اقتباس
ظل الوضع القتالي متجمدًا طيلة أربعة أشهر؛ حتى تمكن أحد القساوسة الألمان واسمه أوليفر من بناء آلة حصار بحرية متطورة؛ تمكن الصليبيون-من خلالها-من الاستيلاء على برج السلسلة الذي كان بمثابة قفل الديار المصرية، وبوابة نهر النيل المحكمة، وذلك بعد قتال في غاية الشراسة، ومن شدة وقع الخبر على السلطان العادل الأيوبي أنه تأوه تأوهًا شديدًا، وخر مريضًا من ساعته؛ وتوفى بعد عدة أيام من الخبر.
وهي التي تعرف-تاريخيًا-بالحملة الصليبية الخامسة، والتي برز فيها-لأول مرة، وبقوة لافتة-أهمية البحرية النيلية في الصراع البحري المحتدم بين العالم الإسلامي وأوروبا الصليبية، وتلك المعركة، وما تلاها من معارك على صفحات نهر النيل؛ أثبتت المقولة التاريخية الشائعة بأن النيل هو مقبرة الغزاة.
الحملات الصليبية من الشام إلى مصر:
انطلقت الحملات الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، وأواخر القرن الخامس الهجري، وحقق الصليبيون-في بادئ الأمر-نصرًا سريعًا على المسلمين في الشام؛ لتشرذم الصف، وانتشار البدع، والرفض، وضعف الخلافة العباسية، والفاطمية، على حد سواء. ولكن بمرور الوقت؛ بدأ المسلمون يستفيقون من غفلتهم، وأخذوا يقارعون الصليبيين في مواقع كثيرة، وهذه الاستفاقة؛ أوقفت عجلة التوسع الصليبي، التي كانت على وشك ابتلاع العالم الإسلامي بأسره.
ومع زيادة صلابة المقاومة الإسلامية في الشام؛ بدأ الصليبيون في التطلع لجبهة جديدة أكثر ثراءً وأقل ممانعة، فتطلعت أبصارهم تجاه بلاد مصر الواسعة، والتي كانت-وقتها-تترنَّح تحت الحكم الفاطمي الخبيث، وتعاني فراغًا سياسيًا كبيرًا، وكان بلدوين الثالث (ملك بيت المقدس) هو أول من فكر في غزو بلاد مصر واحتلالها، وكانت مخاوف الصليبيين؛ تزداد يومًا بعد يوم؛ خشية أن تتحد الشام ومصر في جبهة واحدة؛ لا يبقى للصليبيين بعدها موطأ قدم في العالم الإسلامي، وكان عموري الأول خليفة بلدوين الثالث؛ يدعو ملوك أوروبا-باستمرار-؛لشن حملات صليبية على مصر، ويكتب إلى لويس التاسع (ملك فرنسا) يُهَوِّنُ عليه احتلال مصر فيقول: "إن بلبيس والقاهرة جبنة وزبدة يأكلها بسهولة".
ومن هذا المنطلق؛ شن عموري الأول: أربع حملات بحرية وبرية؛ لاحتلال مصر، من سنة 658هـ حتى سنة 665هـ، ولكنه فشل؛ بسبب بسالة وقوة القوات الشامية بقيادة أسد الدين شيركوه، وصلاح الدين الأيوبي، وهي القوات التي أرسلها السلطان العادل نور الدين محمود.
نهر النيل والحملات الصليبية:
نهر النيل يتصل بالبحر المتوسط-عند فرعي دمياط ورشيد-؛ لذلك كان معظم الحملات الصليبية البحرية الغازية لبلاد مصر؛ تستهدف مدينة دمياط؛ لصلاحيتها أكثر من رشيد؛ لرسو السفن ونزول الجند، ولقد كان نهر النيل مسرحًا لمعارك طاحنة بين الصليبيين والمسلمين، وعلى صفحاته اشتبكت الأساطيل الإسلامية والصليبية في عشرات المعارك.
لما استتب الأمر لصلاح الدين-في حكم مصر-شرع في تحصين فرع دمياط، الذي أصبح هدفًا مفضلاً، ولربما –الأوحد-للهجمات البحرية الصليبية، سواء الآتية من أوروبا، أو الآتية من الشرق، فبنى-عند مدخل فرع دمياط- برجاً عالياً في وسط النيل، وشحنه بالمقاتلين، وأطلق عليه اسم برج (السلسلة) إذ كانت تمتد منه سلسلتان: أحدهما: تتجه على النيل، إلى دمياط، إلى الضفة الشرقية، والأخرى: تتجه إلى الشاطئ الغربي المواجه لدمياط، كلاهما يشكل قفلاً للديار المصرية، وكان الخليفة العباسي المتوكل على الله، هو أول من بنى هذا البرج في أعقاب الهجوم البيزنطي على دمياط سنة 238هـ، وسبق أن تكلمنا عن هذا الهجوم، وبجانب برج السلسلة؛ اهتم صلاح الدين بتحصين أسوار دمياط، حتى إنه قد استخدم في بناء سور دمياط أحجارَ بعضِ الأهرامات الصغيرة المتناثرة في الجيزة.
وبعد رحيل صلاح الدين سنة 589هـ؛ سار أخوه السلطان العادل أيوب بكر الأيوبي، على نفس النهج، فاهتم بتحصين دمياط، وبنى مدينة العادلية-جنوبي دمياط على الضفة الشرقية للنيل-، وجعلها مدينة عسكرية من الطراز الأول، إذ شحنها بالرجال والسلاح، وأوقفهم؛ للدفاع عن دمياط، ولكن كل هذه التحصينات الدفاعية؛ لم تغير من عزم الصليبيين من غزو مصر عبر بوابة دمياط.
البابا إنوسنت الثالث والعالم الإسلامي:
خلال تاريخ الحملات الصليبية التي استمرت لقرنين من الزمان؛ اعتلى كرسي البابويه: العديد من الباباوات، الذين كان لهم أدوار بدرجات متفاوتة في إطلاق شرارة الحملات الصليبية، وعلى الرغم من أن البابا أوربان الثاني هو الذي دشن سلسلة الحملات الصليبية في مجمع كلير مونت سنة 485هـ -1095م، فإن البابا إنوسنت الثالث (1198م – 1216م) – (595هـ -613هـ) كان أشد الباباوات حماسة في محاربة العالم الإسلامي، وأكثر تخطيطًا وتدبيرًا في سبل العداوة والكراهية، وفي عهده وقعت حملتان صليبيتان، الرابعة والخامسة.
إنوسنت الثالث كان على اقتناع كامل بأنه سيد العالم، وأنه أدنى من الله وأعلى من البشر، وأنه قاضي القضاة الذي لا يقاضيه أحد، وكان أول بابا يصف نفسه بنائب المسيح، وليس خليفة القديس بطرس، كما كان يقول أسلافه من الباباوات.
إنوسنت الثالث وضع لكرسي البابويه سياسة منتظمة؛ يضمن بها السيادة الزمانية والمكانية-في نفس الوقت-على نصارى العالم، وأرغم ملوك أوروبا على الخضوع لأوامره ونواهيه، ومن تمرد منهم مثل: جون (ملك إنجلترا)، وجوانينزا (ملك بلغاريا)، أدبه أدبًا شديدًا، وحصل إلى حد الإذلال والإهانة.
ولإحكام قبضته على العالم بأسره-كما أحكمها على أوروبا-؛ شن إنوسنت الثالث الحملة الصليبية الرابعة، التي حققت حلم البابويه القديم؛ بإخضاع كنيسة القسطنطينية، أو الكنيسة الشرقية لسلطان الكنيسة الغربية، أو كنيسة روما وذلك سنة 1204م الموافق 600هـ، ثم التحضير للحملة الصليبية الخامسة على مصر التي كان يقول عنها: "إنها رأس الأفعى الذي يجب قطعه حتى لا تقوم للعالم الإسلامي بعدها أي قومة"، وكان إنوسنت الثالث حريصًا على أن تكون الحملة الخامسة مشروعًا بابويًا خالصًا، بل مشروعه الخاص به؛ لذلك بادر بإرسال إنذار إلى السلطان العادل الأيوبي سنة 613هـ بضرورة تسليم بيت المقدس للصليبيين؛ وإلا سوف يعرض بلاده لحملة صليبية ضخمة، وكان ذلك الإنذار حتى قبل أن يستشير ملوك وأمراء أوروبا، ويعلم مدى استعدادهم لمثل هذه المغامرات الكبيرة، وذلك لتأكيد سيطرته وسطوته في نفس الوقت، ولكن القدر لم يمهله ليرى حملته الخامسة، إذ أهلكه الله-عز وجل-في نفس السنة 613هـ - 1216م قبل أن تتم الاستعدادات لهذه الحملة وخلفه البابا المسن (هونريوس الثالث) وهو الذي سيطلق تلك الحملة الضخمة على العالم الإسلامي.
ملحمة الأربع سنوات:
وضعت للحملة الصليبية الخامسة عدة أهداف، أهمها: احتلال مصر، والقضاء على مركز المقاومة في العالم الإسلامي، واستعادة بيت المقدس، ومنها-أيضًا-تحقيق رغبة المدن التجارية الإيطالية [نابولي – جنوة – البندقية – أمالفي] في السيطرة على تجارة البحر المتوسط، وضرب اقتصاديات العالم الإسلامي، ومن أهدافها-أيضًا-الانتقام لما جرى للصليبيين في معركة حطين الخالدة سنة 583هـ -1187م.
بدأت طلائع الصليبيين في التوافد على ميناء عكا عن طريق البحر، وتكاثرت بصورة عظيمة على السلطان العادل الأيوبي، وكان يؤثر السلامة ويكره الصدام، يختلف كثيرًا عن أخيه السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، فبعد أن خرج بجنوده من مصر؛ لوقف تقدم الصليبين؛ هاله ضخامة أعدادهم؛ فانسحب إلى نابلس، فعاث الصليبيون فسادًا في فلسطين، والعادل في مكانه لا يجرؤ على مهاجمتهم.
وكانت الحملة الصليبية تضم العديد من ملوك وأمراء أوروبا، ومن الضخامة بمكان؛ يتعذر معه توفير المؤن والتموين اللازم لها، كما أن قادة الحملة كانوا أهواء شتى، لا يجتمعون على خطة أو استراتيجية واحدة، ومما زاد الطين بلة في هذه الحملة الضخمة؛ وجود الكاردينال (بلاجيوس) البرتغالي، وكان مندوب كرسي البابويه، ومن أخلص تلاميذ البابا الهالك إنوسنت الثالث، هذا الرجل كان ذا طاقة هائلة في التحريض ضد المسلمين، ولكنه كان ضيق الأفق، قصير النظر، شديد العناد، مستبدًا برأيه، مغرمًا بنفسه، جعل من نفسه قائدًا عسكريًا، ومفاوضًا دبلوماسيًا، ومحرضًا دينيًا في آن واحد، وبالجملة كان وجوده؛ من أهم أسباب فشل الحملة الصليبية الخامسة، وكانت قراراته وآراؤه نقمة على تحركات الصليبيين، ونعمة مهداة للمسلمين من حيث لا يعلمون.
كانت الخطة الأساسية للحملة تنص على إنزال بحري ضخم، يقوم به الأسطول الصليبي على دمياط في مصر، بحيث يتم الاستيلاء على مصر، وبعدها بلاد الشام، ولكن الواقع سار على عكس الخطة الأصلية، إذ أخذ الصليبيون في شن الغارات على المدن الشامية في فلسطين وما حولها، مما أدى؛ لتأخير سير الحملة-طويلاً-قبل التوجه إلى دمياط هدف الحملة الأصلي، وفي بداية سنة 615هـ رحل الملك المجري أندرو، ومعه عدد كبير من الصليبيين والمؤن، فاضطرت الحملة للتوقف عن العمليات الحربية؛ حتى وصول إمدادات جديدة من أوروبا.
وصلت إمدادات كبيرة من هولندا (وكانت تسمى وقتها فريزيا والأراضي المنخفضة) وكذلك روما إلى ميناء عكا، وتقرر البدء في الهجوم البحري الكبير على دمياط، وفي 27 مايو سنة 1218م – 615هـ؛ وصلت طلائع الأسطول الصليبي الضخم إلى ميناء دمياط، وعسكرت الحملة على الضفة الغربية لفرع دمياط، وكان نزول هذا الأسطول الضخم؛ صادمًا للسلطان العادل الأيوبي، وولده الأمير الكامل محمد (والي مصر ونائب أبيه في حكمها)؛ فخرج الكامل بالجيش المصري كله؛ للدفاع عن دمياط، وعسكر في مدينة العادلية؛ استعدادًا لصد الهجوم الصليبي.
ظل الوضع القتالي متجمدًا طيلة أربعة أشهر؛ حتى تمكن أحد القساوسة الألمان واسمه أوليفر من بناء آلة حصار بحرية متطورة؛ تمكن الصليبيون-من خلالها-من الاستيلاء على برج السلسلة الذي كان بمثابة قفل الديار المصرية، وبوابة نهر النيل المحكمة، وذلك بعد قتال في غاية الشراسة، ومن شدة وقع الخبر على السلطان العادل الأيوبي أنه تأوه تأوهًا شديدًا، وخر مريضًا من ساعته؛ وتوفى بعد عدة أيام من الخبر.
لم يكن غياب السلطان العادل الأيوبي مؤثرًا في سير العمليات القتالية على أرض الميدان، بقدر ما كان مؤثرًا في سير العملية السياسية بين أبناء السلطان (العادل)، إذ وقع الخلاف بين الأمراء في مصر والشام، ففي الوقت الذي كان فيه الأمير الكامل محمد مشغولاً لهامته في قتال الصليبيين عند دمياط، ويستخدم كافة الوسائل المتاحة؛ لوقف تقدم الحملة، حتى أنه قد سد مجرى النيل؛ ليعيق تقدم الحملة فيه، ويبذل كل ما في وسعه؛ لمقاومة جحافل الصليبيين، في هذا الوقت؛ كان أخوه الصغير الملقب (بالفائز) يخطط-بالتعاون مع الأمراء الأكراد وقائدهم (عماد الدين ابن المشطوب)-للانقلاب على أخيه الكامل، وعزله عن حكم مصر، وسبحان الله! في مثل هذه الظروف العصيبة، والعدوان الصليببي الضخم؛ يفكر أرباب الدنيا والطامعون في السلطة مثل هذا التفكير.
كانت تلك المؤامرة؛ كفيلة بتغير دفة القتال-تمامًا-؛ إذ خاف الأمير الكامل-على نفسه-من غدر أخيه والمتآمرين معه؛ ففارق معسكره-ليلاً-هاربًا بحياته، تاركًا-خلفه-قواته بلا قيادة ولا تدبير؛ فلما أصبح الجند، ولم يجدوا سلطانهم؛ ركب كل واحد هواه، وتركوا أثقالهم، وخيامهم، وأموالهم، وأسلحتهم، وفروا في كل اتجاه، وعبر الصليبيون إلى العادلية في 6 ذي القعدة سنة 616هـ، فلم يجدوا فيها سوى الغنائم الثمينة؛ فأخذوها باردةً بلا نقطة دم واحدة، وأحاطوا بدمياط من البر ومن البحر.
كانت دمياط قبل تلك الأحداث المؤسفة في مأمن من العدو؛ إذ كان النيل يفصل بينهما، والإمدادات تصلها بسهولة من العادلية، ولكن مع تغير الظروف واستيلاء الصليبيين على العادلية؛ تحرج موقف دمياط للغاية، في ظل حصار صليبي عنيف.
استطاع السلطان الكامل محمد أن يتغلب على مؤامرة أخيه الفائز؛ وذلك بمساعدة أخيه سلطان دمشق (المعظم عيسى)، وتم طرد المتآمرين، وبعدها نهض الكامل؛ لمحاربة الصليبيين، وفك الحصار عن دمياط، وكان يحاول الاتصال بأهل دمياط، ليرفع من روحهم المعنوية، فعهد إلى جندي من خاصة جنوده يسمى (شمايل) بأن يقوم بهذه المهمة الخطيرة، فكان يسبح في النيل-ليلاً-تحت سفن الصليبيين المحاصرة لدمياط، ويحمل لأهل دمياط المال والرسائل والأخبار وهكذا.
ظلت دمياط صامدةً للحصار البحري والبري، قرابة السنة، حتى عصف الجوع والتعب والمرض بأهلها، وأوشكت على السقوط، مما حدا بالسلطان الكامل: بأن يعرض على الصليبيين عرضًا في غاية الكرم، والتخاذل، والجبن-في نفس الوقت-؛ إذ عرض عليهم التنازل عن جميع ما فتحه عمه صلاح الدين؛ نظير أن يرحلوا عن دمياط، أي عرض عليهم تسليم بيت المقدس، وعسقلان، وطبرية، وصيدا، وجبلة، واللاذقية، وأي ما يعني بعبارة أخرى؛ إعادة الممالك الصليبية القديمة كما كانت قائمة سنة 543هـ، وإهدار كل دماء الشهداء، وجهاد السنين نظير السلام العادل الشامل!.
أعجب ما في الأمر أن الصليبيين قد رفضا هذا العرض السخي، وكان الملك حنا برين (وريث عرش بيت المقدس)، والصليبيون الفرنسيون، والصليبيون المستوطنون في فلسطين؛ يجندون قبول العرض السلطاني؛ لأنه ضمن عودة بيت المقدس، وغيرها من البؤر الصليبية القديمة، ولكن الكاردينال الأحمق (بلاجيوس) رفض العرض وأيده في ذلك الإيطاليون وفرسان الرهبنة –الداوية والاستبارية –ولقد كان غرور (بلاجيوس)؛ دافعًا لرفضه لهذا العرض الذي لا يرفضه عاقل-أبدًا-، وعلى ما يبدو أن تخاذل السلطان الكامل قد أغرى (بلاجيوس)؛ لأن يغير أهداف الحملة من الاستيلاء على بيت المقدس، أو دمياط، إلى غزو المنطقة الإسلامية بأسرها، ومن عجائب القدر أن هذا الرفض كان سببًا لانتصار المسلمين في دمياط.
وفي يوم 25 شعبان سنة 616هـ/ 5 نوفمبر 1219م؛ اقتحم الصليبيون مدينة دمياط، بعد صمودهم البطولي، وما إن دخلوها؛ حتى ارتكبوا واحدةً من مجازرهم الدموية الشهيرة، وأخذوا في صبغ دمياط بالصبغة الصليبية؛ فحولوا جوامعها إلى كنائس، وحصنوا أسوارها، وبثوا سراياهم في القرى المحيطة؛ يقتلون، وينهبون، ولكن الخلافات الجانبية بين زعماء الحملة؛ جعلت العمليات القتالية؛ تتوقف لعام ونصف، وذلك من صنع الله-عز وجل-لعباده المؤمنين، فإن الصليبيين قد اختلفوا في زعامة دمياط وملكيتها، ففي حين رأى حنا برين أحقيته بملكية دمياط، حتى إنه قد أمر بسك عملة جديدة عليها صورته بلقب (ملك دمياط)، وفي المقابل أعلن الكاردنيال (بلاجيوس) أن دمياط ملك لكل النصارى الذين تمثلهم البابويه؛ فغضب حنا برين، وانسحب هو وجنوده إلى عكا، وأصبح (بلاجيوس) القائد الوحيد لهذه الجموع العرقية المشاغبة المتنافسة.
لم يجد السلطان المذعور مفرًا من القتال؛ فعسكر بقواته عند رأس بحر أشمون طناح، (في المنزلة التي عرفت بعد ذلك باسم المنصورة؛ تيمنًا بانتصاره)، وكان-هنا-الموضع استراتيجيًا لحد كبير، فهو موضع مثلث، حصين بضلعين مائيين هما (البحر الصغير والنيل)، فلا يستطيع الصليبيون أن تصل إليه برًا؛ إلا بعد عبور البحر الصغير؛ المعروف بشدة انحدار جانبيه وسرعة تياره، وفي نفس الوقت كانت الإمدادات تأتي على معسكر السلطان من إخوته بالشام، ومن سائر أقاليم مصر، وأحسن السلطان الكامل استغلال فترة التوقف في تحصين موقعه؛ حتى أصبح مدينة متكاملة، وأقيمت بها الأسواق، والفنادق، والحمامات، وأدار الكامل عليها سورًا مما يلي البحر وستره بالآلات الحربية.
ظلت الأوضاع على سكونها حتى سنة 617هـ/1221م، وفيها أرسلت إمدادات صليبية كبيرة إلى دمياط، بقيادة لويس دوق بافاريا، وعدد كبير من السادة الإقطاعيين، كما أرسل تهديدًا-شديد اللهجة-إلى حنا برين؛ للانضمام إلى الحملة؛ وإلا تعرض للطرد، والحرمان الكنسي؛ فاستجاب على الفور، وكما تكاملت الإمدادات في دمياط؛ قرر الكاردنيال الأحمق (بلاجيوس) الزحف نحو القاهرة؛ لاحتلالها، وتقدم الصليبيون ناحية الجنوب، ونزلوا تجاه بلدة طلخا (شمالي المعسكر الإسلامي)، بحيث صار لا يفصل المعسكرين سوى قناة أو بحر أشمون، ثم التحم الفريقان في قتال بري وبحري عنيف، وقامت البحرية الأيوبية النيلية بدور هام وأساسي في تلك المعارك.
فقد تقدم الأسطول المصري بقيادة الأمير بدر الدين بن حسون في مائة سفينة مقاتلة في بحر المحلة –وهو فرع قديم لم يعد موجودًا الآن وكان يخرج من النيل قرب بنها ثم يتصل بالنيل ثانية شمالي طلخا والمنصورة أي بالقرب من ميدان القتال – واستطاع أن يقطع الطريق على السفن الصليبية القادمة من دمياط بالمؤن والذخائر إلى ميدان القتال، كما استطاع أن يستولي على عدد كبير من قطع الأسطول الصليبي بكل ما فيها من رجال وسلاح ومؤن، فتحرج موقف الصليبيين للغاية، ولكن-مع ذلك-واصلوا القتال.
الصليبيون لم يكن عندهم خبرة قتالية في البحرية النيلية، فهم قد اعتادوا على المراكب البحرية في البحر المتوسط الممتد والمتسع، ولكنهم يجهلون أسرار النيل، ومفاتيح القتال على صفحاته، وقد استغل المسلمون ذلك أحسن استغلال، فبعد الضربة التي وجهها الأسطول المصري لنظيره الصليبي؛ استغل السلطان الكامل فرصةَ فيضان النيل- وكان قد اقترب موسمه-، وانتخب جماعة من خبراء القتال البحري من المسلمين، وكلفهم بعبور بحر المحلة إلى معسكر الصليبيين، والقيام بنقب السد الموجود على النيل في عدة مواضع، والعودة-سريعًا-تحت جنح الظلام، وبالفعل نجح أبطال المسلمين الشجعان في مهمتهم الفدائية، فلما أصبح الصليبيون؛ وجدوا أنفسهم غارقين في الماء والطين، وحال الماء بينهم وبين طريق الرجوع إلى دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها سوى جهة واحدة ضيقة عند بحر أشمون، وقد سدها السلطان الكامل بالجنود والسلاح؛ فانحصر الصليبيون بذلك من سائر الجهات.
لم يكن الأمر يحتاج لطول تفكير؛ فقد أدرك الكاردنيال الأحمق أنه قد ورط حملته الصليبية في مأزق لا خروج منه، وأغرقها-بغبائه-في طين الدلتا، فلم يكن ثمة مفر من طلب السلام؛ نظير الخروج بأمان، وقبل السلطان الكامل بهذا العرض، وقد خالفه في القبول الكثير من قواده وحتى إخوته ملوك الشام، المعظم عيسى، والأشرف موسى؛ إلا أنه أصر على القبول، وكان في إمكانه إبادة الحملة الصليبية كلها، ولكن-وكما قلنا من قبل-مؤثرًا للسلامة والدعة، لا يحب الحرب والقتال، ولو أبادهم؛ لكان خيرًا له وللأمة الإسلامية؛ لأن هؤلاء الصليبين-أنفسهم- سيعاودون الكرة مرة أخرى، وعلى دمياط-أيضًا-؛ لأن روح التحريض الصليبية كانت-وما زالت-حية في أوروبا ضد العالم الإسلامي، والأيام والحوادث خير دليل على ذلك.
وهكذا انتهت الحملة الصليبية الخامسة بفشل ذريع وخسائر ضخمة للصليبيين؛ فكانت آخر حملة يقودها كرسي البابويه-بمفرده-، والفضل-بعد الله-عز وجل-يرجع للتجربة النيلية الإسلامية، التي قصمت ظهور هؤلاء الأعداء.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم