مميزات الارتجال ومزالق الخطبة الورقية

الشيخ السيد مراد سلامة

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: إلقاء الخطبة

اقتباس

قدرة الخطيب المرتجل أن يغيِّر مجرى خطابه تبعًا لما عسى أن يَجِدَّ من أحوال المستمعين، فربَّما يهيئ له موقف معيَّن أن يتحدَّث عن موضوع معيَّن، فلا ينبغي أن يفوِّت الفرصة؛ لأنها ربما لا تعود....

الارتجال: هو إلقاء الخطبة شفويًّا من الحِفظ والذاكرة، دون الاعتماد على الورقة؛ وهو من فنون علم الخطابة.

 

♦ والارتجال في الأصل كما عرَّفه أهل اللغة: ارتجل الكلام: تكلَّم به من غير استِعداد وتهيئة.

 

والارتجال في الخطابة سنَّة الخلفاء والصَّحابة -رضي الله عنهم- أجمعين.

 

 اعلم -زادك الله علمًا- أنَّ خطبة الجمعة من شعائر الله التي يجِب تعظيمها والاعتناء بها؛ لأنَّها موطن من مواطن الاجتماع الأسبوعي، ويعدُّ ذلك منهلًا عذبًا من مَناهل المعرفة، التي تغذِّي الروح، وتَسمو بالأخلاق، وتحارب الرذيلة.

 

 

ولقد تربَّى الرعيل الأول على الارتجال وهم يقرؤون ويَكتبون؛ فهذا أبو بكر وذاك عمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- أجمعين - يقومون بالخطبة ارتجالًا.

 

ولا ينبغي للخطيب العدول عن الارتجال إلى القراءة من الورقَة إلَّا إذا كان لا يحسن الارتجال.

 

قال ابن مفلح: قال أبو المعالي وابن عقيل: ولِمن لا يحسن الخطبة قراءتها من صحيفة، قال: كالقراءة في الصَّلاة لِمن لا يحسِن القراءة في المصحف؛ كذا قال، وسبق أن المذهب لا بَأس بالقراءة في المصحف.

 

قال جماعة: كالقراءة من الحِفظ، فيتوجَّه هنا مثله؛ لأنَّ الخطبة شرط كالقراءة.

 

قيل لعبدالملك بن مروان: عجل عليك المشيب يا أمير المؤمنين، فقال: كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على النَّاس في كل جمعة مرَّةً أو مرتين؟ ومرة قال: "شيَّبَني صعودُ المنابر، والخوف من اللَّحن".

 

مساوئ خطيب الورقة:

يرى د. محمود عمارة في كتابه "الخطابة في موكب الدعوة": أنَّه لا يؤثِّر إلا المتأثِّر، ولن تستحيل الأفكار دمًا يَجري في عروق الخطيب إلَّا إذا مارس الحياة؛ حلوها ومرها، وعاش التجربة التي يحكيها.

 

وهو يحمل حملةً عنيفة على خطيب الورقة، ويرى أنَّ نبرته الرتيبة ووصفه الآلي لا يصِل إلى ما ينبغي أن يكون بسبب:

1 - أنَّ صوته يمضي بالمستمع على نبرة واحدة، تفرض عليه النوم أحيانًا.

 

2 - هو مشغول بالنظر إلى ما خطَّه قلمه خشية الزلل.

 

3 - لا تَلتقي عينه بالمستمِع الذي يشعر أنَّ شخصًا آخر يخاطِبه غير هذا الخطيب الذي يراه؛ ولذلك فلا رابطة بينهما جامعة.

 

4 - هو مرتبط بما كتبه، فإذا دعَت للاختصار ضرورةٌ لا يَستطيع ذلك، مما يمكن أن يزيد الهوَّة اتساعًا.

 

5 - ورود بعض الأحداث الطارئة التي تستلزم تغييرَ الموضوع، ولكنَّه لا يستطيع؛ مما يترتَّب عليه أن الناس في وادٍ، وإمامهم في وادٍ؛ فهم مشغولون بالحدَث الطارئ، وإمامهم يَصرخ في وادٍ، وينفخ في رماد.

 

6 - يشعر المستمِعون أنَّ الخطيب ينقل تجرِبةَ غيرِه، وإذًا فلا فضل له إلَّا مجرد النقل، ومن ثمَّ تقل الثِّقة، وينعدم الارتباط والحب.

 

7 - هيئة خطيب الورقة جامِدة لا تتحرَّك، وينعكس الجمود على الموقف كله سآمة وملالًا.

 

ثمرات الارتجال:

1 - قدرة الخطيب المرتجل أن يغيِّر مجرى خطابه تبعًا لما عسى أن يَجِدَّ من أحوال المستمعين، فربَّما يهيئ له موقف معيَّن أن يتحدَّث عن موضوع معيَّن، فلا ينبغي أن يفوِّت الفرصة؛ لأنها ربما لا تعود.

 

2 - الارتجال يمد الخطيب بمدد من تداعي الأفكار التي ربَّما كانت أعظم منزلة وأعظم تأثيرًا مما هيَّأه في نفسه.

 

3 - للارتجال أثر كبير في تحريك انفعال الخطيب، ولا يخفى عليك أنَّ التأثير في المستمعين يشتدُّ بمقدار تأثر الخطيب وانفعاله.

 

4 - ثقة الناس فيك، فأنت "رجل المواقف الصعبة"، تستطيع أن تتحدَّث في أيِّ وقتٍ وعن أي موضوع، أما غيرك فينتظر حتى يذهب ويبحث ثمَّ يأتي للناس "ببيانٍ" مكتوب يقرؤه.

 

5 - قدرة المرتجل على صد هجمات وأسئلة الجمهور:

يُروَى أن أبا جعفر المنصور كان يخطب مرةً؛ فقال: "اتقوا الله"؛ فقال رجلٌ: "أُذَكِّرُكَ مَنْ ذَكَّرْتَنا به"! فقال أبو جعفر: "سمعًا سمعًا لمن فهم عن الله وذكَّر به، وأعوذ بالله أن أُذكِّر به وأنساه، فتأخذني العِزَّة بالإثم، لقد ضللتُ إذًا وما أنا من المهتدين! وما أنت؟"، والتفت إلى الرجل، فقال: "والله، ما الله أردتَ بها، ولكن ليُقال: قام فقال؛ فعوقِبَ فصبر، وأهون بها لو كانت العقوبة، وأنا أنذركم أيها الناس أختها؛ فإن الموعظة علينا نزلَت، وفينا نَبَتَتْ"، ثمَّ رجع إلى موضعه من الخطبة!

 

تخيَّل لو أنَّ خطيب الورقة قاطعه أحَد الحاضرين بسؤال في مضمون خطبته، كيف سيكون الرد؟

إنها اللجلجة والاضطراب، وغرق الخطيب في بِحار من العرق.

 

6 - إن الارتجال سنَّة الفصحاء والبلغاء:

قال الجاحظ في وصفهم: "وكل شيءٍ للعرب فهو بديهةٌ وارتجالٌ، وكأنه إلهامٌ، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالةُ فكرٍ ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى الرَّجز يوم الخصام، أو حين أن يَمْتَحَ على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المُناقَلَة، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني أرسالًا، وتَنْثالُ عليه الألفاظ انثيالًا، ثم لا يقيِّده على نفسه، ولا يدرِّسه أحدًا من وَلَده...، وكانوا أمِّيِّين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلَّفون، وكان الكلام الجيِّد عندهم أَظْهَر وأكثر، وهم عليه أَقْدَر وأَقْهَر، وكلُّ واحدٍ في نفسه أَنْطَق، ومكانه من البيان أَرْفَع، وخطباؤهم أَوْجَز، والكلام عليهم أَسْهَل، هو عليهم أَيْسَر من أن يفتقروا إلى تحفُّظٍ، أو يحتاجوا إلى تَدارُسٍ، وليسوا كمَنْ حفظ علم غيره واحتذى كلامَ مَن كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والْتحم بصدورهم، واتَّصل بعقولهم من غير تكلُّفٍ ولا قصدٍ، ولا تحفُّظٍ ولا طَلَبٍ".

 

 

المصدر/ الألوكة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات