مقصد المسلم وغايته من الحياة

عبدالباري بن عواض الثبيتي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/غاية العبد ومقصده رضا ربه 2/النحر والذبح من أعظم العبادات وأشرفها 3/يجب أن يكون كل عمل المسلم لله 4/المسلم كالغيث أينما حل نفع

اقتباس

والذي يريد مرضاة الله لا يتكلم إلا لربه، ولا يعمل إلا لربه، ليله ونهاره، صبحه ومساءه، كله لله وحده لا شريك له، تذكر الآية بتحقيق أشرف مقام وهي العبودية في كل ما يأتي المسلم ويذر، إيمانا بالله، إخلاصا له، حُبًّا لله، شوقا له، خوفا منه، رجاء لفضله، أكل الحلال، ترك الحرام، بر الوالدين، صلة الأرحام، إحسان إلى الجيران، حُسْن خُلُق...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي كرم الإنسان وجعله في الأرض خليفة، أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمة الإيمان والفضيلة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعبوديته مقصد الخليقة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، حذَّر من السباب والرذيلة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل القلوب السليمة.

 

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162]، هذه الآية الكريمة رسمت الهدف والوظيفة والغاية من الحياة؛ وهي أن مقصد المسلم وحياته ومماته لله رب العالمين، لله مالك يوم الدين الذي خلقنا ورزقنا ووهبنا الحياة، تلاوة هذه الآية والتذكير بها والتأمل فيها يُحيي المفاهيم العظيمة، ويجدِّد المعاني النفيسة التي يجب ألا تغيب عن الأذهان، ولا تسقط في دائرة الغفلة والنسيان؛ وهي أن تكون صلاة العبد ونسكه وحياته ومماته لله، وأن يخضع في كل شئونه لمن خلقه ورزقه وصرف أمره ودبره، وأن يتوجه العبد في جميع أموره إلى إرادة وجه الله، ولا يريد شيئا سواه.

 

والذي يريد مرضاة الله لا يتكلم إلا لربه، ولا يعمل إلا لربه، ليله ونهاره، صبحه ومساءه، كله لله وحده لا شريك له، تذكر الآية بتحقيق أشرف مقام وهي العبودية في كل ما يأتي المسلم ويذر، إيمانا بالله، إخلاصا له، حُبًّا لله، شوقا له، خوفا منه، رجاء لفضله، أكل الحلال، ترك الحرام، بر الوالدين، صلة الأرحام، إحسان إلى الجيران، حُسْن خُلُق، غضّ بصر، حجاب، ودعوة إلى الله وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي)[الْأَنْعَامِ: 162].

 

أساس ما يتقرب به العبد لمولاه -جل في علاه- أصول العبادات وأمهاتها، وأجَلُّها أداء الفرائض التي كتبها الله وأوجبها على عباده، ومن رام عظيم الثواب وجزيل الأجر عضَّد أداء الفرائض بالنوافل والسنن، وبها ينال محبة الله فتسمو روحه وتصفو نفسه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي: "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي به، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".

 

(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي)[الْأَنْعَامِ: 162]، النحر والذبح لله -تعالى- من أجل العبادات وأشرفها؛ ولذلك قرنه الله -تعالى- بالصلاة في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)[الْكَوْثَرِ: 2]، وهذه عبادة لها غايات ومقاصد، شرعت في كل شريعة من محبة الله لها ولكثرة نفعها، الذبح لوجه الله من أصول الإيمان، وهو قربان لا يجوز في الإسلام تقديمه إلا لله رب العالمين، وتأتي الذبيحة يوم القيامة بجلودها وشعرها وأظلافها وجميع ما فيها في ميزان العبد إذا كانت لله، ولم تكن لأي شيء سواه، لا تذبح لوثن، ولا لشجر، ولا لقبر، ولا لولي، بل تذبح لله -سبحانه وتعالى- إخلاصا له وتوحيدا.

 

ومن الشرك تقديم القرابين وذبح الذبائح لغير الله، قال علي -رضي الله عنه-: "حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى مُحدِثًا، لعن الله مَنْ غَيَّرَ منارَ الأرضِ".

 

(وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الْأَنْعَامِ: 162]، الحياة لله رب العالمين، هي الحياة على دينه وشرعه وأمره ونهيه بلحظاتها وأشجانها وأفراحها وليلها ونهارها وبكل ما فيها من قيام وقعود وحركة وسكون ونوم واستيقاظ وبيع وشراء وطعام وشراب وتعلم وتعليم وعمل ووظيفة، كل ذلك وغيره لله رب العالمين، والخسارة كل الخسارة أن يسهو المسلم عن هذه المعاني وينسى ربه فيبدو تائها في سيره غافلا عن هدفه وغايته في الحياة ويشرك مع معبوده الأوحد وربه الأكبر، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)[الْحَشْرِ: 19].

 

للمسلم معبود واحد هو الله مالك الملك، الذي أراد من الإنسان أن يتحرر من كل معبود سواه، وأن تكون حياته وتصرفاته ومآله إليه -سبحانه- لا إلى سواه، فيحيا من أجل الله، وفي طاعة الله، هذه الحياة إذا عشناها لله، وفقَ ما يُرضيه وأحببنا ما يحب، وأبغضنا منا يبغض وأحيينا القلب بذكر الله فإنها تكون حياة ممتعة سعيدة (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28]، وهذا حال المسلم بشكل دائم، لا يكاد يمر وقت من الأوقات يكون فيه بعيدا عن ربه وذِكْره وعبادته، تكون الحياة لله رب العالمين باستثمار العمر في البناء والتنمية والعقل في إعمال الأرض والصناعة والزراعة وإصلاح المجتمع وتحقيق الأمن والرخاء، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[الْبَقَرَةِ: 126].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، ولي المتقين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، هذا المسلم الذي يجعل حياته لله كالغيث أينما حل نفع، يحيي الأمل، ويقوي الثقة بالله، يشيع الرحمة في الحياة، ينشر الخير، يطعم المسكين، يقوم على شئون الضعفاء والأيتام والمرضى، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[الْمَائِدَةِ: 32]، ومن كانت حياته لله لم ينتظر من أحد سوى الله جزاء ولا شكورا، ماضٍ في عطائه، لا يُوقفه مَنْ تنكَّب الطريقَ بجحود أو نكران، ولسان أحدهم يقول: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا* إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)[الْإِنْسَانِ: 9-12].

 

ألا وصلوا -عباد الله- على رسول الهدى وقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الآل والصحب الكرام، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنا مطمئنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين.

 

اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شرّ يا رب العالمين.

 

اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا رب العالمين، اللهم أعِنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسِّر الهدى لنا، وانصرنا على مَنْ بغى علينا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين، لك مخبتين لك أواهين منيبين، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا، يا رب العالمين.

 

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنا وما أسررنا وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.

 

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم نعوذ بك من العجز والكسل والبخل والجبن وغلبة الدين وقهر الرجال، اللهم إنا نسألك حسن الختام، والعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

 

اللهم وفِّق إمامَنا لما تحب وترضى، اللهم وفِّقْه لهداك، واجعل عملَه في رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي عهده لكل خير يا رب العالمين، ووفق وفي عهده لكل خير وللبر والتقوى يا أرحم الراحمين، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا أرحم الراحمين.

 

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

 

 

المرفقات

مقصد المسلم وغايته من الحياة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات