مكانة السنة النبوية في الإسلام ومدى حجيتها (1)

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات:

 

د. ثامر عبد المهدي محمود حتاملة

 

أنزَلَ الله تعالى السُّنةَ النبويَّة شارحةً للقرآن ومبيِّنةً له، ومكانتُها تأتي في الإسلام بعد القرآن الكريم، وعلى ذلك سار الصحابة والتابعون ومَن بَعدهم من جماهير الأمة، إلى أنْ ظهر بعضٌ ممَّن ردَّ حُجِّيَّةَ السنَّة النبوية؛ فقام العلماء بالردِّ العلمي عليهم؛ كما فعل الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة)، والبخاريُّ في (الاعتصام بالكتاب والسُّنة) في صحيحه، وابن قتيبة في مقدمة كتابه (مختلف الحديث)، والكناني في (الحيدة والاعتذار)، وغيرهم من علماء الصدر الأول، ومَن جاء بعدهم.

 

 

 

وجاءت أدلة حُجِّية السنة النبوية من خلال الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وقبل البدء في سياق الأدلة من القرآن الكريم، لا بدَّ من معرفة أن القرآن الكريم فيه معنيان مهمَّان:

 

الأول: دلالة القرآن على أصل حُجِّية السنة.

 

الثاني: دلالة القرآن على دوام حُجِّيتها.

 

 

 

ويمكننا إثبات هذين المعنيين من خلال خمسة طرق عامة من القرآن الكريم، وهي كالآتي:

 

1- دلالة الآيات القرآنية العامة على طاعة الرسول، مع إطلاق الطاعة دون تقييد.

 

2- دلالة القرآن على أن السنة وحيٌ إلهيٌّ.

 

3- دلالة القرآن على أن السنة بيانٌ للقرآن.

 

4- دلالة القرآن على حفظ السنة.

 

5- لزوم حفظ بيان القرآن[1].

 

 

 

وأذكر هنا بعض الآيات للدلالة على المعاني السابقة كالآتي:

 

  • قال تعالى قارنًا طاعته بطاعة رسوله طاعةً عامَّةً مطلقةً دون تقييد: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ [النساء: 80]، وقد جاءت في القرآن ستُّ آياتٍ تُبيِّن أن طاعة رسول الله من طاعة الله بلفظ ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ﴾ وتصريفاتها، وقال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 132]، وجاء في القرآن بمثل هذا الأمر في أحد عشر موضعًا ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ وتصريفاتها.

 

 

 

  • وأمر الله تعالى في حين تنازع المسلمون في شيء أن يردُّوه إلى الله والرسول فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59]، ولو أنَّ مسلمًا سمع النبي يأمر بشيء أو ينهى عن شيء، ثم لم يأخذ بهذا؛ بحجة أنه ليس في القرآن - فهو مخالفٌ للآيات بإجماع الأمة، فالمسألة هنا هي الأخذ بأمر النبي، وفي هذا قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، وغيرها من الأدلة الكثيرة من القرآن الكريم، ذكرها الإمام الشافعيُّ وغيره.

 

 

 

  • دلالة القرآن على أن السنة وحيٌ من الله ابتداء بقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]، كذلك ما جاء في تفسير كلمة الحكمة في أكثر من عشر آيات، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [البقرة: 231]، وقال تعالى ممتنًّا على نساء النبي بقوله: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [الأحزاب: 34]، وقد حاول محمد شحرور (وهو من المعاصرين) وغيره ردَّ تفسيرِ كلمة (الحكمة) هنا أنها السنة النبوية، زاعمين أنَّ الشافعي هو أول مَنْ قال بتفسيرها بالسنة النبوية، أقول: ثبت تفسير ذلك عن كثير من العلماء قبل الشافعي، منهم: الحسن البصري، وقتادة، ومُقاتل، وأبو مالك، وغيرهم كثير، وقد تُوفِّي الحسن وقتادة قبل ولادة الشافعي أصلًا، لكن الشافعي هو مَن شَهَر ذلك، ودافع عنه في كتابه (جماع العلم)؛ (ينظر تفسير الطبري، وابن كثير في قوله: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [البقرة: 129]، وسياقهم لأقوال أئمة العلم فيها).

 

 

 

  • جاء في القرآن أنَّ الله تكفَّل ببيان كتابه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 17، 18]، ثمَّ بيَّن الله تعالى أن بيانه سيكون على لسان الرسول فقال: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل: 44]، وغيرها من الآيات في معناها، ثمَّ نقول: إن بعض أوامر القرآن مجملة كقوله: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، فهل جاء في القرآن كيفية إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة؟ أم أنَّ هناك قرآنًا آخرَ يبيِّن الله فيه؟ أو أنَّ الله أخلف خبره؟! فجاء بيان الرسول لمثل هذه العبادات وغيرها من الأوامر المجملة في القرآن، ومن هنا بإمكاننا القول: مِن حِفْظ القرآن يأتي الاستدلال على حفظ السنة النبوية بحفظ بيانه.

 

 

 

  • وقد بيَّن الله تعالى بيان دوام السنة وحفظها من خلال أمره تعالى بالرجوع إلى كتاب الله ورسوله، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59]؛ فهذا نداءٌ عامٌّ لأهل الإيمان كغيره من النداءات، يُخاطب به المؤمنين إلى يوم القيامة في الرجوع إلى الله، وإلى رسول الله حال التنازع، والرجوع إلى الله كيف يكون؟ بالرجوع إلى كتابه باتفاقنا واتفاق غيرنا، ثم كيف الرجوع إلى رسول الله؟ لا يكون ذلك للمؤمنين بعده إلا بالرجوع إلى سُنَّته الثابتة، وقد نقل ابن حزم الإجماع على ذلك، فقال وردَّ على مَنْ يدَّعي أن الخطاب غير عامٍّ: (والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأمة مجمعةٌ على أن هذا الخطاب متوجِّهٌ إلينا، وإلى كل من يُخلَق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنة والناس، كتوجُّهِه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد عَلِمنا علمَ ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لو شغَّب مُشغِّب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أمكنه هذا الشغب في الله عز وجل؛ إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى، فبطَل هذا الظنُّ، وصحَّ أن المراد بالردِّ المذكور في الآية التي نصصنا، إنما هو إلى كلام الله تعالى، وهو القرآن، وإلى كلام نبيِّه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيلًا بعد جيل)[2].

 

 

 

  • ثمَّ أخيرًا نقول: الوحي لا يختصُّ بوحي القرآن فقط، فيوجد في القرآن الكريم ما ينص على بعض الأمور ودلالتُها لا تأتي إلا من السنة النبوية، على سبيل المثال: جاء الأمر بتغيير القِبلة فقال تعالى: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [البقرة: 144]، وقبلها بآيتين حكى الله قول السفهاء واعتراضهم على تغيير القبلة: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142]، نقول: القبلة الأولى، من أين شُرعت؟ ومَن شرعها؟ لم تُذكَر في القرآن، ولكنها ثابتةٌ من القرآن نفسه، فلم تأتِ إلا من السنة النبوية التي أوحاها الله إلى نبيِّه.

 

يتبع: حجية السنة النبوية من السنة النبوية ومن الإجماع والعقل.

 

[1] استفدتُ هذا التقسيم من كتاب (تثبيت حجية السنة، ونقض أصول المنكرين)؛ أحمد السيد؛ مركز تكوين، ط1، 2017م.

 

[2] ابن حزم الظاهري؛ الإحكام في أصول الأحكام؛ ج1/ ص97؛ تحقيق: أحمد شاكر؛ دار الآفاق الجديدة، بيروت، وقد نقل ابن القيم كذلك الإجماع في كتابه إعلام الموقعين، ج1/ص39.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات