دلّنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بعض الأعمال التي بسببها يطول عمر الإنسان، وعُدّ إطالة العمر جزاءً لهذه الأعمال الفاضلة، ومن ذلك: بر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الخلق، وحسن الجوار، وتقوى الله -عز وجل-.

 

فنسأل الله -جل وتعالى- طول عمر مع حسن عمل، كما نسأله سبحانه صحة في قلوبنا، وصحة في أبداننا، وأن لا يحوجنا إلى غيره سبحانه.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد:

 

إن مرحلة الشيخوخة من العمر مرحلة عصيبة، ولا عجب فلقد تعوذ منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه عنه أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم"[رواه البخاري].

 

وفي رواية أخرى: أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ من أن يرد إلى أرذل العمر.

 

وقد عدّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه المرحلة هي آخر مرحلةٍ قبل الموت، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضًا مفسدا، أو هرمًا مفندا، أو موتًا مجهزا؟!".

 

أيها المسلمون: ولئن اعتنت الدول بهذه المرحلة من عمر الإنسان، فظهر ما يسمى بنظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية، فإن الإسلام قد نظّم وأكد هذا الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا.

 

إن المسنّين يدخلون ضمن الرعية التي يعَدّ إمام المسلمين راعيًا لهم ومسؤولاً عنهم: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته"[رواه البخاري من حديث ابن عمر].

 

ورعاية المسنين تلزم ولي أمر المسلمين، وهي مسؤولية شاملة لجوانب الرعاية، من اقتصادية واجتماعية وطبية ونفسية، وغيرها، عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يُحِطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة"[رواه البخاري].

 

أيها المسلمون: لقد جاءت هذه الشريعة رحمة للبشرية، ومن صور هذه الرحمة: أن الله -عز وجل- خص كبار السن ببعض الأحكام؛ رحمةً بهم، وإشفاقًا عليهم، مراعاةً لحالتهم الصحية والبدنية، من ذلك: أنه أمر الأئمة في المساجد بتخفيف الصلاة مراعاة لكبار السن والمرضى، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء".

 

ومن الأحكام: أن الأكبر سنا مقدّم في الإمامة في الصلاة، إذا تساووا في قراءة القرآن.

 

وأيضا من الأحكام: أن كبير السن الذي لا يستوي على الراحلة يحج عنه ويعتمر، ولو كان حيا، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاءت امرأةٌ من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: "نعم"[رواه البخاري].

 

ومن الأحكام: الرخصة لكبير السن بالإفطار في رمضان حين عجزه، والإطعام عن كل يوم مسكينا، أخذا بقول الله -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) [البقرة: 184].

 

ومن الأحكام: أنه أمر الصغير أن يسلم على الكبير، وأن يبدأه إجلالا له، وتقديرا لسنه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير"[رواه البخاري].

 

ومن أحكام كبار السن: أنه أمر أن يُبدأ بتقديم الشرب للأكابر، ففي الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سُقي، قال: "ابدؤوا بالكبراء" أو قال: "بالأكابر".

 

ومرةً جاءه عيينة بن حصن وعنده أبو بكر وعمر وهم جلوس على الأرض، فدعا لعيينة بوسادة، وأجلسه عليها، وقال: "إذا أتاكم كبير قوم فأكرموه".

 

وأيضًا من الأحكام: جواز كشف المسنة، وجهَها لغير المحارم، لكن تحجُّبُها أفضل، قال الله -تعالى-: (وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور: 60].

 

قال الإمام عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "والقواعد هن العجائز اللاتي لا يرغبن في النكاح ولا يتبرجن بالزينة، فلا جناح عليهن أن يسفرن عن وجوههن لغير محارمهن، لكن تحجبهن أفضل وأحوط، لقوله سبحانه: "وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ".

 

ولأن بعضهن قد تحصل برؤيتها فتنة من أجل جمال صورتها، وإن كانت عجوزا غير متبرجة بزينة، أما مع التبرج، فلا يجوز لها ترك الحجاب، ومن التبرج: تحسين الوجه بالكحل ونحوه" انتهى.

 

ومن أحكام المسنين: أن الشريعة نهت عن قتل كبير السن من العدو الكافر حال الجهاد، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوصي أصحابه عند بعث السرايا، والجيوش في الغزوات أن لا يقتلوا صغيرًا ولا امرأةً، ولا شيخًا كبيرًا، روى الطبراني عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث جيشًا أو سريةً دعا صاحبهم فأمره بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: "اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا".

 

فتأمل -يا رعاك الله- إلى شريعة الإسلام حتى مع العدو حال القتال، لا يقتل كبير السن، ولا تقتل المرأة، فضلاً عن الأطفال، وقارن -يا أخي الحبيب- بين هذا وبين ما يمارسه الكفار اليوم بجميع مللهم ونحلهم، ابتداءً من اليهود ومرورًا بالنصارى وانتهاءً بالصرب والشيوعيين، وكيف أنهم لم يرحموا طفلاً رضيعًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً مسكينة، بل بهم يبدؤون، وعليهم ترسل الصواريخ والقذائف، بل وتدمر البيوت والمساكن فوق رؤوسهم -ولا حول ولا قوة إلا بالله- إنها شريعة الغاب التي يدين بها الغرب.

 

وإن تعجب فاعجب من موقف عمر بن الخطاب مع ذلك الرجل الكبير المسنّ الضرير اليهودي، وقد ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، فقال: من أيّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسنّ، قال: فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله فأعطاه من المنزل شيئًا، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) [التوبة: 60].

 

فالفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.

 

ألا فلتسمع الدنيا مثل هذه المعاملة، ولتسمع بخالد بن الوليد عندما صالح أهل الحيرة وجاء في صلحه معهم أنه قال: "وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًا فافتقر، وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته، وعيل من بيت مال المسلمين".

 

أين منظمات حقوق الإنسان اليوم عن مثل هذه الأحكام وهذه التشريعات؟!

 

إنه لا خلاص للبشرية من الممارسات الوحشية اليوم في العالم كله إلا بالإسلام، ويوم يرجع الإسلام لحكمه في الأرض، فستنعم البشرية في ظله، وهو يوم آت لا نشك في ذلك، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين.

 

إن الغرب -أيها الأحبة- الذي يدّعي حقوق الإنسان اليوم زعموا، إليك بعض أخباره مع كبار السن عندهم: اقترح مستشار الرئيس الفرنسي السابق في إحدى الدراسات: أن لا يعطى الشيوخ علاجًا طبيًا مكثفًا إذا تجاوز سنًّا معينة من أجل التعجيل بوفاته، وها هو أحد المستشفيات في الدانمارك يرفض استقبال المرضى المسنين؛ لأن إقامتهم في المستشفى قد تطول، ويجب أن تعطى أولوية العلاج للعاملين الذين يسهمون في تمويل صناديق الرعاية بما يدفعونه من ضرائب، فقيمة الإنسان لديهم ليست في ذاته، وإنما في قدرته على الإنتاج، ومن لا ينتج فالموت، هذه هي الحضارة التي ينادي بها في مجتمعاتنا أولئك المنهزمون ممن رضعوا من ألبان الغرب من أصحاب التوجهات العلمانية، ومن نحى نحوهم ممن يريدون أن يأخذوا حضارة الغرب بعجرها وبجرها.

 

هذه الكتابات التي نقرأها يوميًا في صحفنا ومجلاتنا، والتي تنادي بالحضارة الغربية والسير في منوالها، هل يريدون أيضًا منّا أن نعامل كبار السنّ عندنا على مثل ما اقترحه المستشار الفرنسي؟!

 

رحماك ثم رحماك.

 

اللهم ارحمنا رحمة اهد بها قلوبنا، اللهم اختم لنا بخير، اللهم اختم لنا بخير، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمارنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقائك.

 

اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم ارحم كبارنا، ووفق للخير صغارنا، وخذ بنواصينا لما يرضيك عنا.

 

 

المرفقات

أحكام المسنين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات