مقاصد سورة الطارق

عبد البديع أبو هاشم

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ "سورة الطارق" مكية بالإجماع 2/ المقصود ب "الطارق" ولماذا أقسم الله به؟ 3/ أوجه التناسب والتشابه بين "سورة الطارق" و "سورة البروج" 4/ شرح آيات "سورة الطارق" وبيان مقاصدها وأسرارها 5/ عظم المسؤولية في الإسلام

اقتباس

سورة مكية بإجماع العلماء، وبدأها الله -تعالى- بالقسم مما يدل على مكيتها ليؤكد حقائق كذب بها المشركون في مكة، وليؤكدها أيضا لكل من كذب بها على طول الزمان. سورة سماها الله بهذا الاسم: "الطارق"، حيث أقسم...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين، نحمده -سبحانه وتعالى- ونستعينه ونتوب إليه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ به –سبحانه- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يطرق ظلمة الليل بالنجم الثاقب، ويطرق ظلمة الظلم بالقدرة القادرة.

وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ونقر بأنه علمنا كل شيء، علمنا أن كل نفس عليها رقيب، علمنا أن الله على كل شيء قدير، علمنا أن الإنسان ينتهي إلى الله بالموت ثم بالبعث إما إلى جنة أبدا وإما إلى نار أبداً وبئس المصير، علمنا أن الله يكيد مع كيد الكائدين، فيمكر ويمكرون، ويكيد ويكيدون، والقدرة الغالبة لله رب العالمين، علمنا كل شيء من قرآن ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-، فصلوات ربنا وتسليماته وبركاته على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة الكرماء: نحن مع "سورة الطارق" في هذه اللحظات المباركة في سلسلة حديثنا عن مقاصد السور، و "سورة الطارق" مكية، أنزلها الله -تعالى- قبل الهجرة بأربع سنوات.

 

سورة مكية بإجماع العلماء، وبدأها الله -تعالى- بالقسم مما يدل على مكيتها ليؤكد حقائق كذب بها المشركون في مكة، وليؤكدها أيضا لكل من كذب بها على طول الزمان.

 

سورة سماها الله بهذا الاسم: "الطارق"، حيث أقسم بالسماء والطارق، والطارق كما قال ربنا في السورة هو النجم الثاقب: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [الطارق: 2 - 3]، وكلمة: "الطارق" عنوان على السورة بغض النظر عن النجوم كان تطلق عند العرب على كل آت بليل، من يطرق بابي ليلا اسمه: "طارق".

 

وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يطرق أهله ليلا إذا قدم من سفر فلا يدخل بيوته ليلا، وكان يستعيذ من كل طارق بليل إلا طارقا يطرق بخير.

 

ويكثر هذا الاسم على الضيف الذي ينزل على صاحب البيت ليلا فطرقة الباب بالليل مخيفة، فكان يطرق حجرا، أو يضرب على شيء، يعلم أهل البيت أن واحدا بالخارج، دون أن يطرق باب البيت، تأمينا لهم.

 

والشرور تكثر بالليل والحشرات الضارة تعبث وتزحف بالليل، وأهل السرقة والظلم والاعتداء يكثرون بالليل، وينتشرون بالليل؛ لذلك قال الله في سورة أخرى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ) [الفلق: 1 - 3] من شر الليل إذا اكتملت ظلمته.

 

إنما الطارق الذي ذكره الله بالسورة هو النجم الثاقب الذي يظهر في أفق السماء ليلا بقدرة عظيمة لا يرده أحد، ولا يمنعه أحد، فيثقب ظلمة الدنيا بنوره وضيائه، فيكون الشعاع منه كالمسمار يثقب الجسم الذي يدخل فيه.

 

سماها الله بهذا الاسم لدلالة نعرفها في مناسبة السورة بما قبلها إن شاء الله، هذا هو اسمها، ويترجح عند العلماء أن أسماء السور من عند الله، وتلتقي هذه السورة مع ما قبلها بهذا الشكل: أن السورتين ابتدأهما الله -تعالى- بالقسم بالسماء ونجومها؛ كما عرفنا في قوله تعالى: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ) [البروج: 1]، وقال العلماء: بروج السماء نجومها، وهنا: (وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [الطارق: 1 - 3]، فهو افتتاح واحد للسورتين.

 

في السورتين تأكيد على أمر البعث يوم القيامة، ورجعة الإنسان إلى ربه، سبق في سورة البروج قول الله -تعالى-: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) [البروج: 13]، يبدئ الخلق ثم يعيده مرة أخرى في الآخرة، وجاء في سورة الطارق قول الله -تعالى-: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) [الطارق: 8].

 

كما أن في السورتين تعظيما لشأن القرآن لتعلموا قيمة القرآن -يا أمة القرآن-، في السورة السابقة البروج قال الله -تعالى-: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ) [البروج: 21 - 22]، وفي سورة الطارق يقول الله -سبحانه-: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق: 11 - 14]، إنه القرآن بما فيه من أخبار، بما فيه من وعد ووعيد، بما فيه من تشريعات: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) قاطع: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ).

 

هذه السورة "سورة الطارق" تلتقي مع سورة البروج بتناسب عجيب آخر، فإن سورة البروج -كما عرفنا- أشارت إلى قوة ملوك الأرض، أولئك الذين يتخذون البروج والقصور والمباني العالية إشارة إلى كبريائهم وعلوهم، فإن الله أعلى منهم، وهذه السورة "سورة الطارق" تبين أن هذه البروج مهما علت، فإن طارقا من عند الحق العدل يطرقها يوما ويقسمها ويهزمها؛ كما أن النجم الثاقب يبدد ظلمة الليل، فإن قدرة الله بإقامة الحق والعدل تطرق بروج الظالمين وتهدمها على رؤوسهم يوما.

 

كما أن النجم الثاقب يكشف الأستار التي اختبأ تحتها العابثين بالليل في الظلام، فيضيء عليهم ظلمتهم فيظهرون بشرورهم، كذلك الله -تعالى- حتما ولا بد أن يفضح الظالمين المستترين، وأن يظهرهم أمام العالمين بخزيهم وذلهم وجرائمهم، وما اكتسبت أيديهم، والواقع أصدق دليل وأعظم شاهد على ما يوحيه القرآن الكريم من دلالات وإشارات ولو من بين سورة وسورة من خلال الآيات الواضحات البينات التي تشتمل عليها السورة.

 

أخي الكريم: إن هذه السورة المباركة لها سياق كسياق السور المكية التي نزلت قبل الهجرة، إنها تؤكد على أمر العقيدة، والعقيدة بتلخيص شديد بيان للعلاقة بين العبد وربه، من أنا في هذا الكون الكبير العظيم؟ وما حجمي؟ وهل لي فضل أو أنا عبد؟ وعبد لمن؟ من ذا الذي يستحق أن أسلمه رقبتي وحياتي ومماتي؟ وأن أرجع إليه بكل عمل؟ (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162 - 163]، تلك الجملة، تلك الآية القصيرة في لفظها القليلة في كلماتها، إنما هي حقيقة ظل القرآن يتنزل يقررها ويعلمها ويثبتها ثلاثة عشر عاما، أو قل ثلاث عشرة سنة من المنازعة والمحاجة والبيان وإقامة الأدلة الواضحة، ومعالجة التكذيب والكبر في نفوس الكافرين.

 

ثلاث عشرة سنة حتى ثبتت العقيدة في قلوب المؤمنين، فهاجروا إلى المدينة وتنزل القرآن يخبرهم بالحلال والحرام، بالتشريعات والعبادات والآداب في كل مجال من مجالات حياتهم، وعند كل أمر ونهي يقولون: سمعنا وأطعنا: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [النور: 51].

 

وما يستغرب الناس اليوم أو يستنكرون أو يرفضون على حسب المستويات المختلفة، أو يستنكرون أن يحكموا شرع الله في عباد الله، فيريدونها دولة مدنية لا إسلامية؛ لأنهم جهلوا أو نسوا أو تناسوا علاقتهم بالله، من أنا؟ أنا مخلوق من الذي خلقني؟ الله، من الذي وهبني هذه الحياة ثم يميتني ثم يبعثني؟ هو الله، إذاً من أحكم في حياتي؟ أسير في هذا الكون بقانون من؟ واضحة جليلة بينة كالشمس أو أشد وضوحا، لماذا لا تريدونها -يا أمة القرآن- إسلامية؟ لماذا؟! إنه حكم الله الذي خلق، لا نذهب ولنمض مع آيات السورة لنرى هذه الحقائق.

 

الله -تعالى- يقسم وما كان لله أن يقسم؛ لأن قوله الحق وحديثه الصدق: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً) [النساء: 122]، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87]، لا أحد، ولكن كم العناد والتكذيب أمام وحي الله؟ رأى الله -عز وجل- أن من حق هذا الإنسان أن أقسم له وأن أؤكد له الكلام بالقسم واليمين، فأقسم سبحانه قال: (وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ) [الطارق: 1]، والسماء خلق عظيم، ولا يقسم الله إلا بعظيم، والطارق شيء معجز من ذا الذي استطاع أن يصل إلى نجم ليجعله يشرق أو يغرب ليعدل فيه أو يصور، أو نحو ذلك؟

 

إنما نحن الخلق جميعا لا نستطيع أن نصل إلى النجم، فضلا عن السماء والله فوق كل سماواته، عال فوق خلقه سبحانه وتعالى، مستو على عرشه بكبريائه وعظمته، وإن أبى الآبون، ورفض الرافضون، فإنهم لا ينفعون الله ولا يضروه.

 

النجم لا نستطيع الوصول إليه، ولا نستطيع حجب نوره، وستر ضياءه، إنما هو الذي يكشفنا ويفضحنا، أو يظهرنا بعملنا الصالح، يقسم الله بهذا، ويعظم الله من شأن النجم؛ لأننا ما لمسناه ما أنزلناه بين أيدينا، ما رأيناه على حقيقته إنما نرى مصباحا مضيئا على بُعد بعيد، لكن ما رأينا حجمه بأعيننا ولا كتلته فضلا عن مادة خلقه، لا نعرف شيئا عن ذلك.

 

هذه العظمة المنسية في القلب الله -تعالى- يحييها ويذكرنا بها: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ) [الطارق: 2]، ماذا تعرف عن الطارق؟ (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) [الطارق: 3]، النجم هو الشيء الذي يظهر، فكل ما نجم، كل ما ظهر فهو نجم، ولذلك يقال عن الناس الظاهرين في أي زمان إن كانوا علماء أو لاهين أو لاعبين، إنه نجم، نجم في تخصصه؛ لأنه بارز معدود مخصوص بالظهور، فيقال له: "نجم" فكل ما ظهر فقط نجم، وظهر وبرز.

 

(الثَّاقِبُ) الذي يثقب الليل وهو كتلة عظيمة بين السماء وبين الأرض: (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا)، الليل كله مظلم، فالنجم يثقب ظلمة الليل بشعاعه وضيائه ونوره، ولا تستطيع الظلمة أن تشتد على شعاع تلك النجم، بل هو يخترقها: (النَّجْمُ الثَّاقِبُ)، وذلك علم لم يعرفها البشر إلا في النصف الثاني والأخير من هذا القرن حين كشف الله للناس عن الإعجاز القرآني في الكون، وكأن الله يمهد منذ فترة يلفت فيها أنظار الناس يلفت في هذا التمهيد أنظار الناس إلى أن مرحلة قادمة سوف تواتيكم الفرصة لتديروا حياتكم بهذا القرآن المعجز الذي ليس عندكم ولا عند غيركم مثله فهل تقنعون؟ قرآن معجز فيه حل لكل مشكلة، فيه شفاء لكل معضلة، فيه بيان لكل موقف من مواقف الحياة.

 

وحكم آخر مدني أو عسكري أو شيوعي أو ديمقراطي، أو غير ذلك؛ أنتجه أهل فكر قاصر، يجهل ويعلم، يصيب ويخطئ.

 

أيها العاقلون: ماذا تختارون لأنفسكم؟ كلام وحكم معجز ظهر إعجازه في مجال العلم الحديث بلسان ناطق صريح، وحجة ثاقبة واضحة، أو أنكم تحكمون وتديرون حياتكم بما اقترحته عقول بشر، وإن علموا فيعتريهم الجهل، وإن أصابوا أحيانا سيخطئون أحيانا أخرى، الخيار لكم، والعاقبة عليكم أو لكم، القرآن معجز.

 

النجم الثاقب ذكر الله في القرآن، ونطق به القرآن على مسامع الناس في طول الزمان ولم يعرفه أهل العلم إلا في السنوات المتأخرة.

 

يقسم الله بهذا القسم العظيم على ماذا؟ (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) [الطارق: 4]، ما من نفس من الأنفس التي خلقها الله إلا وعليها حافظ، ماذا يفعل هذا الحافظ؟ سبق بنا في سورة "الانفطار": (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ) [الانفطار: 10]، ماذا يفعلون؟ (كِرَامًا كَاتِبِينَ) [الانفطار: 11]، (كِرَامًا) أهل أمانة، كرم الطبع لا يخون، لا يوقعك في الشر، ولا يزيد عليك فيه، يكتب لك الخير والشر، ويسارع بكتابة الخير، ويتباطئ في كتابة الشر لعلك تتوب منه.

 

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) [الانفطار: 10 - 12] لديه قدرة أن يعلم عملي وإن لم ينظر إلي، حياءً مني، حينما أخلع ملابسي، أو اكشف عن عورتي لأمر من أمور حياتي، فلا ينظر إلي الملك، ولكن لديه قدرة أن يعلم عملي مع عدم النظر إلي، إن الله كلفه بهذه المهمة، وأعده لها.

 

(إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) [الطارق: 4]، وتابع أنت الخطوات -أيها العاقل- أيها اللبيب-: افهم ما بعد ذلك، إذا حفظ الله أعمالنا، لماذا يحفظها؟ تاريخ كبير، ذكريات.. لا والله إنما ليحاسبنا عليها، ليقابلنا بها يوم القيامة: (اقْرَأْ كَتَابَكَ) [الإسراء: 14]، فهو يعلم عنا كل شيء، ولكن من حكمته لا يحاسبنا بعلمه، فيقول لأحدنا مثلا: أنا عرفت أنك ستكون كذا، وستفعل كذا، فقضيت لك الجنة، أما أنت فعرفت عنك أنك ستخطئ، وتجرم في كذا، وتظلم في كذا، اذهبوا به إلى النار، فيقول الإنسان محتجا على الملك الجبار مثلا: يا رب جربني، أعطني فرصة، أظهرني، ما كنت لأفعل ذلك، ويتهم الله في علمه، فلئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل جعلنا في الدنيا، وبعث لنا رسلا يبينون لنا الطريق، وكتب فيها المنهج الذي نقوم به، وحفظة يكتبون أعمالنا، فيقابلنا الله يوم القيامة بكتبنا هذا عملك بعد علمي بعملك، فأحاسبك بما سجلت عليك بأيدي ملائكتي.

 

(إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) [الطارق: 4] يعني سأحسبكم على أعمالكم قولا وفعلا، ولذلك ينصح الله، ويعظ الإنسان، والإنسان هو الكافر، أما المؤمن فقد عرف والتزم من المفترض، هو لا يحتاج إلى قسم فقد صدق الله -عز وجل- وآمن بالله كما يقول ويزعم، إذا كنت تؤمن بالله وصدقت بالله، فلماذا تخاف من حكمه؟! أتعلم أنك جانٍ، وإذا طبق شرع الله ستأخذ يدك أو غير ذلك من العقوبات، فلذلك تخشى تطبيق شرع الله، وترفض الحكم الإسلامي!

 

لو قالها كافر ما عاتبنا عليه، كفره يجعله يقول هذا، أما أن يقول مسلمون كثيرون: سننزل إلى الانتخابات والتصويت على الدستور، ونطالب أن تكون مدنية لا إسلامية! كيف أنت مسلم؟ إذاً: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) [النساء: 60] يعني يقول بلسانه: أنا أؤمن بالقرآن وبالإنجيل وبالزبور، وبكل ما أنزل الله من كتاب.. كلام جميل: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ) [النساء: 60]، والطاغوت هو الحكم بغير ما أنزل الله، ومن حكم بغير ما أنزل الله يسمى: طاغوتا؛ ولأن الشيطان هو الذي يدعو إلى ذلك، ويوقع البشر فيه، فيسمى الشيطان أيضا: طاغوتا، الثلاثة سموا في القرآن طواغيت: (يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ)، يعني عجبا تزعم أنك آمنت بالكتب المنزلة من السماء، تؤمن بمنهج السماء في كل الأزمان، واليوم تريد أن تحتكم إلى الطاغوت، إلى غير ما أنزل الله؟! كيف توفق بين هذا وهذا؟! تقول الشريعة هذه رسالة زمان لا تصلح، تقول: الشريعة تأخرنا وترجع بنا ألف وأربعمائة عام؟! معنى هذا أن القرآن لا يصلح الآن، أن حكم الله لا يصلح للعباد الآن، وبالتالي حكم الله قاصر -والعياذ بالله- أبداً والله إنما أنزل الله القرآن، وجعله معجزا ليحكم كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة.

 

أليس القرآن معجزا لعلماء زمانكم يخبرهم بأنني سبقتكم بعلم هذه الحقيقة قبلكم بألف عام، أو ألف وأربعمائة عام، أو كذا من الزمان؟ يخبرهم بهذا ويفاجئهم، إذا ثبت إعجازه علميا، واليوم يوم العلم، والنعرة للعَلم، والصرخة للعَلم، والعَلم يرفع للعِلم، إذاً لماذا يؤخر القرآن؟ لماذا يلقى وراء ظهورنا؟ لماذا لا نريده؟ والله إنها لجريمة كبيرة.

 

(إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) [الطارق: 4]، فسوف يحاسبكم الله على ما كتبه الحفظة عليكم، إذاً لتعرف الحقيقة: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) [الطارق: 5]، انظر في نفسك: (خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ) [الطارق: 6]، هذا الماء نراه ونعرفه، لكن من أين يأتي؟ البشرية ما زالت تجهل منبع هذا الماء، ومجرى هذا الماء، ومستقر هذا الماء، إلى سنوات قليلة سبقت كشف الله عن هذا العلم للناس، العلم الذي أشار الله إليه في القرآن، وأوجده حقيقة في الكون ليعلمهم أن منزل هذا القرآن هو مكون هذا الكون، فآمنوا به، ورضوا بحكمه: (مَّاء دَافِقٍ) نعم، يا رب هذا صحيح، نعرف هذا الماء.

 

(يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق: 7]، عرف العلم الحديث بما علمه الله إياه، لا أقول بما اكتشف، بل ربنا -سبحانه وتعالى- يقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53]، فالله هو الذي أراهم هذه الحقائق العلمية، منبع هذا الماء من تجمع دموي من الدماء، وينزل من عرقين خلف الأذنين، يمران عند صلب الرجل وظهره، وعند المرأة من صدرها إلى مكان البويضات عند المرأة، وإلى خصيتين الرجل ففيها التجمع المنوي، وعند اللقاء الزوجي يلتقي الماءان على قدر قدره الله، فيكون الإنسان، ولا يكون إلا بإذن الرحمن، فكم ممن طلب الولد ولم يجد؟ وكم ممن رفض الولد ووجد؟ ويضعون الموانع والمعوقات، وتحمل المرأة رغم المعوقات: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير: 29]، ما شاء الله كان وما شاء لم يكن سبحانه وتعالى.

 

(يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق: 7]، وهذه من العلوم أيضا التي لم يعرفها البشر إلا منذ قليل: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) [الطارق: 8]، إن الله على رجع الإنسان إلى حياة أخرى كما خلقه أول مرة يعيده يوم القيامة، وقيل: إن الله قادر على إرجاع هذا الماء في الدماء، فلا تجدون أولادا ولا أحفادا، يموتون وينقرض البشر من الأرض، ولا حاجة لله في البشر، ولا في الخلق كله، هذا أو ذاك الله على كل شيء قدير، يفعل ما يشاء -سبحانه وتعالى-: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء: 23]، قادر على تجفيف المنابع، وقادر على خلق الإنسان مرة أخرى، فالآية تعطي هذا وتعطي ذاك، وساعة أن يرد الله الإنسان إلى يوم القيامة بالبعث، وهذا هو المعنى الراجح والمتمشي مع معنى السورة ومقصودها يوم أن يجد الإنسان نفسه يوم القيامة راجعا إلى الحياة بعد الموت لا يجد قوة في نفسه تدفع عنه عقاب الله وعتابه، ولا يجد مصيرا من غيره: (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق: 10] لكن ماذا يكون هذا الرجع؟ يوم أن تثقب الصدور كما كان النجم الثاقب يثقب ظلام الليل، ويكشف الله عما في الصدور: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) [العاديات: 9 - 11].

 

قال الله -تعالى-: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق: 8 - 9] (تُبْلَى) تختبر، وإذا اختبر الإنسان عرف إن كان عالما أو جاهلا، إن كان قويا جلدا أو خائفا هلعا، أو ما إلى ذلك مما يبين حقيقة الشيء، إذا اختبر الشيء عرف أنه ذهب أو مذهب بماء الذهب وليس ذهبا، اختبار يبين حقيقة الشيء، فيوم القيامة تبلى السرائر التي أسرها الإنسان في صدره، ولم يعلمها الخلق عنه، الله -تعالى- يكشفها يوم القيامة.

 

ستر الله علينا جميعا في الدنيا والآخرة .

 

(تُبْلَى السَّرَائِرُ) تفتضح، يكشف ما فيها، ساعتها: (فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ) [الطارق: 10]، لا يقوى الإنسان بنفسه على شيء، ولا يجد له نصيرا من غيره، لماذا؟ (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34 -37].

 

ثم يقسم الله -تبارك وتعالى- قسما آخر على حقيقة أخرى؛ لأن الكفار كانوا إذا سمعوا هذه الأخبار عن الآخرة، قالوا: أهذا كلام نرجع بعد أن كنا ترابا وعظما، ضاعت أبداننا في الأرض؟ هذا كلام غير صحيح؟! هذا الكلام ليس من عند الله إنما محمد يفتريه -عليه الصلاة والسلام-.

 

إذاً، اتهموا خبر البعث، واتهموا القرآن الذي جاء بهذا الخبر، والله -تعالى- يقول: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) [الطارق: 11 - 12]، (وَالسَّمَاء) أي أقسم بالسماء التي يرجع لها ماؤها مرة أخرى، يصعد الله إليها السحاب ويسوقه ويزجيه ويكونه سحابا متراكما، ثم ينزله بقدر، وبقدرة عجيبة وحكمة على أرض معينة إلى بلد ميت فيحيي به الأرض بعد موتها فتنبت بإذن الله وتهتز وتربو وتزيد بما ينبت فيها من النبات.

 

فماء السماء الذي يصعد إليها من الأرض ينزل إليها مرة أخرى ويرجع، دورة، وهكذا يشير الله إلى القضية.

 

أيها الإنسان: لا تصدق أن الله يردك مرة أخرى، فمن ذا الذي يرد ماء السماء إلى الأرض مرة أخرى؟ دورة تراها أمام عينك، بخار متصاعد من البحار ونحوها، ومطر نازل من السماء إلى الأرض ويحيي الله الأرض بعد موتها، فلماذا تكذب وآية القدرة أمامك؟!

 

(وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) [الطارق: 11 - 12]، حين تتصدع الأرض، وتنشق عن النبات، فترى حجرا أو طينة كبيرة تسمى: "طوبة" هي في حجم الحجر وربما في صغرها، أو أكبر، وإن كانت لينة بعض الشيء لكن فيها قسوة، فيها ثقل، تراها ترتفع إلى أعلى وتنظر تحتها، من ذا الذي رفعها، فإذا نبتة ضعيفة لو أصابها أصبعك خطئا لانكسرت؟ أهذه النبتة الصغيرة هي الذي رفعت هذه الطوبة الكبيرة؟! لا والله، العقل لا يصدق هذا، ولكن كل ذلك وغيره بقدرة الله وفضله وكرمه.

 

(وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) [الطارق: 11 - 12]، تنشق عن النبات بقدرة الله: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس: 24 - 26]، (شَقَقْنَا) الله هو الذي يشقها شقا، أي شقا محتما دقيقا فتنشق الأرض يوم القيامة أيضا.

 

(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ) القرآن بما فيه: (لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق: 13 - 14]، أثبت صفة الكمال له، أو صفة المدح، وأنه قول فصل، ونفى عنه ضدها: (وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) ليس حكاية، ليس تسلية، القرآن هذا ليس كلاما يدرس في المدارس أو لا يدرس، وإن درس لا يضاف إلى المجموع، إنما يحفظها الأزهريون فقط ويتثاقل الناس منه، ولا يدرسه غيرهم! لا، القرآن للأمة، القرآن لكل مسلم، القرآن لكل متعلم، والبيت الذي خلى من القرآن، والقلب الذي خلى من القرآن، كالبيت الخرب، يسكنه الحشرات والغربان والوحوش والآفات والشيطان.

 

(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق: 13 - 14]، (إِنَّهُمْ) الناس الظالمون الكافرون: (يَكِيدُونَ كَيْدًا* وَأَكِيدُ) سبحانه وتعالى (كَيْدًا)، الله لا يكيد لأحد ولكن سمى فعله كيدا لمقابلته بكيد الكافرين، والكيد عادة يكون سرا، أكيد لك بيني وبين نفسي، ولا يعلمه أحد من الناس، وتكيد لي أيضا في نفسك، فكما أن الله -تعالى- يدبر أمرا لا يعلمه الخلق فسماه: كيدا، قال: (وَأَكِيدُ كَيْدًا)، فلا تقل عن الله: أنه كائد أو كياد، لا يجوز هي صفة نقص، صفة ذم، إنما أخبر الله عنه فعله وسماه بهذا.

 

(وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق: 16- 17]، اتركهم سنأخذهم واحدة واحدة، درجة درجة: (سَنَسْتَدْرِجُهُم) من أين يا رب؟ (مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 182] حصلت أم لم تحصل؟! ربى فرعون -عليه اللعنة- موسى -عليه السلام-، ربى الظالمون أربابا على المادة التي أرادوها، وعلى المعرفة التي طلبوها شهوات ونزوات كما تخيلوها، ولكن انقلبت عليهم وهم الذين خرجوا لهم ولو في البداية على الأقل.

 

(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) [الطارق: 17]، والله يمهل الظالم ثم يمهله ولا يهمله، ويمهله حتى إذا أخذه لم يفلته، لا يرجع أبدا لا يقوم منها: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102]، حين يسلك المظلوم طريق الظالم، فيحتكم إلى غير الناصر الذي نصره، ولا ناصر له غيره في الدنيا والآخرة، فإنه يسلك طريق الهاوية، وينتهي إلى العقاب الذي عاقب الله به الظالمين، ولا عزيز على الله، ولا عظيم على الله أن يذهب الخلق جميعا: (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [فاطر: 16].

 

هذه "سورة الطارق" تحدث الكفار في مكة ولا يزال حديثها موصولا كأنها نزلت الآن في يومنا لتعقب على ما حصل بيننا من أحداث وتوجه النصائح ولتحيي الضمائر، انتبهوا من الذي أنقذكم؟ من الذي رفع عنكم؟ من الذي كشف الأستار المخبئة التي ما كنتم تعرفونها وما كنتم لتصلوا إليها أبدا مهما فعلتم بهذا الشكل العظيم؟ إنها يد الله وقدرته، إنها تحرك هذه الأحداث وإن كنا نقف لها، ولكن الفاعل الحقيقي هو من ينعم علينا بهذا الخير العظيم إن أطعنا الله فيه: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41]، هذه هي الحياة الإسلامية لم يذكر الله فيها حدودا ولا حربا، مكنكم الله: أقيموا الصلاة، آتوا الزكاة، اعطوا حق الله بالصلاة، ونحوها، واعطوا حق الخلق كالزكاة، ونحوها، ومروا بالمعروف، وتناصحوا فيما بينكم، وانهوا عن المنكر فيما بينكم، من رأى غيره يخطئ فليقل له: يا أخي نحن في وطن طيب، ومقدمون على أيام طيبة، نتمنى لبلادنا أن تعلوا، وللمجتمع الإسلامي كله أن يرقى بأخلاقه وفضائله، وهذا العمل لا يصلح منك، بأسلوب حسن، وطريقة لطيفة، علم أخاك وأشعره بالأخوة، علمه أن لا يفعل خطئا، انصحوا البائعين أن لا يتخذوا الشارع معرضا، انصحوا من يركب السيارات أن لا يغلق الطريق على المارين والسالكين، كلا يراعي الآخر، لا بد أن ننظر للمصالح العامة بغض النظر عن المصلحة الشخصية، قال صلى الله عليه وسلمَ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، هذا هو الرقي العالي الذي لا يصل إليه أي نظام آخر، أن أقدم مصلحتك على مصلحتي ليصح إيماني، أخدمك قبل أن أخدم نفسي، ليس حضارة، ليس لأني إنسان شرقي، ليس لأجل الآداب العامة والشكليات، لا، إنما هي عبادة أتقرب بها إلى الله، أن أفضلك على نفسي، أن أقدمك على نفسي، أن أرعى المصلحة العامة للناس قبل مصلحتي، ومن فعل ذلك كان الله في عونه، وكان الله في قضاء حاجاته، ييسر أمره، وتقضى حاجته، وتكون حياته كريمة، ويكرم بين الناس، وترفع درجته عند الله –عز وجل-؛ لأنه أطاع الله في خلقه.

 

هذا سياق السورة والتعليق عليه.

 

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا بما ينفعنا، ونعوذ به -سبحانه- من علم لا ينفع.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه دائما إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

أما بعد:

 

فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله، ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عصيانه -تعالى-، ومخالفة أمره، فهو القائل سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته، وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة -عباد الله-: إن هذه السورة وأمثالها من سور القرآن الكريم، ولا سيما من السور المكية لتعقد العلاقة الصحيحة بين الإنسان وبين الرب الأعلى، ولا تعجبون إذاً حينما تجدون أن السورة التالية هي سورة الأعلى التي يأمر الله بأولها بقوله: (سَبِّحِ)، والتسبيح هو التعظيم، مطلق التعظيم، سبح من؟ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى: 1]، فينا أرباب كثيرون، أبي هو رب البيت، ورب الأسرة، وأهل المقامات في السياسة والسلطان هم أربابي أيضا مسؤولون عني، وأنا مطالب بطاعتهم، رئيس الحي، والمحافظ، والوزير، والرئيس، هؤلاء جميعا مسؤولون هكذا في العرف، وكذلك الشرع مسؤولون عني وعنك، يسأل الله القائد والراعي عن رعيته، ولا يسأل الرعية عن راعيه إلا سؤالا واحدا فقط: هل أطعتموه في طاعة الله أم عصيتموه في طاعة الله؟ ماذا فعلتم معه؟ فقط.

 

لكن يسأل الله -تعالى- المسؤول عن كل شيء، عن الحيوانات الموجودة تحت ولايته أو في ولايته، قال عمر العدل -رَضي الله عنه وأرضاه-: "لئن عثرت بغلة في العراق"، وهو قائم على الخلافة في المدينة المنورة، وكان آخرها العراق يومها: "لئن عثرت بغلة في العراق لسألني الله عليها يوم القيامة لما لم تسو لها الطريق يا عمر".

 

تخيلوا هؤلاء جميعا مسؤولون جميعا عن مطب صناعي أو طبيعي في الطريق العام، في طرق الدواب، البهائم، فما بالك بطريق الناس؟! مسؤولية عظيمة، فلا بد لهذا المسؤول أن يكون عالما بحكم الله، وأن يحكم بحكم الله؛ لأن الله سائله عماذا حكم، وبماذا حكم، وماذا فعل بما نسب إليه من حكم؟ ربما يظلم في الدنيا ويفر خلاف الذين ضبطوا وأخذوا، خلص الله حقوقنا منهم، لكن هناك في التاريخ من ظلم وأفلت من القانون والعقوبة بشكل أو آخر، هل هذا يفلت بعد إفلاته من العقوبة في الدنيا يفلت من حساب الله يوم القيامة؟! لا والله ورب السماء والأرض لن يفلت أبداً، لا بد أن يسأل، ولا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عمره ماذا عمل فيه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، بلغ أم لا، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، لا بد أن يسأل.

 

فيا أيها المسؤول: يا من تريد أن تتولى منصبا، وتتحمل مسؤولية: اعلم أنها مسؤولية، وخذها من هذا الباب إن صنت قدرها فخذها وتحملها، وإلا فانج بنفسك فالأمر خطير، يوم لا تكون عليكم مسؤولية إلا أهل بيتك، تسأل سؤالين ثلاثة أربعة بسرعة وتدخل الجنة إن شاء الله، لكن تسأل عن محافظة، تسأل عن دولة فيها ملايين! كيف بك تحيط بحاجاتهم وتستطيع الاستجابة لأوامرهم ومطالبهم، تحقق كل أغراضهم، إذا أرضيت هذا لم يرض هذا، وهل هذا لم يرض عن حق أو عن باطل؟ هل هو محق وله حق فعلا؟ أو أنه باطل ومدعي؟!

المسؤولية خطيرة، ولذلك أقول: المسؤول إذا كان مسلما يعرف دينه، يعرف حق الله عليه، وحق الناس عليه، سيقيم الحق، سيقيم العدل، وكيف يقيم حقا وعدلا بقانون أنتجه بشر؟ بقانون يعتريه الجور والظلم، رغما عنه؛ لأنه من إنتاج عقل خاص، لا بد أن يكون فيه ثغرات وأهل المحاماة يعرفون هذا وأهل القضاء، القانون الوضعي مليء بالثغرات، لماذا؟ لأنه ينظر في اتجاه واحد، ويشرع لمن في هذا الاتجاه ويغفل عن الاتجاهات الأخرى، أما حكم الله فإذا حكم لي لا يظلمك إنما يحكم لي مراعيا كل من حولي، فتأخذ حقك دون أن تضر بالآخرين، ميزة عظيمة في فضل الله -سبحانه وتعالى-.

 

ألا فتوبوا إلى الله، ألا فارجعوا إلى الله، ألا فارضوا بحكم الله، رضيتم أم أبيتم سوف يحكم الله دينه في يوم ما، كل شيء بقدر: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف: 8]، في آية أخرى: (وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة: 32]، ماذا تفعل مع قدرة الله يوم أن تواجهه، يوم أن تطيرك في الهواء كورقة خفيفة لا وزن لها، ماذا تفعل؟ ويأبى الله، ماذا يفعل الإنسان حين يأبى الله في وجهه، ويأبى الله قانونه، ويأبى الله تدخله، والله لن نستطيع شيئا.

 

إذاً، فلنسلم، من أعظم شيء له حق علينا الله أم الخلق؟! من أكثر شيء إنعاما علينا الله أم الخلق؟! من هذا المنطلق انظروا من يرعى مصلحتكم، من يرعى أحوالكم، من يريد لكم الخير، من لا يظلم أبدا: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء: 40]، (إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس: 44].

 

اللهم يا ربنا كما أنعمت علينا بهذه الحرية فأنعم علينا بتمكين ديننا.

 

اللهم ارفع راية الدين...

المرفقات

مقاصد سورة الطارق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات