مكانة الأسرة في الإسلام

عبدالرحمن بن علي العمري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ اهتمام الإسلام بالأسرة وعنايته بها 2/أهمية المرأة الصالحة 3/العفو والتغافر بين الزوجين 4/بعض صور تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع زوجاته 5/الاهتمام بتربية الأبناء والدعاء لهم 6/تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أحفاده

اقتباس

إن البيوت لا تبنى كلها على الحب، لكن لا بد من التجاوز والتسامح، لا بد من التحمل والصبر وإلا لم تستقر الحياة، ولم تستكن البيوت. فلا بد أن يصبر كل واحد من الزوجين للآخر، وأن يتحمل كل واحد منهما الآخر، وأن يحسن التعامل معه، حتى أن...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونتوب إليه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.

اللهم لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على حمدنا إياك.

نشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، جعله الله -عز وجل- قدوة للعالمين، وحجة للسالكين، فصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكر الله الذاكرون، وما وحده الموحدون.

 

ثم أما بعد:

 

عباد الله: بناء الأسر وما أدراك ما هذا البناء؟! عناية الإسلام بالأسرة في الإسلام، ومكانة الأسرة في الإسلام، اعتنى بها الإسلام أيما عناية؛ لأن الأسرة إذا بنيت على طاعة الله -عز وجل- وعلى تقوى من الله -جل وعلا-، وعلى وئام ومودة ورحمة، صلح المجتمع كله، وكان مجتمع متراحما متآلفا، وأنتج ذرية صالحة، تقوم بأمر الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض.

 

يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].

 

فمن الذي جعل المودة والرحمة في قلبي الزوجين إلا الله -تبارك وتعالى-؟!.

 

ويقول صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته".

 

إن هذه من أعظم سعادات الدنيا: أن يرزق الله -عز وجل- العبد امرأة صالحة، تتقي الله -تبارك وتعالى- في نفسه وماله وذريتها.

 

ويقول عليه الصلاة والسلام موصيا بالنساء، والاعتناء بهن، والقيام بحقوقهن؛ كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة، ومواقف عديدة: "استوصوا بالنساء خيرا".

 

وقال عليه الصلاة والسلام في حديث حسن: "أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم".

 

فقد كان عليه الصلاة والسلام هو أعظم قدوة في هذا الشأن، فهو خير الناس لأهله صلوات الله وسلامه عليه.

 

وقد أمرنا الله -جل وعلا- بحسن المعاشرة للنساء، فقال سبحانه وتعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19].

 

وهذا عمر -رضي الله عنه وأرضاه- قال لرجل أراد أن يطلق امرأته: "ويحَكَ! ألم تُبْنَ البيوتُ إلا على الحبِّ؟ فأين الرعايةُ؟ وأين التذمُّمُ؟".

 

إن البيوت لا تبنى كلها على الحب، لكن لا بد من التجاوز والتسامح، لا بد من التحمل والصبر وإلا لم تستقر الحياة، ولم تسكن البيوت.

 

فلا بد أن يصبر كل واحد من الزوجين للآخر، وأن يتحمل كل واحد منهما الآخر، وأن يحسن التعامل معه، حتى أن أبا الدرداء -رضي الله عنه وأرضاه- كان يقول لأم الدرداء: "إذا غضبت فَرَضيِّني، وإذا غضبت رضيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق".

 

هكذا ينبغي أن تكون الحياة لتستقيم بداخل الأسر والبيوت، وأن تكون على هذا المبدأ لا على العنف والجفوة، والغلظة والضرب، والسب والشتم، وغير ذلك مما يتعامل به بعض الأزواج مع بعض.

 

يقول عليه الصلاة والسلام: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر" كما عند مسلم في الصحيح.

 

فلابد من التحمل والصبر، فعسى إن كرهت خلقا من الزوجة أن ترضى منها خلق آخر، فتكون هذه بتلك.

 

واسمع إلى قول الله -تبارك وتعالى- وهو يؤدبنا في التعامل عند الدخول إلى بيوتنا، قال سبحانه: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)[النور: 61].

 

وإنك لتعجب من حال بعض الأزواج يدخلون البيوت لا يسلمون أبداً إذا كان أحدهم خارج البيت كان هاشا باشا مبتسما، فإذا دخل إلى داخل بيته كان مكفهرا مغضبا، يتعامل مع أهل بيته بأسوأ المعاملة، وهم -والله- أولى الناس بحسن التعامل.

 

واسمع إلى الحبيب -صلى الله عليه وسلم- وهو يوصي أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "يا بني إذا دخلت على أهل بيتك فسلم؛ يكن بركة عليك وعلى أهلك".

 

بل تعالوا إلى هذا المشهد العظيم، وإلى هذه الصورة في داخل بيت النبوة بين الضرائر من أمهات المؤمنين؛ تصنع عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- في يومها أو في ليلتها طعاما، يقال له: الخزيرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-ن وكانت سودة ضيفة عندها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلتها؛ فتقول عائشة لسودة: "كلي" فتقول سودة: "لا أريد ولا آكل من هذا الطعام" فتقول لها: "لتأكلن أو لألطخن وجهك" فأبت سودة، فأخذت رضي الله عنه كفا من هذا الطعام ولطخت به وجه سودة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس، وينظر إلى ما يحصل بين ضرتين داخل البيت، وهو معهما عليه الصلاة والسلام، فيلتفت صلى الله عليه وسلم إلى سودة، ويقول: "استقيدي".

 

ويأخذ هو من الخزيرة هذه ويضعه في كف سودة، ويخفض لها صلى الله عليه وسلم ركبته لتستقد، فتتكئ على ركبته عليه الصلاة والسلام، ثم تلطخ وجه عائشة بشيء من الطعام، فيضحك عليه الصلاة والسلام وهو ينظر إلى وجه هذه، وإلى وجه هذه، وتحولت المشكلة إلى مرح وضحك في داخل بيت النبوة!.

 

يا لها من دروس عظيمة نحن في أمس الحاجة إليها في التعامل مع زوجاتنا، وفي داخل بيوتنا، بل هذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يسافر سفرة ومعه عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها وأرضاه- في غزوة من الغزوات، ويوم أن فرغوا من هذه الغزوة، قال لأصحابه: "تقدموا تقدموا" فلما تقدم أصحابه، قال عليه الصلاة والسلام لعائشة: "سابقيني" فيتسابق هو وعائشة، فتسبقه عائشة في مرح وسرور.

 

وفي سفرة أخرى بعد أن بدنت عائشة، وحملت اللحم، يقول عليه الصلاة والسلام: "نتسابق يا عائشة" فيتسابقان فيسبقها صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية، وهو يقول: "هذه بتلك السابقة" ويضحك وتضحك!.

 

فهكذا كان يتعامل عليه الصلاة والسلام بأنس ووئام وحب في داخل بيت النبوة، وفي التعامل مع أمهات المؤمنين.

 

بل صورة أخرى في يوم من الأيام يسمع صلى الله عليه وسلم كما عند النسائي ضوضاء الناس والصبيان فنظر صلى الله عليه وسلم، وإذا بحبشية ترقص، فقال عليه الصلاة والسلام: "يا عائشة تعالي فانظري" فوضعت رأسها على منكبيه عليه الصلاة والسلام، فقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: "أما شبعتي؟" أي من النظر إلى هذه الحبشية؟! فتقول: "لا، لا" تقول عائشة أقول لا لأنظر إلى منزلتي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيصبر ويتحمل؟ قالت: "فو الله لقد رأيته عليه الصلاة والسلام يراوح بين قدميه" أي من طول القيام وينتظر عائشة حتى تفرغ من النظر إلى هذه الحبشية.

 

حتى -يا أيها المؤمنون- في الطعام والشراب في داخل البيوت من الناس أصبح غليظا عنيفا مع أسرته وعلى أهل بيته، بل هنالك من الرجال من لربما طلق زوجته، أو ضربها ضربا مبرحا على شيء من الطعام صنعته، وهو يشتهي غيره، أو ما صنعته، أو تأخر عن موعده.

 

هذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وقدوتنا عليه الصلاة والسلام: "ما عب طعاما قط إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه".

 

قال عليه الصلاة والسلام موصيا النساء، وداعيا لهن إلى حسن العشرة والتعامل أيضا: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة".

 

فهنيئا للمؤمنين والمؤمنات الأزواج والزوجات الذين يتعاملون بود ووئام ورحمة، ويؤدي كل منهم الحق الذي جعله الله -تبارك وتعالى- عليه.

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.

 

ثم أما بعد:

 

اعلموا أن هؤلاء الأبناء الذين جعلهم الله -عز وجل- بين الآباء والأمهات زينة ونعمة، ينبغي أن يقدر قدر هذه النعمة، وأن يقام بحق هؤلاء الذرية، والله -جل وعلا- قال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الكهف: 46].

 

وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا أن من أعظم أسباب صلاح الأبناء والبنات، وإدخال السرور والمودة والوئام إلى قلوبهم: "الدعاء لهم".

 

فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو لأنس فيقول: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له".

 

وفي رواية: "وأطل عمره، واغفر ذنبه".

 

وقد كان عليه الصلاة والسلام يحسن التربية والتعامل، فكان صلى الله عليه وسلم يصف عبد الله وعبيد الله، وكثيّر بني العباس، وهم صغار، ويقول صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلي فله كذا وكذا".

 

فيستبقون إليه عليه الصلاة والسلام، فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ، فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْزَمُهُمْ.

 

أنس وحب وود، وتواضع منه صلى الله عليه وسلم.

 

فهل لأبنائنا وبناتنا نصيب من هذه التربية وحظ من هذا التعامل؟ أم الكثير عنده جفوة وغلظة، لا يعرف إلا العصا، وسوء التعامل، مع أبنائه وبناته وأسرته؟.

 

هذا أيضا رسولنا -عليه الصلاة والسلام- يأخذ بيد الحسن أو الحسين، ويضع قدميه صلى الله عليه وسلم على قدمه صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: "ترقَ" ويداعبه عليه الصلاة السلام.

 

وكان عليه الصلاة والسلام يطيل السجود، فسأله أصحابه عن سبب إطالته السجود أحيانا؛ حتى يقول قائلهم ظننا أنه قبض عليه الصلاة والسلام من إطالته في السجود، فيقول صلى الله عليه وسلم: "إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته".

 

وكان عليه الصلاة والسلام ربما حمل أمامة بنت أبي العاصي بن ربيعه ابنة ابنته زينب، يحملها في الصلاة إذا كان قائما، ويضعها على الأرض إذا سجد، ثم يحملها ويقوم بها مرة أخرى.

 

يا لها من تربية عظيمة، ورحمة في قلبه صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الصغار، وهو يتعامل معهم، وقال عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا".

 

وقال عليه الصلاة والسلام للأقرع بن حابس يوم أن رآه يقبل الصغار، فقال: "والله أن لي عشرة من الأبناء لم أقبل منهم أحدا" فيقول عليه الصلاة والسلام: "من لا يرحم لا يرحم".

 

وقال أنس -رضي الله عنه وأرضاه- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلما مر بصبيان هش وسلم عليهم، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخلت عليه ابنته فاطمة يرحب بها، ويقبل بين عينيها، ويجلسها مكانه، حتى في مرض موته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم-، فعل بها ذلك، وهذا من حسن التعامل والتربية للأبناء والبنات، والرحمة بالعيال.

 

وإنما أولادُنا بيننا *** أكبادُنا تمشي على الأرضِ

لو هَبّتِ الريحُ على بعضهم*** لامتنعتْ عيني من الغَمْضِ

 

واسمعوا إلى هذه الوصية لتكون نبراسا وقدوة لنا بالرحمة بعيالنا وبأبنائنا وبناتنا، قال عليه الصلاة والسلام: "مَنْ كَانَ لَهُ ثَلاثُ بَنَاتٍ، يُؤْوِيهِنَّ، وَيَكْفِيهِنَّ، وَيَرْحَمُهُنَّ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ الْبَتَّةَ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ الْقَوْمِ: وَثِنْتَيْنِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال صلى الله عليه وسلم: "وثنتين".

 

عباد الله: اقتدوا به عليه الصلاة والسلام، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه في يومكم هذا فإن صلاتكم وسلامكم معروضة عليه.

 

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد...

 

 

 

 

المرفقات

في صلاتهم1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات