مع المصطفى صلى الله عليه وسلم (5 - 5)

رشيد بن إبراهيم بو عافية

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/أهمية إجلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره 2/مظاهر إجلال الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتوقيرهم له 3/بعض حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته 4/قصة رائعة في تعزير الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم - وتوقيرهم له

اقتباس

نلتقي اليوم -معشر المؤمنين-: مع حقّ عظيم من حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، هو في دين الله –تعالى- واجبٌ من واجبات الإيمان أصيل، وفي حياة الفُضلاء خُلُقٌ جليلٌ، يحملُ عليه مطالعةُ الفضل والإحسان، فيُثمرُ الشُّكرَ والتقديرَ والتبجيل؛ للمُحسن المُتفَضّل؛ إنه وجوبُ تعظيمه وإجلاله وتوقيره -صلى الله عليه وسلم-في حياته وبعد وفاته. نعم –أيها الأخُ المسلم-: من ثمرات معرفتكَ وإيمانك بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-: إجلالهُ وتوقيرُهُ أعظمَ من...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ربّ العالمين، حمدا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله سبحانه، سبّحت له السمواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكُها، والأرضُ وسُكّانُها، والبحارُ وحيتانُها، والنجومُ والجبال، والشجرُ والدّوابّ، والآكامُ والرّمال، وكلّ رطبٍ ويابس: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء:44].

 

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خيرتهُ من خلقه، وأمينُهُ على وحيه، ذو الأخلاق الطاهرة، والبراهين الباهرة، المبعوث بالدّين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأجلاها، وافترض على العباد طاعته وتعزيره، ومحبّته وتوقيرَه، وسدّ دونَ جنّتِه الطرق، فلن تفتح لأحدٍ إلاّ من طريقِه، صلى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين وسلّم.

 

ثم أما بعد:

 

نلتقي اليوم -معشر المؤمنين-: مع حقّ عظيم من حقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، هو في دين الله –تعالى- واجبٌ من واجبات الإيمان أصيل، وفي حياة الفُضلاء خُلُقٌ جليلٌ، يحملُ عليه مطالعةُ الفضل والإحسان، فيُثمرُ الشُّكرَ والتقديرَ والتبجيل؛ للمُحسن المُتفَضّل؛ إنه وجوبُ تعظيمه وإجلاله وتوقيره -صلى الله عليه وسلم-في حياته وبعد وفاته.

 

نعم –أيها الأخُ المسلم-: من ثمرات معرفتكَ وإيمانك بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم-: إجلالهُ وتوقيرُهُ أعظمَ من إجلال الوالدين، والامتناعُ معهُ صلى الله عليه وسلم عن أي صورة من صوَر الإساءة والجفاء، وسوء الأدب؛ هذا حقُّهُ عليكَ يوجبهُ الإيمان، قال الله –تعالى-: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً )[الفتح : 8 – 9].

 

وقال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون) [ الأعراف: 157].

 

وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُون) [الحجرات:2].

 

أيها الإخوةُ في الله: لقد تربَّى الصحابةُ -رضي الله عنهم- على هذا الحق العظيم، فأثمرَ لهم ذلكَ تكريمًا وتبجيلاً للنبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لا يدانيه تقديمُ أيِّ مخلوق آخر؛ فمن ذلك:

 

أنهم كانوا يتحرَّجونَ التقديمَ بين يديه باقتراح أو رأي؛ تأدُّبًا مع من ينزلُ الوحيُ عليه، وتطبيقًا لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم).

 

انظُر إليهم كيفَ يتركونَ بين يديه قول ما يعرفون هيبةً وإجلالاً فضلاً عمَّا لا يعرفُون، ولا تراهم يقولون إلاَّ "اللهُ ورسولُهُ أعلم"؛ في حديث أبي بكرة الثقفي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل في حجة الوداع: "أي شهر هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذو الحجة؟" قلنا: بلى، قال: "فأي بلد هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير أسمه، قال: "أليس البلدة؟" قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟" قلنا: بلى ..." الحديث[أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب حجة الوداع واللفظ له. انظر: فتح الباري (8/ 108) ح 4406].

 

فهذه صورة من الأدب والتحرج والتقوى التي انتهى إليها الصحابة -رضي الله عنهم- بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه إلى التقوى تقوى الله السميع العليم.

 

وانظُر حالنا -معشر المؤمنين-: تجدِ الواحدَ منَّا لا يتحرَّجُ أن يقول في دين الله ما لا يعلم، وأن يقابلَ سُنَّةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- صراحةً بالرأي والهوى، والعصبية والشهوة، ولا يتحرَّجُ من ذلك، والسببُ أنَّهُ لم يتربَّى بعدُ على وُجوب توقير النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-وتعظيمه وإجلاله!.

 

وممَّا يندرجُ في هذا الحق العظيم: التأدب معه في الحديث، وخفضُ الصوت بين يديه، وفي مجلسه؛ وقد مدحَ اللهُ –تعالى- من يفعلُ ذلك ووصفه بالتقوى، فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم)[الحجرات:4].

 

فلم يكن من عادتهم -رضي الله عنهم- مناداتُهُ باسمه، ولا التجادُلُ في مجلسه، ولا إعلاءُ الأصوات عنده بالنقاش والجدال والحوار، بل يعطون مجلسه حقه من التشريف والاحترام، كأنَّ على رؤوسهم الطير؛ لأنه مجلسٌ تُسمعُ فيه الآيات، ويتنزَّلُ فيه الوحي، ويتعلمُ الناسُ فيه الحكمة؛ عن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال: "كنا إذا قعدنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم نرفع رؤوسنا إليه إعظاما له"[أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى، باب توقير العالم والعلم (ص 381) ح 658].

 

ومن توقيره وإجلاله صلى الله عليه وسلم: أنهم كانوا يقرعونَ بابهُ بالأظافير حرصًا على حسن الأدب معه، وخوفًا من تأذّيه وانزعاجه؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "إن أبواب النبي -صلى الله عليه وسلم-كانت تقرع بالأظافير"[رواه البزار كما في كشف الأستار (2/ 421). والبيهقي في شعب الإيمان، باب شعبة تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم-(1/ 338) خ 134].

 

وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- قال: "كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ليقرعون بابه بالأظافير"[أخرب الحاكم في معرفة علوم الحديث النوع الخامس (ص 19). وأخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى (ص 381)].

 

فانظُر -باركَ اللهُ فيكَ-: إلى أخلاق الجيل الذي تربَّى على القرآن كيفَ فهمَ الإيمان وطبّقه؟ وكيفَ كانَ حريصًا على توقير النبي -صلى الله عليه وسلم-وإجلاله حق الإجلال؟!

 

في صحيح مسلم: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "لقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والحلاّقُ يحلِقُهُ وأطاف به أصحابُهُ فما يريدون أن تقعَ شعرةٌ إلا في يد رَجُل!" [أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب قرب النبي عليه السلام من الناس وتبركهم به (7/ 79)].

 

أينَ هذه الأخلاقُ العالية والهيبةُ والإجلالُ من أولئكَ الذين لا يتحرَّجون من الاستهزاء بسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم- وشرعه، إضحاكًا للعامة، وصرفًا لوجوه الدَّهماء؟!

 

هل تراهُم تربَّوا على حقيقة الإيمان؟!

 

وهل تراهم أهلاً لصحبة النبي -صلى الله عليه وسلم-لو عاصروه؟! أو مجاورته في الجنَّة لو دخلوها؟!

 

نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوةُ في الله: تأمَّلوا كيفَ كان الواحدُ منهم يقدّمُ حقَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في التعزير والتوقير على حق أبيه وأخيه وعشيرته التي تؤويه؛ لما قال رأس المنافقين عبد الله بن أبي بنُ سَلُول: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا لي عبدَ الله بنَ أبي" فدعاه، فقال: "ألا ترى ما يقول أبوك؟" قال: وما يقول بأبي أنت وأمي؟ قال: "يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فقال: فقد صدق والله يا رسول الله!؛ أنت والله الأعزُّ وهو الأذل! أما والله قد قدمتَ المدينة يا رسول الله، وإن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبرُّ مني، ولئن كان يرضي اللهَ ورسولًهُ أن آتيهما برأسه لأَتِيَنَّهُمَا به، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا".

 

لا تنتهي القصة عند هذا الحد، فما زال في قلب الصحابي الجليل إرادةُ إكرام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإجلاله والأخذ له ممَّن أساءَ إليه كائنًا من كان، ورأى رضي الله عنه أن لا يدخُلَ أبوهُ المدينة قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-أبدًا حتى لا يتحقَّقَ لهُ مجرَّدُ ظاهرُ القول!.

 

يقول الراوي: فلما قدموا المدينة قام عبد الله على بابها بالسيف لأبيه، ثم قال: أنت القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؟! أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-! والله لا يأويك ظله، ولا تأويه أبدا إلا بإذن من الله ورسوله.

 

فقال أبوهُ: يا للخزرج ابني يمنعني بيتي! يا للخزرج ابني يمنعني بيتي!.

 

فقال: والله لا تأويه أبدا إلا بإذن منه.

 

فاجتمع إليه رجال فكلموه، فقال: والله لا يدخله إلا بإذن من الله ورسوله.

 

فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فقال: "اذهبوا إليه، فقولوا له خله ومسكنه" "فأتوه، فقال: أما إذا جاء أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-فنعم"[أخرجه الطبري في تفسيره (28/ 114، 115) تفسير سورة المنافقون الآية (8)].

 

وفي رواية عند الترمذي: "فقال له ابنه عبد الله: والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ورسول الله  -صلى الله عليه وسلم- العزيز، ففعل" [سنن الترمذي (5/ 418) ح 3315 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المنافقين. وأورده ابن كثير في تفسيره (4/372) وعزاه للحميدي في مسنده وأورده ابن حجر في فتح الباري (8/ 652)].

 

أيها الإخوةُ في الله: هذه إشاراتٌ تنبّهُ على قيمة الموضوع، وقد تعرَّفنا مدى توقير السابقين للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإجلاله في نفوسهم، وكيف أنهم يعتبرون ذلك من التقوى والإيمان الواجب، وبقي علينا أن نُجيبَ أنفسنا حول موقفنا من هذا التبجيل والتوقير؛ هل نتصرفُ مع سنته صلى الله عليه وسلم وشرعه كما كانوا يتصرفون؟ وهل نحسُّ بأنَّ ذلك مرتبطٌ بالإيمان الواجب الحي؟!

 

نكتفي بهذا القدر من الحلقات، فهي تنبّهُ على قيمة الموضوع.

 

ونسأل الله التوفيق إلى حسن العلم، وحسن العمل.

 

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

 

 

 

المرفقات

المصطفى صلى الله عليه وسلم (5-5)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات