اقتباس
وأما مَن قام من مكانِه لحاجةٍ، فهو أحقُّ بمكانه إذا رجعَ إليه؛ فقد قال رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إذا قام أحدُكم من مجلسِهِ ثم رجع إليه، فهو أحقُّ به"(53)، قال السّعدي: "أما كونُه يقدِّمُ ولدَه أو خادمَه ويتأخَّرُ هو، ثم إذا حضر قام عنه، فهذا لا يجوزُ، ولا يحِلُّ له ذلك بلا شكٍ"(54)، ومثال ذلك حجزُ الأماكنِ بالفرُشِ والسَّجاجيد؛ فإنَّ هذا لا يجوزُ، وللداخلِ أنْ يرفعَ المصلَّى المفروشَ.
ذكرنا أيها الحبيب في الجزأين السابقين من المقالة بعضا من الأحكام المتعلقة بالجمعة والمستمع وفي هذا القاء نجدد الحديث معكم بالحديث حول ما يتعلق بأحكام المستمع من أحكام ومسائل...
آداب المصلي يوم الجمعة:
يُشرَع لِمَن وجبت عليه صلاةُ الجمعةِ بعض الآداب، نذكرُها ونبيِّنُ أحكامَها، وبالله التَّوفيق:
1-الاغتسال: والرَّاجح أنَّ وقتَ الغُسل يبدأ من طلوع الفجرِ، وهو مذهبُ الحنفيَّة والشافعيَّة والحنابلةِ.
2-التنظُّف والتجمُّلُ للجمعة: وذلك بأن يلبس الثِّياب الحسنة، ويتَسوَّك، ويتَطيّب، بل يُستَحَبُّ أنْ يَجعَلَ للجمعةِ ثيابًا خاصَّةً؛ لقولِه-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "ما على أحدِكم لو اشترى ثوبيْنِ ليومِ الجمعةِ سوى ثوبَيْ مِهنتِه"(1).
3-التَّبكير في الذهاب للجمعةِ: فقد قالَ رسولَ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَن اغتسلَ يوم الجمعةِ غُسلَ الجنابةِ، ثم راح، فكأنَّما قرَّبَ بدَنةً-يعني جَمَل-، ومَن راح في السَّاعة الثانية فكأنَّما قرَّبَ بقرةً، ومَن راح في الساعة الثَّالثة فكأنَّما قرَّبَ كبشًا أقرنَ، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنَّما قرَّب دجاجةً، ومَن راح في السَّاعة الخامسة فكأنَّما قرَّب بيضةً، فإذا خرج الإمامُ،-يعني قبل صعودِه المِنْبرَ-حضَرت الملائكةُ يستمعون الذِّكْر"(2)، والرَّاجح أنَّ الساعاتِ هي أوَّلُ ساعاتِ النَّهار، (يعني تُحسَب عدد الساعات من الفجر إلى الجمعة ثم تُقسمها على خمس ساعات؛ لأن الحديث السابق ذكرَ خمس ساعات فقط)، وقد ثبت في حديثِ جابرٍ-رضي الله عنه-: "يومُ الجمعةِ اثنتا عشْرةَ ساعةً"(3)، ومعلومٌ أنه في زماننا لا يتم فتح المسجد إلا قبل الجمعة بساعتين على الأكثر، فلذلك ينبغي للعبد أن يحتسب الأجر وأن يعمل بقول الله تعالى: ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? [التغابن: 16].
تنبيه:
يُستَحَبُّ الذَّهابُ-ماشيًا-لمن لا يشقُّ ذلك عليه؛ لِمَا ثبت في الحديث: "مَن غسَّل واغتسلَ، وبكَّر وابتكر، ومشَى ولَم يركبْ، ودنا من الإمام فاستمعَ ولم يَلْغُ، كان له بكلِّ خُطوةٍ عملُ سنةٍ: أجرُ صيامِها وقيامِها"(4)، قال ابن عُثيمين-رحمه الله-: "لكن لو كان منزلُه بعيدًا، أو كان ضعيفًا أو مريضًا، واحتاج إلى الرُّكوب، فكونُه يرفُقُ بنفسِه أَوْلى من أنْ يشقَّ عليها"(5).
4-عدم تخطِّي الرِّقاب: فعن عبدِالله بن بُسْرٍ-رضي الله عنه-أنه قال: جاء رجُلٌ يتخطَّى رقابَ النَّاس يوم الجمعة، والنبيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم-يخطب، فقال له رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "اجلِسْ؛ فقد آذَيْتَ"(6).
وقد اختلف العلماءُ في حُكْم تخطِّي الرِّقاب؛ فيرى بعضُهم الكراهةَ، ويرى بعضُهم التَّحريمَ، وقد صرَّحَ الشافعيُّ بالتَّحريم، واختاره النَّوويُّ، واختاره كذلك شيخُ الإسلام ابنُ تيميَّة، ويُستثنى من ذلك الإمامُ، وكذلك مَن كان أمامه فرجةٌ لا يَصِلُ إليها إلا بالتخطِّي.
5-ويدنو من الإمام: فقد قال النبيِّ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَن غسَّل واغتسل، ودنا وابتكر، واقترب واستمع، كان له بكلِّ خُطوةٍ يخطوها قيامُ سنةٍ وصيامُها"(7).
6-لا يقيمنَّ أحدًا من مجلسِه ليجلسَ هو: فقد قال رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا يقيم أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالفُه إلى مقعدِه، ولكنْ ليقلْ: أَفسِحوا"(8)، واعلم أنَّ هذا الحُكم عامٌّ، سواءٌ للجمعة ولغيرِها؛ لِمَا ثبت عنه-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنه: "نهى أن يُقامَ الرَّجُل من مجلسِه، ويجلس فيه، ولكن تفسَّحوا وتوسَّعوا"(9).
وأما مَن قام من مكانِه لحاجةٍ، فهو أحقُّ بمكانه إذا رجعَ إليه؛ فقد قال رسولُ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إذا قام أحدُكم من مجلسِهِ ثم رجع إليه، فهو أحقُّ به"(10)، قال السّعدي: "أما كونُه يقدِّمُ ولدَه أو خادمَه ويتأخَّرُ هو، ثم إذا حضر قام عنه، فهذا لا يجوزُ، ولا يحِلُّ له ذلك بلا شكٍ"(11)، ومثال ذلك حجزُ الأماكنِ بالفرُشِ والسَّجاجيد؛ فإنَّ هذا لا يجوزُ، وللداخلِ أنْ يرفعَ المصلَّى المفروشَ.
قال ابنُ عثيمين: "لأنَّ القاعدة: ما كان وضعُه بغير حقٍّ، فرفعُه حقٌّ"(12)، وهذا اختيارُ ابن تيميَّة-رحمه الله(13)، لكنَّ هذا الحكمَ مقيَّدٌ إذا كان لغيرِ عذرٍ، أمَّا إذا وضع هذه الفرشَ لحاجةٍ، فهو أحقُّ بمكانِه، كأنْ يُضطرَّ للخروجِ للوضوء، أو الذَّهاب لأطراف المسجدِ ونحو ذلك، فهو أحقُّ بمكانِه إلا إنْ أُقيمت الصَّلاة، فله رفعُ الفرش، والصَّلاةُ في أماكنِها، وعلى كلٍّ فليحذَرِ المرءُ النِّزاعَ والخلافَ ووقوعَ المفاسدِ، والله أعلم.
7-يصلِّي ركعتين: أعني قبل أن يجلسَ، حتى ولو كان الإمامُ يخطُب؛ لقولِه-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إذا جاء أحدُكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمامُ (يعني صعد المنبر)، فليُصلِّ ركعتين، وليتجوَّزْ فيهما-يعني لِيُخَفِف هاتين الركعتين بدون الإخلال بالواجبات، كالاطمئنان في الركوع والسجود ونحو ذلك"(14).
وبهذا تعلمُ أنَّ ما يفعلُه كثيرٌ من الخطباء من نَهْيِ النَّاسِ عن الصَّلاة: تصرُّفٌ باطلٌ؛ وجهلٌ مِنهم بالسنَّة، وأما احتجاجُهم بحديث: "إذا صعِدَ الخطيبُ المِنبر، فلا صلاةَ ولا كلامَ"، فهو حديثٌ موضوعٌ.
8-إذا كان الإمامُ لَم يخرجْ: صلَّى تحيَّةَ المسجدِ، ثم له بعد ذلك أن يصلِّيَ ما شاء من التطوُّعِ، وله أن يجلسَ لانتظاره، فإذا خرج الإمامُ: جلس واستمع، فقد قال النبيُّ-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "لا يغتسلُ رجُلٌ يوم الجمعةِ ويتطهَّرُ بما استطاع مِنْ طُهْرٍ ويدَّهنُ مِن دُهنِهِ، أو يمسُّ من طِيبِ بيتِه، ثم يرُوحُ إلى المسجدِ، ولا يفرِّقُ بين اثنين، ثم يصلِّي ما كُتب له، ثم يُنصتُ للإمام إذا تكلَّمَ، إلا غُفِر له ما بين الجمعةِ إلى الجمعةِ الأخرى"(15).
واعلم أنّ هذه الصَّلاةُ ليست سنَّةً قبليَّةً للجمعة، بل هو تطوُّعٌ مطلَقٌ حتى يخرج الإمامُ، قال العراقيُّ: "لَم يُنقَلْ عن النبيِّ-صلَّى الله عليه وسلَّم-أنَّه كان يصلِّي قبل الجمعةِ؛ لأنَّه كان يخرجُ إليها فيؤذَّنُ بين يديه، ثم يخطُب"(16)، ويُلاحَظُ أنه يُكرَه الجلوسُ حِلَقًا قبل الصَّلاة؛ لِمَا ثبت أنَّ رسولَ الله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "نهى عن الشِّراء والبيعِ في المسجدِ، وأنْ تُنشَدَ فيه ضالَّةٌ، وأنْ يُنشدَ فيه شعرٌ، ونهى عن التحلُّقِ قبل الصَّلاة يوم الجمعةِ"(17).
9-يَحرُم الكلامُ والإمام يخطُب: لقوله-صلَّى الله عليه وسلَّم-: "إذا قلتَ لصاحبِك يوم الجمعةِ: أنصِتْ، والإمامُ يخطُب، فقد لغَوْتَ -يعني ضاع ثوابُ جمعتك أو قلّ"(18)، ولكنْ يُلاحَظ أنه لو أشارَ له بالسكوت دونَ أن يتكلم فلا حرج، وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ومَن مَسَّ الحصى فقد لغى" فالمعنى-واللهُ أعلم-: الانشغال بشيءٍ عن الخطبة، بمعنى أنه لو لمس سجاد المسجد ناسياً، أو بدون أن يقصد فليس عليه إثم، ولكنْ العبرة بالانشغال واللهو.
واعلم أنه يتعلَّق بذلك بعض المسائلُ:
منها: يجوز الكلامُ قبل شروع الإمامِ في الخُطبة -أي: حالَ جلوسِه على المنبر-وذلك لِمَا ثبت أنَّهم كانوا يتحدَّثون يوم الجمعةِ وعمرُ جالسٌ على المِنبر، فإذا سكت المؤذِّنُ قام عمرُ فلم يتكلَّمْ أحدٌ حتى يقضيَ الخُطبتين كلتَيْهما، فإذا قامت الصَّلاةُ ونزل عمرُ-أي مِن على المنبر وقبل الصلاة -: تكلَّموا(19).
ومنها: اختلفوا في الكلام بعد الخُطبة، وقبل الصَّلاة، فذهب بعضُهم إلى جوازِه، وذهب أبو حنيفةَ إلى كراهتِه، ومنها: جوازُ تكليمِ الخطيب بعضَ المصلِّين وتكليمهم له، إذا كان هناك مصلحةٌ، أو حاجةٌ للكلام، قال ابنُ القيِّم رَحِمَهُ الله: "وكان يقطعُ خُطبتَه للحاجةِ تَعرِض، أو السُّؤال من أحدٍ مِن أصحابه، فيُجيبه، ثم يعودُ إلى خُطبتِه فيتمُّها، وكان ربما نزل عن المِنبر للحاجة، ثم يعودُ فيتمُّها كما نزل لأخذِ الحسَنِ والحُسين-رضي الله عنهما- فأخذهما ثم رقِيَ - أي: صعد - بهما المِنبر فأتمَّ خُطبته، وكان يدعو الرَّجُل في خُطبته: تعالَ يا فلان، اجلِسْ يا فلانُ، صلِّ يا فلانُ، وكان يأمرُهم بمقتضى الحال في خُطبته، فإذا رأى ذا فاقةٍ وحاجةٍ، أمرَهم بالصَّدقة، وحَضَّهم عليها(20).
ومنها: اختلافُهم في الكلام المرغَّب فيه؛ مثل تشميتِ العاطسِ، وردِّ السَّلامِ، ونحو هذا، فمنَعَ منه قومٌ، وأجازه آخرونَ.
بدع وأخطاء في يوم الجمعة (متعلقة بالمستمعين):
أحدَثَ النَّاسُ كثيرًا من البِدَعِ والمخالفاتِ يوم الجمعة، نذكر أهمَّها:
ومنها: إذا جلس الخطيبُ بين الخُطبتين صاح مقيمُ الشَّعائر بالدُّعاء والتَّأمين وأمَّنَ النَّاس من ورائه.
ومنها: اتِّخاذُ منابرَ زائدةٍ عن ثلاث درجاتٍ، قاطعةً للصُّفوف.
ومنها: صلاةُ سنَّةٍ قبْليَّةٍ للجمعة؛ إذ ليس للجمعة سنَّةٌ قبْليَّة، وأما السنَّة البَعْدية فثابتةٌ، وقد تقدَّم ذلك.
ومنها: تقديم بعضِهم مفارشَ إلى المسجد يوم الجمعة يحجزون بها أماكنَهم.
ومنها: القعود تحت المِنبر وقت الخُطبةِ طلبًا للاستشفاء.
ومنها: قيامُ بعض الحاضرين في أثناء الخُطبة الثَّانية يصلُّون تحيَّةَ المسجد، والصَّحيحُ أن تحيَّةَ المسجد تُصلَّى عند قدومِهِ للمسجدِ مباشرةً حتى ولو كان الخطيبُ يخطُب.
ومنها: قيام البعض بصلاةِ الظُّهر بعد الجمعة، وهذه بدعةٌ لا دليلَ عليها.
ومنها: قيامُ البعض على باب المسجد يوم الجمعة يحمل طفلاً، يعقِد بين إبهامَيْ رِجْلَيْهِ بخيطٍ، ثم يطلب قطعَه أو حلَّ عُقدتِه مِن أوَّلِ خارجٍ من المسجد؛ يزعمون أنَّ الطِّفلَ ينطلق ويمشي بعد أسبوعين من هذه العمليَّة.
والله-تعالى-أعلم وصلى الله وسلم على محمد، وآله، وأصحابه، والتابعين، ومن تبعهم-بإحسان-إلى يوم الدين.
______
[*] مُختَصَرَة من كتاب (تمام المِنّة في فِقه الكتاب وصحيح السُنّة) لفضيلة الشيخ عادل العزّازي أثابه الله لمن أراد الرجوع للأدلة والترجيح.
[1] صحيح: رواه أبو داود (1078) وابن ماجه (1095).
[2] البخاري (881)، ومسلم (850)، وأبو داود (531)، والترمذي (499)، والنسائي (3/99)، ورواه ابن ماجه (1092) نحوه.
[3] صحيح: رواه أبو داود (1048)، والنّسائي (3/99).
[4] صححه الألباني، رواه أحمد (4/8)، وأبو داود (345)، والترمذي (496)، والنسائي (3/95)، وابن ماجه (1087)، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم (1/281).
[5] الشرح الممتع (5/118).
[6] صحيح: أبو داود (1118)، والنسائي (3/103)، وأحمد (4/190).
[7] صحيح: رواه أبو داود (345)، والترمذي (496)، وحسنه، والنسائي (3/95)، وابن ماجه (1087).
[8] مسلم (2178)، وأحمد (3/295، 342).
[9] البخاري (6270)، ومسلم (2177)، وأبو داود (4828)، والترمذي (2750).
[10] مسلم (2179)، وأحمد (2/283).
[11] المختارات الجلية.
[12] الشرح الممتع (5/134).
[13] الاختيارات الفقهية (ص 149)، وانظر مجموع الفتاوى (24/216).
[14] البخاري (1170)، ومسلم (875)، والنسائي (3/101).
[15] البخاري (883، 910)، والنسائي (3/104)، وأحمد (5/338، 340).
[16] نقلاً من كتاب نيل الأوطار (3/313).
[17] حسن: رواه أبو داود (1079)، والنسائي (2/47)، والترمذي (322) وحسنه، وابن ماجه (749).
[18] البخاري (934)، ومسلم (851)، وأبو داود (1112)، والترمذي (512)،والنسائي (3/103)، وابن ماجه (1110).
[19] رواه الشافعي في مسنده (1/139 -ترتيب المسند).
[20] زاد المعاد (1/427).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم