عناصر الخطبة
1/إسلام سعد ومكانته في قومه 2/من كرامات الله لسعد عند موته 3/مواقف الصدق الإيمانية في حياة سعد 4/من مظاهر صدق الإيماناقتباس
الحياة لا تقاس بالشهور والأعوام، وقيمة الإنسان ومنزلته في هذه الدنيا لا تحتسب بطول العمر أو قصره؛ وإنما تقاس بمواقف الحق، ومقامات الصدق، وساعات التضحية والمسارعة والبذل، وأيام الثبات عند الابتلاء، فيعظم الإنسان في ميزان الله بقدر مقامات صدقه مع ربه...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
أمَّا بعد: عباد الله: سعد بن معاذ بن النعمان سيد من سادات بني عبد الأشهل من الأنصار، أسلم شابًا وهو ابن ثلاثين سنة، وعاش في الإسلام ستَّ سنواتٍ فقط، أدرك فيها هجرة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وشهد معه بدرًا وأُحد والأحزاب، ومات بعدها، لكنه لما مات كان لموته وقعٌ عظيم في الأرض وفي السماء.
أما الأرض: فقد قالت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- "ما كان أحدٌ أشد فقدًا على المسلمين بعد رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وصاحبيه من سعد بن معاذ"، وأما السماوات: فقد فُتحت أبوابها واستبشر أهلها، قال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لما مات سعد: "هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَهْبِطُوا إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ أُفْرِجُ عَنْهُ".
وفي الصحيحين أنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: "اهتزَّ العرش لموتِ سعدِ بنِ مُعاذٍ"، وفي رواية: "من فرح الرب -عَزَّ وَجَلَّ-"، قال ابن حجر: "واهتزاز العرش استبشاره وسروره بقدوم روح سعد، كما يقال لمن خرج لاستقبال وافد عليه: اهتزَّ له؛ أي: فرحًا بقدومه وسرورًا به".
هذه المناقب الجليلة -أيها الإخوة- تدعونا إلى أن نرجع لسيرة ذلك الرجل العظيم، لنقرأها ونستقرئ أحداثها موقفًا موقفًا، ونتساءل: بأي شيء بلغ هذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة؟ وفي ست سنوات فحسب!.
إذا تصفحنا سيرة سعد بن معاذ، وجدنا رجلًا قد صدق في إيمانه، عنوان حياته: هو الصدق في الإيمان؛ صدق في إيمانه بالله ربا، فعظَّمه على كل شيء وقدَّم ما يحبُّه على كلِّ شيء، وصدق في إيمانه بالإسلام دينًا عظيمًا كاملًا، فأخذه بحذافيره بعزة وإباء، وصدق في إيمانه بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- رسولًا وقائدًا وقدوةً ومتبعًا، فكان أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين، كانت مواقفُه مواقفَ صدق، وكانت أفعالُه دليلًا على حبه لله ولرسوله ونصرة دينه.
بدأت مواقفه العظيمة من أول لحظة دخل فيها إلى الإسلام، من اللحظة التي قال فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، وخالطَ الإيمانُ قلبَه، لما أرسل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- مصعب بن عمير إلى المدينة قبل الهجرة، أسلم على يده سعد بن معاذ، ودخل الإيمان قلبه، وكان يومئذ سيدا من سادات الأوس، لكنه قرر أن يفارق دين قومه ويعلن توحيده لرب العالمين، وهذا قرار خطير قد يؤثر على سيادته ومعيشته ومصالحه وعلاقته بالناس.
لم يتردد سعد، لم يكتم إسلامه أو يخفي دينه، لم يخش العواقب ويحسب الحسابات، ويفكر في رضا فلان وما سيقوله فلان، بل خرج من مجلس مصعب بن عمير، فجمع قومه من بني عبد الأشهل وقال: "كيف تعلمون أمري فيكم؟"، قالوا: "أنت سيدنا وابن سيدنا"، قال: "فإنَّ كلامكم عليَّ حرامٌ، رجالكم ونساؤكم؛ حتى تؤمنوا بالله وبرسوله"، فآمن بنو عبد الأشهل من الأوس، وكان سعد من أعظم الناس بركة على قومه.
وهاجر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بعدها إلى المدينة فتنعَّم سعد بصحبته ورؤيته وقربه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فلما كان يوم بدرٍ في السنة الثَّانِيَة من الهجرة كان عدد المسلمين قليلًا، ثلاثمائة وبضع عشرة رجلًا، خرجوا يريدون قافلة قريش التي يقودها أبو سفيان ليس فيها إلا أربعين رجلًا، فلما بلغوا بدرا، إذا بالأخبار تصلهم أن قريشًا قد خرجت إليهم بخيلها ورَجْلِها في ألف مقاتل، بطرًا ورئاءً ويصدون عن سبيل الله كما وصفهم القرآن.
وحينها -أيها الإخوة- انقلبت الموازين، واختلف الحال وتغيرت الحسابات، لقد كان المسلمون فئة كثيرة يلاحقون قافلة، ولم يخرجوا بسلاح الحرب، بل خرجوا بسلاح المسافر والراكب، وإذا بهم أمام هذا الجيش العظيم الذي يقصدهم!.
وحينها قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "أشيروا عليَّ أيها الناس؟"، فقام أبو بكر فتكلم بكلامٍ يُنبئ عن صدق إيمانه، وتمام استعداده، وأحسن في كلامه ثم جلس، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، فقام عمر فتكلم بنحو ما قاله أبو بكر وجلس،
قال: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، قام المقداد بن الأسود فقال مثلما قالوا وجلس، كلهم يعاهد على القتال ويبدي الاستعداد، لكن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لا يزال يناديهم: "أشيروا عليَّ أيها الناس".
فقام سعد بن معاذ فقال: "واللهِ لكأنَّكَ تُريدُنا يا رسولَ اللهِ؟"، تريد أن تسمع رأي الأنصار؛ لأن الأنصار كانوا أكثر الجيش يوم بدر، ولأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بايع الأنصار يوم العقبة على أن يحموه في المدينة مما يحمون منه أنفسهم ونساءهم، وهذا القتال خارج المدينة، فهو خارج عن بنود المعاهدة والاتفاق، فكان النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يريد أن يسمع رأي الأنصار في ذلك المقام.
قال سعد: "لعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: قد آمَنَّا بك، وصدَّقْناكَ، وشهِدْنا أنَّ ما جِئْتَ به هو الحَقُّ، وأعطَيْناكَ على ذلك عُهودَنا ومَواثيقَنا، فامْضِ يا رسولَ اللهِ فنحن معك، والذي بعَثَكَ بالحَقِّ، لو استعرَضتَ بنا هذا البَحرَ لخُضْناه، ما تخلَّف منَّا رَجُلٌ واحدٌ، وما نَكرَهُ أنْ تَلقى بنا عَدوَّنا غدًا، إنَّا لصبرٌ في الحربِ، صدقٌ عندَ اللِّقاءِ، لعلَّ اللهَ أن يُريكَ منَّا ما تقَرُّ به عَينُكَ، يا رسول الله، صل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منَّا أحبَّ إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فأمرنا تبعٌ لأمرك".
فسُرَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وفرح بهذه الكلمات، واستبشر بسعد الذي تحمل التبعة وتحمل المسؤولية، وأجاب على لسان الأنصار جميعًا وهم أكثر الجيش، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "سيروا وأبشروا؛ فإن الله -تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم"، ونصره الله يوم بدرٍ نصرًا مبينًا.
ولما كان يوم أُحد أصيب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بمصابٍ عظيم، وكان من أعظم مصابه قتل حمزة بن عبد المطلب، عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- وحبيبه، فلما رجع إلى المدينة ومر بأزقتها سمع بكاء نساء الأنصار في دورهم، يبكين قتلاهن، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "لكن حمزة لا بواكي له"، ليس في المدينة من يبكي وجعًا على فقد حمزة؛ لقلة قرابته فيها، وذلك يُحزن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.
رجع -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى بيته، لكن هذه الكلمة بلغت سعد بن معاذ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فمشى إلى دور بني عبد الأشهل وقال: "والله لا تبكين قتلى الأنصار؛ حتى تبكين عم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فإنه قد ذكر أنه لا بواكي له بالمدينة"، وخرج بهن، وإذا بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يجد جماعة من النساء عند باب بيته يبكين حمزة، ويُظهرن حزنهن، فنام ثم استيقظ وهن على بابه، فقال: "مُروهنَّ فليَرجِعنَ، ولا يَبكينَ على هالكٍ بعدَ اليومِ"، مواساة ونصرة حتى بالمشاعر، حتى في البحث عما يواسي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ويخفف آلامه وأحزانه.
وفي يوم الأحزاب وما بعده قام سعد بن معاذ لربه مقام صدق، في ولائه لله ورسوله، وفي برائه من أعداء الله ولو كانوا أقرب الناس إليه، يومَ أن حاصرت قريش ومن معها مدينةَ رسول الله، بعشرة آلاف مقاتل، ثم نقضت بنو قريظة عهدها، وغدرت بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وعظم الكرب واشتد البلاء؛ (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)[الأحزاب: 10، 11].
جاهد سعدٌ مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ذلك اليوم، ورُمي بسهم فانقطع أَكْحَلُهُ، وهو عِرق في اليد إذا انقطع لا يكاد يلتئم، فحُسم جرحه بالنار ليرقأ الدم، فانتفخت يده وزاد نزيفه، فلما رأى شدة إصابته وشعر بدنو أجله، وغلب على ظنه أنه الجرح قاتلُه، قال: " اللَّهمّ إنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا؛ فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَهُمْ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَكَ وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ -يدعو أن يُمد الله في عمره؛ ليواصل جهاده ويقاتل أعداء الله- اللَّهمّ وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَضَعْتُ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لِي شَهَادَةً، وَلَا تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ"، اللَّهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستجيب دعاؤه واستمسك جرحه، فما سالت منه قطرة.
ثم بعث الله ريحا وجنودًا من ملائكته، فنصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ونزل جبريل على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقال: "إنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَأْمُرُكَ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ"، فمضى إليهم، وحاصر قلاعهم وحصونهم خمسًا وعشرين ليلة، وَقَذَفَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِم، فيئسوا واستسلموا، ونزلوا على حكم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فَتَوَاثَبَتْ الْأَوْسُ، وقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّهُمْ مَوَالِينَا - وكانت بنو قريظة في الجاهلية حلفاءَ الأوس وأعوانهم، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "أَلَا تَرْضَوْنَ -يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ- أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ؟"، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "فَذَاكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ".
وسعدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في خيمته في المدينة يعالج من جرحه وإصابته، فمضى إليه قومه من الأوس، وحملوه على دابته إلى حصون بني قريظة ليحكم فيهم، وهو في الطريق أحاط به قومه من الأوس فجعلوا يقولون: "يَا أَبَا عَمْرٍو، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيكَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنَّمَا وَلَّاكَ لِتُحْسِنَ فيهم، يا أبا عمرو، هؤلاء مواليك نصروك في المواطن كلها، واختاروك على من سواك ورجَوا عطفك، أحسن إليهم كما فعل الخزرج، لا تكن شرًا من عبد الله بن أُبي الذي شفع لمواليه من اليهود"، وسعد ساكت لا يجيبهم ولا يتلفت إليهم، فلما أكثروا عليه الكلام قال: "لقد آن لسعدٍ ألا تأخذه في الله لومة لائم"، فعلموا أنه سيحكم فيهم بأمر عظيم.
وصل سعد إلى مجلس النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، فلما رءاه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال "قوموا إلى سيدكم"، فقاموا فأنزلوه، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك"، قال: يا رسول الله، وحكمي نافذ فيهم، قالوا: نعم، قال: وعلى المسلمين؟ قالوا: نعم، قال: وعلى من ههنا؟ وأومَأَ برأسه إلى جهة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، ولم يقل: وحكمي نافذ عليك يا رسول الله؛ أدبًا معه وإجلالا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-: "نعم، وعليَّ".
وصمت الناس، واحتبست الأنفاس، وتعلقت الأنظار بسعدٍ وما يحْكُم به، فقال بغير تردد: "فإني أحكم فيهم أن تُقتلَ المقاتلة، وتُسبى النساء والذرية، وتُقسم الأموال"، فقال -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-: "لقد حكمت فيهم بحكم الله -عَزَّ وَجَلَّ- من فوق سبع سماوات".
ولم يلبث سعدٌ بعدها إلا قليلا، ومات متأثرًا بجرحه، فأخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أصحابه، وقال: "لقد اهتزَّ العرش لموتِ سعدِ بنِ مُعاذٍ".
أسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يرضى عن سعد وعن سائر أصحاب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-، وأن يلحقنا بهم في الصالحين غير خزايا ولا مبدلين.
بارك لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من آيٍ وهدى مستقيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
عباد الله: سيرة سعد بن معاذ سيرة عطرة على قلة السنوات التي عاشها في الإسلام، وعلى قلة المشاهد والغزوات التي أدركها مقارنة بغيره ممن طالت صحبته للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومع ذلك فقد تميز بهذه المناقب وبلغ تلك المنازل.
وإذا تأملنا هذه السيرة القصيرة والمواقف المعدودة التي نقلت إلينا، وجدنا لها عنوانًا واضحًا، وهو صدق الإيمان بالله -عَزَّ وَجَلَّ-، فالإيمان ليس قناعة واعترافا فقط، يقتنع الإنسان أن الله هو ربه، وأن الدين حق، وأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-حق، قناعةً مجردةً منفكة عن الأعمال، وإنما صدق الإيمان أن يؤمن الإنسان بالله ربًا، فينعكس ذلك على حياته تعظيمًا وإجلالًا لله، وتقديمًا لما يحبه -سبحانه- على ما تحبه النفس، وما يريده الناس، فلا يقدم على رضى ربه حظا لنفسه، ولا رضا لمخلوقٍ مهما كان.
أن يصدق في إيمانه بالإسلام دينًا، فيطمئن قلبه وينشرح لكل حكم جاء به، ويوقن أنه الدين الكامل الذي يحتاج إليه في كل طرفة عين، في كل لحظة من حياته، فدينه معه في مسجده، ومعه في عمله، وفي معاملاته وفي أخلاقه، وفي بيته ومع قرابته، ومع الناس في الشارع، يجري حياته كلها جميعًا، كل حياته محكومة بمقتضى هذا الدين العظيم؛ لأنه يؤمن بالإسلام دينًا.
وصدق الإيمان بالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- رسولًا، فهو القدوة والأسوة، وهو محل التعظيم والإجلال والاتباع، وهو المقدم على النفس والمال والولد.
لقد كان سعدٌ صادقًا في إيمانه؛ فكل موقف احتاج إلى التضحية بنفسه أو بماله أو بمشاعره أو بمنصبه وجاهه لنيل مرضاة الله، يبادر إليه ولا يخشى في الله لومة لائم، كان الله -عَزَّ وَجَلَّ- أحب إليه من كل شيء.
ونحن -أيها الإخوة الكرام- قد تعرض علينا في حياتنا مواقف وابتلاءات واختبارات، يقف الإنسان فيها أمام خيارين: إما أن يفعل ما يحب أو يفعل ما يجب، أما أن يتبع الهوى أو يتبع الهدى، إما أن يقدم ما يريده الناس أو يقدم ما يريده الله، إما أن يرضي الخلق وإما أن يؤثر الخالق، هذا القرار هو امتحان وابتلاء يختبر به العبد، فمن صدق فيه مع الله؛ رفع الله منزلته ومكانته بصدقه في إيمانه؛ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)[العنكبوت: 2، 3]، كل فتنة واختبار يتبين بها الذين صدقوا في قولهم: آمنَّا، والذين لم يصدقوا تمام الصدق في هذه الكلمة.
وختاما -أيها الإخوة- كم لبث سعد بن معاذ في الإسلام، وأين بلغت منزلته عند الله، ست سنوات فقط!، عاشها من يوم أن نطق الشهادة، لكنه مات فاهتز له العرش!.
الحياة -أيها الإخوة- لا تقاس بالشهور والأعوام، وقيمة الإنسان ومنزلته في هذه الدنيا لا تحتسب بطول العمر أو قصره؛ وإنما تقاس بمواقف الحق، ومقامات الصدق، وساعات التضحية والمسارعة والبذل، وأيام الثبات عند الابتلاء، فيعظم الإنسان في ميزان الله بقدر مقامات صدقه مع ربه -عز وجل-.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، وخذ بنواصينا للبر والتقوى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم