مكارم الأخلاق - الصدق

مصطفى العدوي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ حاجتنا للتحلي بالأخلاق 2/ الصدق خلق الصالحين 3/ اكتساب الصدق وتحريه 4/ من فضائل الصدق 5/ ألوان من الصدق 6/ سمات الرئيس المنتخب

اقتباس

فالصِّدقُ، هذا الخلُق الكريم، كان دَأَبَ الأنبياء، أما أهل النفاق وأهل الارتياب فهم الكذَبة الآثمون، وكذلك أهل النفاق، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً"، وذكَر منها: "إذا حدَّث كذَب". فابتعِدْ عن هذا الخلق الذميم ..

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

وبعد: ففي هذه الآونة التي تمر بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- والتي يترقب الناس فيها الخير في متبعي كتاب ربهم، وسنة نبيهم -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، لزمنا كمُبَلِّغِين عن الله -سبحانه وتعالى- ومقتفين لآثار النبي الأمين محمد -صلى الله عليه وسلم- أن نؤدي الأمانات إلى أهلها، ومن هذه الأمانات أن تظهر للناس بالمظهر الذي يريده الله منك، وبالخُلق الذي يريده الله منك؛ فإن مكارم الأخلاق دعوة -في حَدِّ ذاتها- إلى الله.

ولذلك وسَم اللهُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بأنه على خُلُقٍ عظيم، قال الله -جل ذكره-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، وكان -صلوات ربي وسلامه عليه- يأمر بذلك في مبدأ بعثته، فلقد قال أبو سفيان بن حرب لهرقل لمـــّا سأله: بم يأمركم هذا الرجل؟ قال: يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والصدق.

وكذلك لما أرسل أبو ذر أخا له يتفقد أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وينظر إلى ماذا يدعو وبماذا يأمر، رجع أخوه إليه قائلا: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق. فرجع الأخ إلى أبي ذر، ومِن ثَمَّ رجع أبو ذر إلى رسول الله يعلن عن إيمانه، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّما بُعثت لِأتمِّمَ مكارم الأخلاق"، وقال مبينا فضلها: "وإن الرجل لَيبلغ بحسن خلقه درجة الصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر"، وقال -عليه صلوات الله وسلامه-: "ما من شيء أثقل عند الله يوم القيامة من حسن الخلق".

وهكذا كان الأنبياء والمرسلون -عليهم الصلاة والسلام- على خُلُق عظيم، وكما سلف؛ فالخلق العظيم دعوة إلى الله، فإنك وإن لم تدعُ الناس بلسانك ففعلك دعوة إلى الله، وسَمْتك دعوة إلى الله.

وهكذا كان الأنبياءُ والمرسَلُون، ففضلا عن الدعوة باللسان، فأيضا كانت لهم دعوة بمكارم الأخلاق، وهكذا كان الصحب الكرام -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- لما فتح الله بهم البلاد كان أهل البلاد التي فتحت ينظرون إلى سَمتهم، إلى هديهم، إلى ذُلهم، فتاتي المرأة المتبرجة التي تطمع أن ينظر الناس كلهم إليها فترى أمامها شابا فتِيا قويا غاضا للبصر لا يلتفت منها إلى المغريات، ولا ينظر إلى مفاتنها؛ بل مراقبا لله، غاضا للطرف عن الحرام.

تراه ويأتي أمام الخمر المحبوبة لديهم وإذا به يعرض عنها؛ لا لشيء؛ إلا لأن الله نهاه عن الاقتراب منها، فكانوا بأخلاقهم الكريمة دعاة إلى الله -عز وجل-.

فعلينا في هذه الآونة على وجه الخصوص -فضلا عن كل وقت وكل زمان- أن نتفقد أحوالنا، وأن نتفقد أخلاقنا، فقد تتسبب في صد شخص عن الدين، وتأثم وتعذب بسبب ذلك، قال -تعالى-: (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل:94].

إذا رآك الناس وأنت في سمتك على هيئة رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وأنت تغش، رأوك وأنت تخادع، رأوك وأنت تنصب على الناس وتسرق، نفروا من الدين الذي تتقلده، وعن السنة التي تسلكها، وحظِيتَ أنت بأشد العذاب.

(وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ): غشا وخديعة بينكم، (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا): بعد أن أشرفت على الهداية واقتربت منها، تذل وتنحرف بسبب ما رأته منك من سيء الأخلاق.

فجدير بنا ان نتفقد أخلاقنا، هل نحن على طريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ أم نحن أدعياء على سنة النبي محمد -عليه الصلاة والسلام-؟.

نتفقد أخلاقنا من ناحية عفْوِنا عن الناس، من ناحية كرمنا من بخلنا، من ناحية صدقنا من كذبنا، من ناحية شجاعتنا من جبننا، من ناحية طيب مطعمنا من مخبثه، علينا دوما أن نتفقد أحوالنا ونرقبها.

ومن ذلك، وفي هذا المقام، أتناول خلقا كريما لرسولنا الأمين محمد -عليه الصلاة والسلام-، وليس للنبي فحسب؛ بل هو خلق للمرسلين أجمع، ولقد قال -تعالى- عن نفسه: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) [النساء:122] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء:87]؟ فهو صِدْق الحديث وصدق الفعل، صدق المقال وصدق المقام، صدق القلب وصدق اللسان.

لقد وُصِف النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- بالصدق، حتى مِن أهل الكفر، فكان يسألهم في بداية دعوته لمــَّا جمعهم على الصفا مناديا: يابني عبد مناف، يا فلان ويا فلان، فاجتمعت له قبائل قريش، فقال لهم: "لو أخبرتكم أنّ خيلا وراء الوادي يريد غزوكم، أكنتم مصدقين؟" قال: نعم، ما جربنا عليك كذبا قط. قال "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".

وكان يوصف بالصادق الأمين، والصادق المصدوق، عليه الصلاة والسلام، ولقد قال الله -تعالى-: (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) [الأحزاب:22].

فخلُقٌ كريم يلزمنا أن نتحلى به، فيه كل خير، فيه كل بركة؛ إنه خُلق للملائكة الكرام، إذ قالوا للخليفة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لما قال لهم: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ...) [الحجر:55]. لقد كان الصدق خلقاً كريما لملائكة الله، وخلقاً لرسول الله، وخلق للمرسلين، قال -تعالى-: (وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52].

فجدير بنا أن نتحلى بهذا الخلق، ذلكم الخلق الذي يهدي إلى البِر، والبر يهدي إلى الجنة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صِدِّيقا".

أخذ العلماء من ذلك أن الصدق يتأتى بأمرين، الأمر الأول: أن تسأل الله إياه، تسأله أن يجعلك صادقا في قولك، وفي عملك، وفي نواياك، والأمر الثاني: التدرب عليه، فتتدرب على أن تكون صادقا، عود نفسك على ذلك، وإن تعثرت مرة فقم منها مستغفرا سائلا الله العون على لزوم الصدق؛ فإنك به تهدى إلى البر، وبالبر تهدى إلى الجنة، وبه تكتب عند الله صدِّيقا، والصديقون منزلتهم سامية ورفيعة؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق"، قال الصحابة: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحد غيرهم؟ قال: "كلا! والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".

فتدرب على الصدق؛ حتى تكتب عند الله صِدِّيقا، تدرب على الصدق؛ فإنه طمأنينة لقلبك، قال -عليه الصلاة والسلام-: "الصدق طمأنينة، والكذب ريبة"، فمن أسباب الطمأنينة الصدق. والكذب يجعلك دوما مرتابا متشككا تظن أن الناس كلهم من أمثالك، إذا حدثك شخص ظننت أنه كذاب كما أنك تكذب، فـ "الصدق طمأنينة، والكذب ريبة".

ولعل الشخص يذكر من فوائد الصدق ما كان من كعب بن مالك -رضي الله عنه- لما سأله النبي -عليه الصلاة والسلام- عن سبب تخلفه عن غزوة تبوك، وكان رجلا أوتي جدلا يعرف كيف يخرج من المآزق، كان يعرف ذلك جيدا؛ لكن، لما جلس بين يدي رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال: يا رسول الله، لقد أوتيت جدلا، ولكني نظرت فقلتُ إِنُ حدّثتُ الآن بشيء كذِبٍ يوشك الله أن يسخطك علي، فيا رسول الله، لقد تخلفت عن غزوة تبوك بلا سبب. أي: إنني كنت معافيً، وكنت مُوسِرا، ولكني تخلفت، وما زال الشيطان بي حتى تخلفت عنك يا رسول الله، فاقض بالذي أراك الله -سبحانه-. ثم انصرف.

فقال النبي بعدما انصرف: "أما هذا فقد صدقكم"، أمر النبي بمقاطعته خمسين ليلة، وباعتزاله خمسين ليلة، وجاء قومه يؤنبونه يقولون: لو كنتَ اعتذرت إلى رسول الله بأي عذر كان قد قبله منك واستغفرت بعد ذلك!.لم يلتفت إلى قولهم؛ ولكن، بعد ذلك جاء الفرج، وجاءت توبة الله عليه: (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [التوبة:118].

أما الذين كذبوا على رسول الله فجاءت فيهم أقوال، قال -تعالى-: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة:95].

فجدير بنا أن نتحرى دوما الصدق في الحديث، فبه تجلب البركة، ولقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن نصَحا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما"، وفي رواية: "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما".

ولقد قال -عليه صلوات الله وسلامه-: "أفلح إن صدق"، فالصدق من أسباب الفلاح، من أسباب البركة، من أسباب رفعة الدرجات، من أسباب محبة الله، من أسباب الهداية إلى الجنة.

فلنوطن أنفسنا على ذلك، ولْنسأله لسان صدق، ولنسأله مقعد صدق، ولنسأله مُدخل صدق، ومخرج صدق، وقدم صدق، وبذلك توالت النصوص: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) [الإسراء:80].

ينبغي عليّ إذا عملت أي عمل ودخلتُ فيه أن أكون صادقا، مبتغيا وجهك يا الله، متقيا وجهك، إذا خرجتُ من أيِّ عمل أو من أي مكان يكون خروجي لوجهك، مبتغيا وجهك، مبتغيا رضاك، صادقا في ذلك.

إذا بدأتُ كلمتي أبدأها صادقا مبتغيا وجهك، مبتغيا رضاك، إذا ختمت الكلمة أختمها مبتغيا وجهك، مبتغيا مرضاتك، إذا دخلت في زواج أدخِلْني فيه مدخل صدق أبتغي به وجهك، وإذا خرجت منه أخرجني مخرج صدق مبتغيا بخروجي وجهك أيضا. إذا دخلت في أي عمل، في أي قول، في أي فعل، فلْيكن دخولي دخول صدق، وخروجي خروج صدق.

وكذلك إذا تكلمتُ أتكلم بالصدق، وإذا مت وأثنَى الناس يثنون علي بصدق، وهذا قول الخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ) [الشعراء:84]، أي: اجعلني ممن يُثنَي عليه بحق وليس بباطل ولا بزور بعد مماتي، أي: وإن أثني علي الناس بعد مماتي يكون ثناؤهم علي بخير، لا يثنون عليّ وأنا غشاش أو أنا كذاب؛ بل يثنون عليّ ثناء حق، ثناء صدق، فهذا قوله: (وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ).

وكما قال -تعالى- عن المرسلين: (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم:50]، فاسأل الله لسان صدق، واسأل الله مدخل صدق، ومخرج صدق، وقدم صدق، كما قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس:2]، قيل في (قَدَمَ صِدْقٍ) أقوالاً، ومن هذه الأقوال في (قدم صدق): الأعمال والأقوال التي عملتها وتكلمت بها تبتغي مرضات الله وأنت بها صادق.

أما الأعمال التي تعملها مرائيا، والأقوال التي تتكلم بها مرائيا، فكل ذلك ذاهبٌ وباطلٌ ثوابه، فاسْأل اللهَ قدم صدق، واسأل الله مقعد صدق أيضا، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر:54-55]، فكن صادقا تحل منازل الصدق التي وعد الله بها الصدّيقين.

أيها الإخوة: دربوا أنفسكم على هذا الخلق الكريم، على هذا الخلق النبيل، خلق الصدق، وليس فقط صدق اللسان، بل صدق النوايا، أيضا اصدقوا في نواياكم مع الله سبحانه؛ يكرمكم الله.

فهذا أنس بن النضر صدق فعله قوله لما تخلف عن غزوة بدر، تخلف وتأسف قائلا: "غبتُ عن أول غزوة غزاها رسول الله، فإن أشهدني الله موقعا آخَر لَيَرَينَّ الله ما أصنع"، فلما كان يوم أحد وُجِد في الصحابة انكشاف وتراجع، فقال "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني إخوانه-، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين-".

ثم تقدم مقاتلا تأتيه السهام تمزق جسمه ولا يلتفت إلى سهم أصابه، بل ظل يتقدم ويتقدم ويتقدم غير مبالٍ ولا جبان ولا خواف، فيقابله سعد بن معاذ الذي اهتز له العرش بعد موته، يقابله سعد، فيقول أنس بن النضر: "يا سعد بن معاذ، الجنة! والله إني أشم ريحها خلف جبل أحد".

ويتقدم مقاتلا إلى أن يحظى بالشهادة في سبيل الله، وقد مُزِّق جسمُه تمزيقا، ولم يعرفه الناس من شدة التمزيق الذي حدث له، إلا أنّ أخته جاءت تفتش في القتلى فعرفته بأطراف أصابعه، وفيه نزل: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ...) [الأحزاب:23-24].

فدربوا أنفسكم على هذا الخلق الكريم، وأيضا احرصوا على أن تُقبلوا بقلوبكم صادقة مع الله، ولقد قال -تعالى- في كتابه الكريم في شأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:18].

إذا صدق قلبك، ففي القبر عندما تُسأل: مَن ربك؟ فستقول بكل ثبات: ربي الله، الإسلام ديني، محمد رسولي. إذا كنت منافقا غشاشا فستقول: ها! ها! لا أدري! لا أدري!.

إذا صدق حديثك انعكس ذلك على رؤياك في منامك، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقُكم رؤيا أصدقُكُم حديثاً"؛ فصِدق حديثك ينعكس حتى على الرؤيا المنامية التي ترى في منامك، إذ تتحقق بإذن الله "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا".

ثم إن الله يحبك بسبب صدقك، والخلق يحبونك بسبب صدقك، ويثقون فيك وفي كلامك؛ فتحرَّ -أيها الأخ الكريم- هذا الخلق الكريم، ولا تكن كذابا، ولا تكن غشاشا، فرسل الله الكرام الذين أُمرنا بالاقتداء بهم أثنى الله عليهم وعلى صدقهم: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم:41]، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) [مريم:54]، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) [مريم:56].

فالصِّدقُ، هذا الخلُق الكريم، كان دَأَبَ الأنبياء، أما أهل النفاق وأهل الارتياب فهم الكذَبة الآثمون، وكذلك أهل النفاق، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً"، وذكر منها: "إذا حدَّث كذَب". فابتعِدْ عن هذا الخلق الذميم.

قال الله -تعالى- في شأن أقوام عاهدوا الله عهودا وكذبوا: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة:75-77].

أيها الإخوة: لا يجدر بأحدكم أن يكون ملتحيا، ويلبس ثوبا شابَهَ فيه رسول الله، ثم يفاجأ الناس بأنه كذاب! لا يليق أبدا هذا بكم، وليس هذا بخلق لكم، ولا يسعدكم أبداً أن تأتي صحائفكم يوم لقاء الله وأنتم تكذبون الكذب تلو الكذب تلو الكذب. لا تسوّدوا الصحائف بالكذب!.

لا يليق بالأخت الفاضلة المصلية المنتقبة أن تكون كذابة، ولا أن تكون غشاشة.

لا يليق أبداً بك -يا عبد الله- أن تتخلق بهذا الخلق الذميم خلق الكذب، إنك قد تبتلى بنوع من أنواع الابتلاء، تبتلى حتى يعلمَ: هل أنت صادق أم أنت كاذب؟ قد يوقعك الله في شدة ويعلم أأنت كاذب أم صادق؛ قال -تعالى- في كتابه الكريم: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:3]، فتبتلى ويوقفك الله موقفا وينظر أتصدق في حديثك أم تكذب مقابل عرض زائل من أعراض الدنيا الفانية الزائلة!.

أيها الإخوة: إن مضادّ الصدق الكذب، وقد ذم الله أهله أسوأ ذم، لا تخفى عليكم النصوص الواردة في الكذابين، النصوص الواردة في الخائنين، فالزموا صدق الحديث؛ (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:35].

والزموا صدق النوايا، الزاموا صدق العمل، ولا تقولوا ما لا تفعلون، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف:2-3].

الزموا صدق الحديث، تدربوا عليه، علموه أبناءكم، تعلموه أنتم، الزموا صدق الفعل، الزموا صدق النوايا؛ يكرمكم ربكم.

سَلوا الله العون والتوفيق، فالموفق من وفقه الله، سلوه العون والتوفيق على مكارم الأخلاق، فبها ترتفع درجاتكم، وبها تحط عنكم الخطايا، الزموا صدق الحديث، سائلين الله أن يدخلكم مدخل صدق، وأن يخرجكم مخرج صدق، وأن يجعل لكم لسان صدق، وقدم صدق، ومقعد صدق، وأن يحشركم مع (النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69].

واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً...

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد: فمن الصدق أيضا أداء الأمانات إلى أهلها على الوجه الذي يريده الله -سبحانه وتعالى-، وإذا طُلب منك أن تدلي برأي اذا استُنْصِحْتَ وإذا استشارك مُستشير، فاصدق في قولك مبتغيا وجه الله.

من الصدق وأن تقوم بتصحيح أوراق الإجابة على الامتحانات -مثلا- أن تكون صادقا، من الصدق وأنت تقيم الأشخاص أن تقيمهم تقييما صحيحا بعيدا عن المجاملات، فمن الصدق إنزال الشهادة منازلها، فكل هذا داخل في الصدق، وداخل في أداء الأمانات إلى أهلها.

ولعل من المناسب في هذه الأيام أن نذكر بالأمور التي ينبغي أن تتوفر فيمن يُختار رئيسا لهذه البلاد، ومن الصدق أن تدلي بالرأي الصحيح الذي يقربك إلى الله، ليس عن هوى للنفس، وليس عن محبة شخصية، وليس عن عصبية قبلية، وليس لكونه من بلدك، وليس لكونه من أحبابك، وليس لكونه من حسبك أو من جماعتك، فهناك محاذير ذكرت في الكتاب العزيز وفي السنة المباركة لمن يتولى هذا الأمر، وإذا لم يوضع الشخص المناسب في المكان المناسب فإن ذلك من أشراط الساعة كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة"، قيل: يا رسول الله، كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة".

فهناك مقاييس وشروط وضوابط توضع في الذي نختاره كي يكون رئيسا علينا، أو أميرا علينا، كالأمراء خاصة في الأقطار كمصر وغيرها، أما عن القرشية، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الأئمة من قريش"، فهذا الشرط في الإمام الأعظم الذي يقود بلاد المسلمين جميعها، أما من سواه فيجوز الا يكون قرشيا، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بالسمع والطاعة وان استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة".

هناك متطلبات لزاما أن تكون في الشخص المختار، أولها وأقواها وأولاها أن يكون على دين، موحِّد لله، يعرف حدود الله، ويعرف أحكام الله، وقد قال تعالى ذكره للخليل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في شأنه الخليل -عليه الصلاة والسلام- لما امتثل الأوامر واجتنب النواهي: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ)، أي: قام بهن ووفَّى، (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، فسأل الخليل ربه أن يجعل أيضا من ذريته أئمة، (قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124]، ليس للظالمين عندي عهد أن يكون منهم إمام، وإن كان من أبنائك يا إبراهيم، وإن كان من ذريتك، إذا كان ظالما، ليس للظالم عندي عهد أن يكون إماما.

واتفقت كلمة المسلمين على أن المسلمين يؤمر عليهم ويستخلف عليهم خليفة مسلم يقيم الدين، وفي الحديث: "الأئمة من قريش ما أقاموا الدين"، فلابد من الديانة، قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].

فلابد أن يكون مسلما، لابد أن يكون تقيا دينا، وأيضا يَعرف حدود الله وأحكام الله، ويقيمها، قال -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:40]، فهذا أولا.

وثانيا: أن يكون ذا خبرة وذا حصافة في إدارة البلاد وسياستها، وكما في الآية: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص:26]، القوي في دينه، القوي في إدارته، الأمين في دينه. (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ) [يوسف:55]، علَّل على ذلك بقوله: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55]، والحفظ يقتضي الأمانة، والعليم تقتضي الخبرة بتصريف الأمور وإدارتها.

(أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) [النمل:39]، فيكون أمينا لم تظهر منه خيانات لبلده، يكون ديّنا لم تظهر منه خيانات لله، ولا خيانات لرسول الله، ولا خيانات لأهل الإسلام، قوة وأمانة، قوة على الإدارة، وأمانة، وديانة، ويكون كذلك عفيفا عن الحرام بكل صوره، عفيفا عن المحرمات التي ترتكب مع النساء.

لذلك لما أرسل الملِك إلى يوسف -عليه السلام- كي يخرجه من السجن أراد يوسف أن يخرج عفيفا، وهو العفيف، أراد ان يخرج وبراءته ظاهرة للناس، وخاصة أنه تقلد بعد ذلك منصبا، فكيف إذا تقلده وهو متهم بالاعتداء على امرأة العزيز والسجن بسببها؟ قال لرسول الملِك: (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ) [يوسف:50-51]، فشهدت له النسوة اللواتي اتهمنه، وقالت امرأة العزيز التي اتهمته، كما قال -تعالى-: (الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، جاءت الآية بعدها: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) [يوسف:52].

في تفسيرها وجهان: أحدهما أن قائلها يوسف، فعَلْتُ الذي فعلتُ وطلبتُ الذي طلبتُ من الاستشهاد بالنسوة وامرأة العزيز كي يعلم العزيز الذي أكرمني في بيته واستأمنني على أهله أني لم أخنه في زوجته في غيابه، (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف:52]، وأيضا تعففا عن المال الحرام.

ولذلك فإن صحابة فضلاء كرماء، ومع كرمهم وصدق حديثهم لم يصلحوا للإمارة، فنهاهم النبي عنها، نعلم أن أبا ذر قال فيه الرسول الأمين محمد -عليه الصلاة والسلام-: "ما أظلت الخضراء -يعني السماء-، ولا أقلّت الغبراء، أصدق ذي لهجة من أبي ذر".

ها هو -صلى الله عليه وسلم- يوصيه قائلاً: "يا أبا ذر، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم". أي: هذا العمل ليس من تخصصك أنت يا أبا ذر، "لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم"، هذا مع صدق حديثه؛ لكن هذا المقام ليس لك.
 

ولذا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قلد أقواما الإمارة وقد كانوا أدنى فضلا من غيرهم؛ لكفاءتهم، فعلى الأمور الحربية ولى خالد بن الوليد، مع وجود من هو أفضل منه من الصحابة والمهاجرين.

هناك ضوابط للإمارة: أن يكون الأمير متورعا عن المال الحرام، يكون قويا أيضا في بدنه وفي علمه، قال الملأ من بني إسرائيل لنبي لهم: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ...) [البقرة:247]، إلى أن قال في شأن طالوت: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:247]، قوة مع فهم مع ديانة، لئن تخلف بعض ذلك أضر ذلك بالدين، وأضر ذلك بعباد الله -سبحانه وتعالى-.

فيلزم أن يُختار الشخص إذا كان ذا عافية وعِلم، وأيضا -إن لزم الأمر- أن يكون من ذوي الكفاءات الحربية، فالدعوة التي تقول: نريد دولة مدنية، فسواء قصدوا بالمدنية أنها ليست عسكرية أو أنها لا دينية؛ فهي دعوة ليست بصحيحة.

ليس عندنا نص أن الرئيس لا يكون مقاتلا، ليس عندنا نصوص بذلك؛ بل أنبياء الله كانوا أهل قتال: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة:251]، وموسى -عليه السلام-: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) [المائدة:21]، ورسولنا: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران:121].

ويتقدم الصحابة يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الأحزاب، ويوم حُنَيْن، وفي الفتح، وفي سائر الغزوات، فالدعوة الموجهة بأن نأتي برئيس مدني ليس عسكرياً -ليس دفاعا عن عسكري أو طلبا له- دعوةٌ لا مستند لها، ولا أصل لها، لا من كتاب الله، ولا من سُنِّة رسول الله.

وفي الحديث، غزا نبي من الأنبياء فقال: "لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة ولم يبْنِ بها..."، وقال -تعالى-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146].

فليست هناك شروط تقول إنه يلزم أن يكون الرئيس مدنيا أو عسكريا، إنما المطلوب أن يكون من ذوي الكفاءات وذوي الخبرات وذوي الاستشارات، لا أقول رئيسا متهورا يصدر قرارات من نفسه؛ بل ينبغي أن يكون متسما بالحكمة، مستشيرا لغيره، وكما قال العلماء: يتسم بالحكمة، يضع الشدة موضعها، ويضع اللين مواضعه، كما قال -تعالى-: (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا) [الكهف:86-87].

وكذا الدعوة القائلة بأن الرئيس لابد أن يكون توافقيا، هذه دعوة باطلة سخيفة، كيف يكون رئيسا توافقيا؟ لابد أن يرضى الكافر عن الرئيس حتى يرأس! هذه دعوة لا أصل لها! (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون:71].

الدعوة التي يتزعمها بعض المنسوبين إلى الديانة بأن الرئيس يكون توافقيا دعوة باطلة لا مستند لها، فهذه الدعوة معناها أننا لا نُرَئِّسُ رئيسا إلا إذا رضي عنه الليبراليون والديمقراطيون واللا دينيون والنصارى واليهود وغير هؤلاء! وانسلخت جماعات من جلدها الشرعي ومن ثيابها الشرعية فقالت: لا نرشح مرشحا إسلاميا!.

انتبهوا -أيها الإخوة- لما يقال لكم، انتبهوا لما يراد بكم، انتبهوا، والزموا كتاب الله، والزموا سنة رسول الله، إن الوقت ليس وقت استحسان، إن الوقت وقت نصوص، ووقوف على النصوص، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) [الأحزاب:36].

إننا في زمن الصادق فيه يكاد أن يكذب، والكاذب فيه يكاد أن يصدق، والرويبضة تنطق، وكل من لا يفقه يتكلم، فتمسكوا بالكتاب، وتمسكوا بالسنة، ولتكن سنة رسول الله مع كتاب الله مناراً تستنيرون به في الملمات؛ حتى لا تزيغوا، حتى لا تحيدوا عن كتاب الله، ولا عن سنة رسول الله، ولا عن المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك...

 

 

 

 

 

المرفقات

الأخلاق - الصدق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات