مع دمشق في محنتها

رشيد بن إبراهيم بو عافية

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ الحكمة من ابتلاء المؤمنين 2/ بقاء الشام صامدةً مدّ التاريخ 3/ عاقبة الصبر النصر القادم لا محالة

اقتباس

نعم؛ قد تطولُ السّنونُ والأعوام، تجري فيها الأنهارُ تحتَ قصورِ الظالمين، وتجتمعُ في أيديهم أسبابُ الدَّعَةِ والثروةِ والقُوّة،حتَّى يظُنَّ الظالمُ أنَّهَا حياةٌ ولا موت، ويظُنَّ المظلومُ أنَّهُ ظلامٌ ولا نور، ثم يأذنُ اللهُ لفجرِ الانتصارِ أن يبدّدَ ظُلمةَ ليلِ المظلوم، فإذا بالعِزّ ينقلبُ إلى ذُل، وإذا بالأمن يتحوّلُ إلى خوف، وإذا بالقوة تنكسِرُ إلى ضَعف، وإذا بالأُبَّهَةِ والكرامة...

 

 

 

 

ثم أما بعد: أيها الإخوةُ في الله: الابتلاءاتُ -على مرارتها وقساوتها- تعلِّمُ الناسَ الكثير، تنزِعُ من المؤمنين القليل، وتُعطيهم الكثيرَ الكثير، تكشفُ للناسِ الحقائق وتفضحُ الأباطيل؛ ولكن، لمن كانت لهم قلوبٌ يعقلون بها، أو آذانٌ يسمعون بها، أو أعيُنٌ يبصرون بها.

 

 وإنَ من أعظمِ الابتلاءات التي تحارُ فيها العقول، وتضطربُ لها النفوسُ والقلوب، ما ينتُجُ عن صراع الحق مع الباطل في الأرض، يصطدمُ الحقُّ المستضعفُ بالباطل المنتفش، ويشُدُّ اللهُ على أهل الحقّ شَدَّة، فتُزهقُ أرواحٌ، وتكونُ دموعٌ وآلام وجِراح، يَحَارُ فيها عقلُ الحليم، وتضطربُ لها الأفئدةُ والنفوس.

 

ولو عَلِمَ العبدُ حكمةَ الله في ذلك لهدأ البالُ واستراح.

 

من هذه الحِكَم - معشر المؤمنين-: اصطفاءُ الله تعالى للشهداء، وهو اصطفاءٌ لا بدَّ فيه من ضرب السيوف، ومُصابَرة الحُتُوف، وتطايُر الأعضاء والأُنُوف؛ لا بُد فيه من الصرخات والجراح والدموع، وهل تظُنُّون طريقَ الشهادة سهلاً ميسورَا؟! أبدًا! ليسَ ذلك كذلك، فالسلعة غالية، والثَّمنُ عزيز.

 

هذا الاصطفاءُ -معشر المؤمنين-رحمةٌ من رحمات الله تعالى، لا يكونُ إلا كما سمعتم ورأيتم.

 

خبيب -رضي الله عنه- عذبوه وبَضعوا لحمَهُ ثم صلبوهُ حتى الموت؛ فهل تراهُ هينًا على الله؟ وهل تراهُم أنقصوا من قدره؟!.

 

سُمية -رضي الله عنها- طرحوها على الأرض وهي حامل، وشَدوا رجليها ويديها حتى تمزقت، ثم بقروا بطنها؛ فهل تراها هينةً على الله؟ وهل تراهُم أنقصوا من قدرها؟!.

 

سيّدُ الشُّهداء حمزة -رضي الله عنه-، وهو من هو -رضي الله عنه-؛ بُقرَ بطنُهُ يوم أُحُد، وجُدِع أنفهُ، ومُثّلَ بجسده واحتملَ وحشيٌّ كبدَهُ إلى هند، فهل تراهُ هينًا على الله؟ وهل تراهُم أنقصوا من قدر حمزة ومنزلته؟ كلاَّ وحاشَا!.

 

هذا طريقُ الجنان، لا بدَّ فيه من الثمن! قال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: "رأيتُ الملائكةَ تغسّلُ حمزةَ بن عبد المطلب" صححه الألباني في صحيح الجامع. فهل فوق هذا الشرف من شرف؟!.

 

 لا تنظر إلى الأشلاءِ والجراح؛ ولكن انظر إلى شرف الشهداء عند الله: قال -صلى الله عليه وسلم-: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة؛ تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا: من يبلّغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله (ولا تحسبنّ الذين قُتِلُوا في سبيل الله أمواتاً بلْ أحياء عند رَبِّهِمْ يُرْزَقونَ)". رواه أبو داود وهو حديث حسن.

 

كم دفعت بلاد الشام في هذه المحنة؟ وهل ستنتهي دمشق من الوجود؟ هيهاتَ هيهات! فهي عصيةٌ أبية! إنها لم تدفع القتلى ولا الأشلاءَ ولا الأبناء؛ بل دفعت عشرات الألوف في عهد الروم والتتار والإفرنج، ولم تنته من الوجود، ودفعت الألوف في عهدِ هذا الفرعون وأبيه ولن تنتهي من الوجود، هم في نظرِ الناس أشلاء ودماء، ولكنهم عند الله شهداء، بين عريسٍ وعَرُوسٍ في الجنَّة.

 

في صحيح الجامع عن المقدام -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج اثنين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين إنسانا من أهل بيته".  

 

فهل في هذا ما يدعُو للأسى والحُزن؟! بل هو شيءٌ يدعُو للافتخار! وما يلقّاها إلا الصابرون!.  

 

... تدفقت شلالات من الدّمَاء الزَّكيَّةِ المِسْكِيَّة ... قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "مَن جُرِح جرحًا في سبيل الله أو نُكِب نكبةً فإنها تجئ يوم القيامة كأغزَرَ ما كانت، لونها الزعفران، وريحها كالمسك" رواه الترمذي وهو صحيح.

 

فهل في هذا ما يدعُو للأسى والحُزن؟! إنه شيءٌ يدعُو للمنافسة والافتخار: وما يلقّاها إلا الصابرون!.

 

نسأل اللهَ التوفيق إلى ما يحب ويرضَى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيمَ لي ولكم من كل ذنب؛ إنه غفور رحيم.                               

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوةُ في الله: اعلموا أنَّ اللهَ تعالى عزيزٌ لا يُرَام، وجبَّارٌ لا يُضَام، وقيُّومٌ لا يَنَام، بيدِهِ معاقِدُ العِز، ومفاتيحُ الملك، يؤتي الملكَ من يشاء، وينزعُ الملكَ ممن يشاء، ويعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

 

سُنَّتُهُ -سبحانهُ- في نصرِ المظلومين ماضِيةٌ لا تتبدّل، وسُنّتَهُ في محقِ الظّالمينِ ثابتةٌ لا تتحوّل، وإنَّما لكلّ أجلٍ كتاب!.

 

يمتحنُ اللهُ تعالى في هذا الأجلِ خُلُقَ "الصبرِ" في الأَمَةِ والعبد، حتَّى يتيقَّنَ العبادُ أنَّ الصبرَ هو القاعدةُ العظمى التي ينبني عليها كل فَرَج؛ قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد:31]، وقال سبحانه: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146].

 

وحتَى يستيقنَ العبادُ أن زمانَ النصرِ والفَرَجِ متروكٌ إلى الله العليم الحكيم، ليس إلى نفس الإنسانِ الهلُوعِ الجَزُوع، فالله -عز وجل- لا يعجلُ بعَجَلةِ الناس، وكلُّ شيءٍ عنده بمقدَار، والآجالُ عنده مضروبة، لا تتقدم ولا تتأخّر.

 

نعم؛ قد تطولُ السّنونُ والأعوام، تجري فيها الأنهارُ تحتَ قصورِ الظالمين، وتجتمعُ في أيديهم أسبابُ الدَّعَةِ والثروةِ والقُوّة،حتَّى يظُنَّ الظالمُ أنَّهَا حياةٌ ولا موت، ويظُنَّ المظلومُ أنَّهُ ظلامٌ ولا نور، ثم يأذنُ اللهُ لفجرِ الانتصارِ أن يبدّدَ ظُلمةَ ليلِ المظلوم، فإذا بالعِزّ ينقلبُ إلى ذُل، وإذا بالأمن يتحوّلُ إلى خوف، وإذا بالقوة تنكسِرُ إلى ضَعف، وإذا بالأُبَّهَةِ والكرامة تستحيلُ إلى ذُلٍّ ومَهانَة.

 

وقد رأيتُم ذلك؛ ففيمَ العجب؟! قال الله تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الحجر:84]، وقال سبحانه: (مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء:207]. سُنَّةَ اللهِ في الذينَ خَلَوا من قَبلُ ولن تجدَ لسنَّةِ الله تبديلاَ!.

 

نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.

 

اللهم إنا نسألك بأنّك أنت الله الذي لا إله إلا هو، الخالق المالك المتصرف، الأمر أمرك، ولا يُهزَم جندُك، ولا إله غيرك.

 

اللهم هذا شهرُ رمضان قادم، فاجعلهُ بردًا وسلامًا على المستضعفين في الشام.

 

اللهم كن لهم عونًا ونصيرَا، اللهم أجِب نِداءَهم، واستجب دُعاءَهم، اللهم اكتُب لهم نَصْرَك، وأسْعِفهم بجُندِك، وتوَلَّهم بقدرتك، اللهم اشف مرضاهم، واقبل شهداءَهم، وعاف مبتلاهُم؛ ارحم صغيرهم، وارأف بكبيرهم، آمن روعاهم، واستر عوراتهم، وصُن أعراضَهم ونساءَهم يا ربَّ العالمين .

 

اللهم إنَّكَ ترى مكانَهم، وتُبصرُ حالَهم، فَفَرِّجْ كُربَتَهُم يا ربَّ المساكين، ويا غياثَ المستغيثين، يا رب العالمين. 

 

اللهم مُنزلَ الكتاب، ومُجري السَّحاب، هازمَ الأحزابْ، أنزل بأسك بالظالمين في بلاد الشام؛ اللهم إنهم أسجَدُوا لهم العباد، وصَبوا على المستضعفين سوطَ عذاب، اللهم صُبَ عليهم من عندك سوط عذاب، وخذهم نَكَالَ الآخرة والأولى، أخذا أليمًا تشفي به صُدورَ قوم مؤمنين، يا جبار السموات والأرض، يا قويُّ يا عزيز، عزَّ جاهُك، وتقدَّست أسماؤُك، يا رب!.

 

وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

 

 

 

 

المرفقات

دمشق في محنتها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات