مكانة السنة النبوية وحُجيتها

خالد خضران الدلبحي العتيبي

2024-05-10 - 1445/11/02 2024-05-20 - 1445/11/12
عناصر الخطبة
1/التمسك بالسنة نجاة 2/أهمية السنة ومكانتها 3/السنة مبينة ومفصلة للقرآن 4/عناية العلماء بأحاديث النبي وحفظها 5/من علامات أهل الأهواء التشكيك بالسنة

اقتباس

وأهل الأهواء والبدع موقفهم من السنة موقفٌ خبيث، فمنهم من يرد السنة بدعوى أنها تخالف عقله، وهذا يدل على فساد عقله بسبب الشبهات والشهوات، وإلا لو كان عقله سليماً لعظَّم السنة واتبعها، فهي وحي يوحى، ومنهم من يرد السنة ولا يقبلها بدعوى عدم عدالة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)[الكهف: 1]، وأصلي وأسلم على محمدٍ بن عبد الله، خيرِ مُبِّينٍ للحق وخيرِ من هدى، أما بعد:

 

عبادَ الله: إن من أسباب النجاة والوصول إلى مرضاةِ الله التمسكُ بسنةِ محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة والسلام-، وسنته هي ما رود من أقواله وأفعاله وتقريراته.

 

والسنة -عباد الله- لها منزلة عظيمة ومكانةٌ جليله، وهي أصلٌ من أصول التشريع في دين الإسلام، وقد تتابعت النصوص من كتاب الله -عز وجل- في بيان عظم منزلتها، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الجمعة: 2]، فالكتاب هو القرآن والحكمة هي السنة.

 

وأمر الله -سبحانه وتعالى- بطاعة رسوله، وإذا وجد الخلاف أن نرجع للقرآن والسنة ففي ذلك الخير العظيم والعاقبة الحسنة؛ قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء: 59].

 

وأمر الله -سبحانه وتعالى- بالأخذ بأوامر السنة والانتهاء عند نواهيها؛ فقال -سبحانه وتعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الحشر: 7].

 

وجعل الله علامة محبته اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورتب على ذلك حصول محبته للمتبع لسنة نبيه؛ قال -تعالى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31].

 

ونفى الله -سبحانه وتعالى- الإيمان على من لم يتحاكم إلى سنة محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال -تعالى-: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65].

 

ومما يدل على عظم شأن السنة أن الله -عز وجل- جعلها مُبَيّنةً للقرآن؛ قال -تعالى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل: 44]، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن لأمته القرآن، بيّن لفظه فقرأه عليهم وبين لهم معناه.

 

وبيانه -عليه الصلاة والسلام- للقرآن قسمان:

القسم الأول: بيانٌ خاص، وهذا إما أن يكون بسبب سؤال من الصحابة -رضي الله عنهم-، أو أنه بين المعنى بدون سؤال منهم، ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)[الأنعام: 82]، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ، أَلاَ تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان: 13]"، فالصحابة -رضي الله عنهم- وقع عندهم إشكال حيث ظنوا الآية عامة في جميع أنواع الظلم، ومن ذلك ظلم العبد لنفسه بالمعاصي، فبيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم أن المقصود بالظلم الشرك بالله.

 

ومن أمثلة بيانه الخاص للقرآن ما جاء في صحيح مسلم في تفسيره الزيادة في قوله -تعالى-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)[يونس: 26]، بأنها النظر إلى وجه الله.

 

وأما القسم الثاني: فالبيان العام، فالسنة تبين القرآن بياناً عاماً، فأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريراته كلها بيان للقرآن وتفسيرٌ له، فمثلاً نقرأ في القرآن قول الله -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)[البقرة: 43]، فهذه الآية ليس فيها صفة الصلاة ولا شروطها ولا عدد ركعاتها، وكذلك ليس فيها مقادير الزكاة وأنصبتها، فكيف عرفنا هذا؟ عرفناه عن طريق السنة فقد بينت السنة هذا كلَه.

 

وربما خصصت السنة ما جاء عاماً في القرآن ،وربما قيدت ما جاء مطلقاً، وربما جاءت بحكم لم يأتِ بالقرآن، ومن أمثلة ذلك ما جاء في البخاري ومسلم: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "لا يجمع الرجل -أي في النكاح- بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها".

 

ولنعلم -عبادَ الله- أن السنة وحي من الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام-، قال -تعالى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم: 3، 4]، ومن حفظ الله -سبحانه وتعالى- لدينه وكتابه القرآن حفظُ سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فكل الأحاديث التي يحتاجها المسلمون في عقيدتهم وعباداتهم ومعاملاتهم حفظها الله، ومن حفظه لسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- سخر لها رجالاً صادقين بذلوا الأوقات والأموال وتحملوا الصعاب من أجل حفظ السنة، وصنفوا التصانيف الكثيرة النافعة، وهي أقسام فمنها: مصنفات في الأحاديث الضعيفة والموضوعة أي: المكذوبة على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ حتى يحذرها المسلم، ومنها: مصنفات جمعت الأحاديث الصحيحة والأحاديث التي فيها شيء من الضعف، ومنها: مصنفات لم تذكر إلا الصحيح فقط.

 

ومن هذه المصنفات: كتاب الإمام البخاري المشهور بصحيح البخاري، وكتاب الإمام مسلم المشهور بصحيح مسلم، فقد ذكر البخاري -رحمه الله- في صحيحه أكثر من سبعة آلاف حديث، وقريباً منه الإمام مسلم، وكلها أحاديث صحيحة أجمع العلماء على تلقي الأمة لها بالقبول، وممن نقل الإجماع ابن الصلاح وشيخ الإسلام ابن تيمية والنووي والحافظ بن حجر وغيرهم من العلماء الكثير، فليس في البخاري ومسلم أحاديث ضعيفة، بل كلها صحيحة إلا أحاديث قليلة لا تتجاوز العشرين حديثاً تكلم فيها الأئمة الكبار، وهذا يدل على عنايتهم بالصحيحين، وأنهم لم يتلقوها بالقبول إلا بعد ما فتشوا فيها وفي أسانيدها، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه منهاج السنة أنه: "تتبع الأحاديث المُنتقدة على البخاري ومسلم إلى القرن السابع وجمعها فوجدها لا تتجاوز عشرين حديثاً"، مع التنبيه أن الصواب في كثير منها مع البخاري ومسلم.

 

فرحم الله هؤلاء العلماء الذين سخرهم الله لحفظ سنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وأسأل الله أن يجعلنا ممن يعظمون سنة نبيه ويتبعونها، وألا يجعلنا من أهل الزيغ والهوى.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أما بعد:

 

عباد الله: لا زال أعداء الإسلام وأهله يكيدون للإسلام وأهله، فمن عظم مكرهم تشكيك المسلمين في سنة نبيههم -عليه الصلاة والسلام- وإثارة الشكوك حولها، حتى لا تكون مرجعاً يوثق فيه، وبذلك يستطيعون حتى تحريف معاني القرآن على ما يريدون، وهذه العداوة ليست جديدة بل من أزمانٍ مديدة ولا تزال مستمرة، وكان السلف ينكرون بشدة على من يقول آخذ بالقرآن ولا آخذ بالسنة، بل يجعلون هذا من الضلال، جاء عند البيهقي أن عمران بن حصين -رضي الله عنه- كان جالساً ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: "لا تحدثونا إلا بالقرآن"، فقال عمران له: "ادْنُ"، فدنا فقال: "أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجدُ فيه صلاة الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً والمغرب ثلاثاً وتقرأ في اثنتين؟ أرأيتَ لو وُكِلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف سبعاً والطواف بالصفا والمروة؟"، ثم قال عمران -رضي الله عنه-: "خذوا عنَّا -أي الحديث- فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضُلُّن"، وجاء كذلك عند البيهقي أن أيوب السختياني وهو من أئمة السلف قال: "إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا من القرآن؛ فاعلم أنه ضال مضل".

 

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا الصنف الذي يشكك في السنة ويقلل من شأنها، ويدعي أنه يتبع القرآن وهو يكذب، فلو كان يتبع القرآن لا تبع السنة، ففي القرآن الأمر باتباع السنة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في سنن أبي داود: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ -أي السنة- أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ".

 

وأهل الأهواء والبدع موقفهم من السنة موقفٌ خبيث، فمنهم من يرد السنة بدعوى أنها تخالف عقله، وهذا يدل على فساد عقله بسبب الشبهات والشهوات، وإلا لو كان عقله سليماً لعظَّم السنة واتبعها، فهي وحي يوحى، ومنهم من يرد السنة ولا يقبلها بدعوى عدم عدالة حملتها الذين نقلوها، وهذا كحال الرافضة الذين يكفرون الصحابة -رضي الله عنهم-، فهم لا يقبلون الأحاديث التي نقلوها لنا.

 

ومن أهل الأهواء والبدع طائفة انحلت من الدين وأصبحوا أداة لأعداء الإسلام، فالسنة لا تتوافق مع ما يردون من نشر الشهوات والشبهات والفتن، فهم يشككون فيها ويدعون أنها لا تناسب هذا الزمان ولا بد من التجديد، ويثيرون الشبه حول سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

وبعض الجهلة ممن تلبسوا بالعلم وهو مطية لأعداء الإسلام، شكك في السنة وادعى أن أحاديث الصحيحين لا بد من مراجعتها؛ لأن فيها أحاديث يستدل بها الغلاة من داعش وغيرهم، فيقال له: "حتى القرآن يستدل به الغلاة، فهل نرده كذلك؟!"، هذا لا يقوله إلا جاهل.

 

ومن المعلوم أن أهل الأهواء من الغلاة وغيرهم ربما يستدلون بالنصوص من القرآن والسنة، فلا يعني أن الاستدلال صحيح، فالحديث صحيح ولكن لا يدل على ما ذهبوا إليه، ولذلك العلماء يقبلون الدليل الصحيح ولكن يردون عليهم ببيان معناه الصحيح.

 

أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقني وإياكم إلى لزوم سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمها، فلا نجاة لنا إلا بالتسمك بها، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".

 

المرفقات

مكانة السنة النبوية وحُجيتها.doc

مكانة السنة النبوية وحُجيتها.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات