الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد.
مكروهات الطواف:
يكره للطائف أن يشبك بين أصابعه أو يفرقع بها كما يكره ذلك في الصلاة، ويكره أن يطوف وهو يدافع البول أو الغائط أو الريح، أو وهو شديد التوقان إلى الأكل وما في معنى ذلك كما تكره الصلاة في هذه الأحوال، كما يكره له أيضاً وضع يده على فيه كما يكره في الصلاة إلا أن يحتاج إليه أو يتثاءب فإن السنة وضع اليد على الفم عند التثاؤب لما رواه مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فإن الشيطان يدخله"، وفي رواية: "فليكظم ما استطاع فإن الشيطان يدخل"(1).
قال النووي ويكره الأكل والشرب في الطواف وكراهة الشرب أخف ولا يبطل الطواف بواحد منهما ولا بهما جميعا، فقد روي من وجه لا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: شرب وهو يطوف قال البيهقي وهو حديث غريب بهذا اللفظ(2).
ومن المكروهات أيضا الطواف في زمام ونحوه، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك فقطعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده وقال قده بيده(3).
ومن المكروهات الكلام في الطواف كرهه مالك قال الباجي وفي هذا ثلاث مسائل: إحداها: أن الكلام لا يبطل الطواف، والثانية: أن الكلام بغير العبادة مكروه في الطواف، والثالثة: إذا اقترن بالوقوف فالمنع أشد(4).
قلت: والصواب أن مطلق الكلام في الطواف مباح، لكن الإكثار منه من غير فائدة يكون مكروها وقد يكون محرما فيما إذا كان سباً أو غيبة ونحو ذلك، وقد يكون واجبا إذا كان لتغيير منكر ونحو ذلك.
ويكره في الطواف الدعاء الجماعي ولو كان ذلك بمتابعة المطوف كما هو الحال من كثير من الطائفين إذ الأولى أن يدعو كل إنسان بنفسه وهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان .
كما يكره أيضا إنشاد الأشعار حال الطواف وقد نص على ذلك عدد من أهل العلم منهم الإمام مالك بل قال بكراهة القراءة فيه(5).
محرمات الطواف:
من محرمات الطواف: الطواف بالبيت عرياناً، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم(6)، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما واللفظ لمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمّرَه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر "لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" ولفظ البخاري "ألا لا يحج"(7) الحديث.
ومن محرمات الطواف: أن تطوف المرأة وهي حائض لغير ضرورة قصوى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن ذلك حتى تطهر وتغتسل، لما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، قالت فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "افعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري" وفي رواية لمسلم "حتى تغتسلي"(8).
ومما يحرم في الطواف أيضاً: إطلاق الرجل نظره إلى النساء الأجنبيات وكذلك إطلاق المرأة نظرها إلى الرجال الأجانب، وهذا محرم في كل وقت، لكنه في الطواف أشد تحريماً، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور: من الآية31).
ومما يحرم أيضا إطلاق اللسان بالغيبة والنميمة والسب والشتم والمجادلة، وكافة أنواع الإيذاء سواء أكان بالقول أو بالفعل، وهذا محرم كل وقت لكنه في الطواف أشد تحريما قال تعالى: ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (الحج: من الآية 197).
الشك في الطواف:
الشك عند الفقهاء – رحمهم الله – هو التردد بين وجود الشيء وعدمه سواء كان الطرفان في التردد سواء أو أحدهما راجحاً.
أما أهل الأصول ففرقوا بينها فقالوا: التردد بين الطرفين إن كان على السواء فهو الشك وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم.
وأما التحري فهو طلب الصواب والتفتيش عن المقصود والتحري والاجتهاد والتآخي بمعنى واحد(9).
جاءت أحاديث كثيرة في الشك في الصلاة وغيرها من العبادات عن النبي صلى الله عليه وسلم: فيها بيان وإرشاد شاف لما يفعله الشاك لتصحيح عبادته، وهذه الأحاديث يستدل بها لكل عبادة طرأ فيها الشك، كالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والصوم والطلاق والعتق والطواف وغيرها، ومن هذه الأحاديث ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما واللفظ لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسجد سجدتين(10).
وفي رواية لمسلم فلينظر أحرى ذلك للصواب، وفي رواية فليتحر الصواب.
وروى مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثاً أم أربعاً فليطرح الشك وليبنِ على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماماً لأربع كانتا ترغيماً للشيطان"(11).
وروى الترمذي في سننه بسنده عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فيبن على واحدة؛ فإن لم يدر ثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على ثنتين، فإن لم يدر ثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث وليسجد سجدتين قبل أن يسلم".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن ابن عوف من غير وجه، رواه الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم(12).
وبناء على ما تقدم وغيره مما ذكره أهل العلم في الشك نقول: إذا شك الطائف في عدد الطواف فإن كان كثير الشكوك والوسوسة فإنه لا يلتفت إلى هذا الشك، وإن لم يكن كذلك فلا تخلو الحال من أن يكون شكه بعد نهاية طوافه أو في أثنائه، فإن كان بعد نهاية طوافه فإنه لا يلتفت إلى هذا الشك إلا أن يتيقن أنه ناقص فيكمل ما نقص.
وإن كان شكه في أثناء الطواف مثل أن يشك هل الشوط الذي هو فيه الرابع أو الخامس مثلاً، فإن ترجح عنده أحد الأمرين عمل بالراجح عنده وإن لم يترجح عنده شيء عمل باليقين وهو الأقل، ففي المثال السابق إن ترجح عنده أنها خمسة جعلها خمسة وأكمل طوافه بناءً عليها، وإن لم يترجح عنده شيء جعلها أربعة وأكمل طوافه بناءً عليها.
هذا وقد جاء في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء شككتُ في الطواف اثنان أو ثلاثة قال: فأوف على أحرز ذلك، قلت: فطفت أنا ورجل واختلفنا قال: وذينه وتينه، قلت أبي قال: ففعل أحرز ذلك في أنفسكما(13).
في حكم من عجز عن الطواف:
من عجز عن الطواف فهل له أن يستنيب غيره ليطوف عنه إذا كان طوافه لحج نفل أو عمرة تطوع أو كان طوافه تطوعاً، بناءً على ما نص عليه بعض الفقهاء رحمهم الله بقولهم: (إذا جازت النيابة في الكل ففي البعض من باب أولى؟)(14).
والجواب: أن النيابة في الطواف لا تجوز، وما ذكروه فيه نظر من وجهين:
الوجه الأول: أنه بموجبه تجوز النيابة في أي جزء أو منسك من مناسك الحج من غير استثناء ولو مع القدرة لأنه إذا جازت النيابة في الكل جازت في البعض من باب أولى فتجوز النيابة في الطواف وفي السعي وحتى في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة وغير ذلك، وهم لم يقولوا به، بل لم يجيزوا النيابة في الطواف والسعي ولا في حق الصغير والمريض والعاجز إذ قالوا يطاف بأي منهم محمولاً(15) فهم على هذا لم يعملوا بموجب هذه القاعدة التي ذكروها.
الوجه الثاني: عدم التسليم بأنّ ما جازت النيابة في كله تجوز في بعضه، خاصة في الحج لأننا إذا قلنا بجواز نيابة القادر في حج التطوع في الكل فلا يلزم منه أن نقول بجوازها في البعض، بل جوازها في الكل وارد وممتنع في البعض وذلك للفرق بين النيابة في كل الحج قبل الشروع فيه، والنيابة في بعضه بعض الشروع فيه لأن من تطوع بالحج أو العمرة إذا شرع في أي منهما وجب عليه إتمامه وأصبح في حكم المفروض ابتداء لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: من الآية197).
وهذه الآية نزلت قبل فرض الحج أي قبل قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران: من الآية97)، وهذا يدل على أن تلبس الإنسان بالحج أو العمرة يجعله فرضاً عليه، كما يدل على أنه فرض إذا شرع فيه قوله تعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29)، وهذا يدل على أن الشروع في الحج يجعله كالمنذور وكذلك قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) (البقرة: من الآية196)، فإنها تدل على وجوب إتمام الحج والعمرة على من شرع فيهما فرضاً كان أو نفلاً، فأيّ إنسان شرع في نفل حج أو عمرة وجب عليه إتمامه وليس له التحلل منه إلا بإكماله أو بالاشتراط عند وقوع ما شرطه(16) أو بالإحصار(17).
هذا ولم أقف على دليل فيه الاستنابة في شيء من أجزاء الحج سواء أكان فرضاً أم نفلاً إلا في رمي الجمار(18) وبناء عليه، فالقاعدة المتقدمة وهي (أن ما جازت النيابة في كله ففي بعض من باب أولى) غير مطردة، بل هي قاصرة على جواز النيابة في الرمي، أما ما عداه كالطواف ونحوه فلم يدل دليل على جواز النيابة فيه.
هذا وإذا كانت النيابة لا تجوز في الطواف، فإن العاجز عنه لمرض أو كبر أو صغر ونحو ذلك يطوف راكباً على عربة ونحوها أو يطاف به محمولاً على سرير ونحوه يصح طوافه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________________
(1) صحيح مسلم 8/226.
(2) المجموع 8/46.
(3) رواه البخاري 2/128 في باب الكلام في الطواف.
(4) المنتقى شرح موطأ مالك للباجي 2/297.
(5) المنتقى شرح موطأ مالك للباجي 2/298، وقد سبق ترجيح جواز القراءة في الطواف من خلال كلامنا على سنن الطواف
(6) انظر المبسوط 4/39 وما بعدها، ومواهب الجليل 3/67، وروضة الطالبين 3/79، والمغني 3/373، هذا وقد تقدم في شروط صحة الطواف أن ستر العورة شرط عند الجمهور ولم يخالف في ذلك إلا الحنفية فقالوا بأنه واجب وقد بسطنا الأدلة هناك مع التوجيه والترجيح، أما كونه محرماً ومنهى عنه فهو محل اتفاق. والله أعلم.
(7) صحيح البخاري 2/128، وصحيح مسلم 4/106 وما بعدها في (باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك).
(8) صحيح البخاري 2/133 في (باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) وصحيح مسلم 4/30.
(9) انظر: المجموع للنووي 1/168 وما بعدها في (باب الشك في نجاسة الماء والتحري فيه).
(10) صحيح البخاري 2/61 وما بعدها في (باب إذا لم يدر كم صلى) وصحيح مسلم 2/84 في (باب السهو في الصلاة والسجود له).
(11) صحيح البخاري 2/61 وما بعدها في (باب إذا لم يدر كم صلى) وصحيح مسلم 2/84 في (باب السهو في الصلاة والسجود له).
(12) سنن الترمذي 1/247 في (باب فيمن يشك في الزيادة والنقصان).
(13) مصنف عبد الرزاق 5/500 في (باب الشك في الطواف) تحت رقم (9810).
(14) انظر الروض المربع للبهوتي 1/134 وكشاف القناع للبهوتي 2/297، هذا والنيابة في الحج إما أن تكون في فرضه أو نفله، فإن كانت في فرضه فقد دلت السنة على جوازها في حق المبيت إذا مات وعليه حج، وفي حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير معتادة كالزمن والشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه.
انظر: صحيح البخاري 2/112 في (باب وجوب الحج) وصحيح مسلم 4/101، أما النيابة في نقل الحج فهي أيضاً جائزة في حق العاجز عنه، أما القادر فقد أجازها كثير من أهل العلم. انظر تبيين الحقائق للزيلعي 2/83 وما بعدها، والمغني 3/230.
(15) انظر: كشاف القناع 2/381، والروض المربع 1/134.
(16) الاشتراط معناه أن يشترط عند الإحرام أنه إذا حبسه حابس فمحله حيث حبس، وفي حكمه خلاف بين أهل العلم، منهم من أجازه مطلقاً، ومنهم من منعه مطلقاً، ومنهم من أجازه للمريض ونحوه، دون غيره، وهذا هو الراجح من أقوال العلماء وبه تجتمع الأدلة وهو الذي يدل عليه حديث ضباعة بنت الزبير والذي رواه البخاري في صحيحه وفيه أنها قالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني، فالرسول صلى الله عليه وسلم أجاز لها الاشتراط لكونها مريضة وهي تريد الحج، هذا والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يشترطوا، وإذا عرفنا هذا اتضح أن الراجح عدم مشروعية الاشتراط لغير المعذور، وجوازه للمعذور جمعاً بين الأدلة.
هذا وفائدة الاشتراط: أنه إذا حصل ما يمنع إكمال حجه أو عمرته حلّ ولا شيء عليه.
(17) الإحصار: هو أن يحصل له مانع يمنعه من إكمال حجه أو عمرته، وللعلماء فيه آراء، منهم من قصره على حصر العدو، ومنهم من عدّاه إلى غيره كالمرض وضياع النفقة ونحو ذلك، ودليله قوله تعالى: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (البقرة: من الآية196).
(18) النيابة في الرمي جمهور العلماء على جوازها عن الصغير، قال ابن قدامة في المغني 3/254، قال ابن المنذر كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي كان ابن عمر يفعل ذلك... إلخ.
هذا وجمهور العلماء على جواز الرمي عن العاجز والمريض والمحبوس والكبير ونحوهم من العاجزين عن الرمي لعموم قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: من الآية16)، وللقياس على الصغير بجامع العجز، ودليل الرمي عن الصغير ما رواه ابن ماجه بسنده عن جابر قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. انظر في الكلام عن الحديث: تلخيص الحبير 2/270.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم