مع المصطفى صلى الله عليه وسلم (4 - 5)

رشيد بن إبراهيم بو عافية

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ محبَّةَ النبيّ من أعظم النعم على القلوب المسلمة 2/ تفاوت الناس في تحقيق المحبة النبوية 3/ من علامات حب النبي -صلى الله عليه وسلم-

اقتباس

من رزقهُ اللهُ- تعالى - حبَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ووَجدَ ذلكَ في قلبه، وتعاهدَهُ وربَّاه، حتَّى صارَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه من نفسه ووَلده ووالده والنَّاس أجمعين، من رزقهُ اللهُ ذلكَ فقد ذاقَ طعمَ الدّين، ووجدَ حلاوةَ الإيمان، وسهُلَ عليه طريقُ السَّفَر، وخَفَّت عليه مُكابدةُ الأحمال، ومجاهدةُ النفس في سبيل لقاء الحبيب، ومن لم يُحسَّ في نفسه بهذا التعلُّق، ولم يجدْ في حياته طعمَ هذا الذي نتحدَّثُ عنهُ، صعُبَ عليه طريقُ السَّفر ورُبَّما انقطع...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ربّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله سبحانه، سبّحت له السماواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكُها، والأرضُ وسُكّانُها، والبحارُ وحيتانُها، والنجومُ والجبال، والشجرُ والدّوابّ، والآكامُ والرّمال، وكلّ رطبٍ ويابس، (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء: 44].

 

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خيرتهُ من خلقه، وأمينُهُ على وحيه، ذو الأخلاق الطاهرة، والبراهين الباهرة، المبعوث بالدّين القويم، والمنهج المستقيم، أرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأجلاها، وافترض على العباد طاعته وتعزيره، ومحبّته وتوقيرَه، وسدّ دونَ جنّتِه الطرق، فلن تفتح لأحدٍ إلاّ من طريقِه، صلى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين.

 

ثم أما بعد:

 

رأينا -معشر المؤمنين- في الجُمعات الماضية جملةً من شمائله -صلى الله عليه وسلم- وصفاتِه، ولمسنا بعضَ ما ميَّزَهُ اللهُ به من جمال الخَلق وكمال الخُلُق، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- بهيَّ الطلعة أحسنَ من القَمر، وكان مع ذلكَ أحسنَ النَّاس خُلُقًا، وأشدَّهم صبرًا وتواضُعًا، وأجودَهم وأسخاهم في العسر واليسر، مع ما حباهُ اللهُ به من القلب الرحيم، والصدر الواسع، والرأفة بالمؤمنين، ومرَّ بنا كيفَ أنَّهُ -صلى الله عليه وسلم- اشتاقَ لإخوانه الذينَ آمنوا به ولم يرَوهُ من المؤمنين المُوَحّدين، فلقد عاشَ -صلى الله عليه وسلم- مُحبًّا لأصحابه، مشتاقًا لإخوانه، ويلقى الجميعَ عند الحوض يسقيهم، وعند الموقف يشفعُ فيهم.

 

إنَّ جميعَ هذه المعرفةِ -معشرَ المؤمنين- لا بُدَّ وأن تُثمرَ في القلب ميلاً وتعلُّقًا بهذا الرَّجُل العظيم والنبيّ الكريم -صلى الله عليه وسلم-؛ إذِ المعرفةُ الخاصّة توجدُ الحبَّ في القلوب الحيَّة وبقدر المعرفة يكونُ التعلُّقُ والأنسُ والقُرب.

 

حديثنا اليوم -معشر المؤمنين-: يدورُ حولَ هذا الأصل العظيم "المحبّة"، الذي هو كالجذر في القلب، تتفرَّعُ منهُ شجرةُ الحُقوق والواجبات المتعلقة بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن هذا الأصل العظيم تظهرُ وتنمو بقيَّةُ الحقوق الأخرى في حياة المسلم.

 

إنَّ محبَّةَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من أعظم نعم الله على القلوب المسلمة، فهي تصنعُ جميعَ ذلك في القلب والحياة، وهي مع حب الله -جلّ وعلا- من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين.

 

من رزقهُ اللهُ تعالى حبَّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ووَجدَ ذلكَ في قلبه، وتعاهدَهُ وربَّاه، حتَّى صارَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أحبَّ إليه من نفسه ووَلده ووالده والنَّاس أجمعين، من رزقهُ اللهُ ذلكَ فقد ذاقَ طعمَ الدّين، ووجدَ حلاوةَ الإيمان، وسهُلَ عليه طريقُ السَّفَر، وخَفَّت عليه مُكابدةُ الأحمال، ومجاهدةُ النفس في سبيل لقاء الحبيب، ومن لم يُحسَّ في نفسه بهذا التعلُّق، ولم يجدْ في حياته طعمَ هذا الذي نتحدَّثُ عنهُ، صعُبَ عليه طريقُ السَّفر ورُبَّما انقطع، وثَقُلت عليه الأحمالُ ورُبَّما تخفَّفَ منها في الطريق، واشتدتَّ عليه مجاهدةُ النفس ورُبَّما صالحَ الهوى والشيطانَ فخسرَ عند ذلكَ خُسرانًا مُبينًا.

 

النَّاسُ -معشر المؤمنين- يتفاوتون في تحقيق هذا الأصل العظيم تفاوُتًا عظيمًا؛ فمنهم من كان مَعَهُ أصلُ التصديق في القلب بنبوَّة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومع التصديق محبَّةٌ عامَّةٌ باهتةٌ لا تُشِعُّ ولا تتحرَّك، لا يُحسُّ بها صاحبُها، ولا يجدُ لها طعمًا ولا لذَّة، فضلاً عن كونها لا تُحرِّكُ الكيان، ولا تدفعُ نحوَ الإحسان، فهذه محبَّةٌ ناقصةٌ جدًّا، وهي محبَّةُ كثيرٍ من المسلمين للأسف.

 

قارن هذا النوعَ -أخي في الله- بحبِّ أبي بكر وعمرَ وعُثمانَ وعلي للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- تجدِ الفرقَ كبيرًا، والبَونَ شاسعًا؛ هذا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يُسألُ: كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: "كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ".

 

وهذا عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: "وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه".

 

وهذا رجل من الأنصار يجيءُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: لأنت أحب إليّ من نفسي وولدي وأهلي ومالي يا رسولَ الله، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت، ثم يبكي -رضي الله عنه-. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أبكاك؟!"، قال: ذكرت أنك ستموت ونموت فترفع مع النبيين ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك، فلم يخبره النبي بشيء، فأنزل الله -جل وعلا- على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أبشر".

 

وهذا سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- يقول: مرّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بأحد، فلما نُعوا لها قالت: ما فعل رسول الله؟! قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين. قالت: أرونيه حتى أنظر إليه. قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: "كل مصيبة بعدك جلل". أي هينة يسيرة.

 

فانظر -أخي المسلم- كيف تجدُ فرقًا بين الحُبَّين، وكيفَ تلمسُ الأثرَ في الحبّ القويّ المتحرّك: شوقٌ وتوقير، واتّباعٌ واقتداء، وإيثارٌ وتقديم، وخوفٌ على المحبوب أن تُصيبَهُ الشوكةُ فما فوقها. هذا هو الحبُّ النافعُ الصادق المتحرّك. نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة في الله: على كل مسلم أن يعلم أن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- ليست مجرد دعوى تتحقق بتلفظ اللسان فقط -كما يظن كثير من الناس-، بل لابد لهذه الدعوى من البرهان الذي يثبت صدقها وحقيقتها، وقد جعل الله للمحبَّة براهين ودلائل متى ما ظهرت في العبد دلَّت على صدقه في الحب، وهي بزيادتها تدلُّ على قوَّة الحب ورسوخه في القلب؛ فمن أعظم براهين حب النبي -صلى الله عليه وسلم- اتباعُهُ والأخذُ بسنته وهديه، فاتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء به والسير على نهجه والتمسك بسنته واستعمالُها، والتأدب بآدابه وأخلاقه، هو أول علامات محبته الصادقة -صلى الله عليه وسلم-، والصادق في حبه هو من تظهر عليه هذه العلامة فيكونَ متبعًا له ظاهرًا وباطنًا، ومؤثرًا لموافقته في مراده حيثُ كان ولو كان في ذلك مخالفةُ الناس أجمعين، هذه هي الحقيقة الأولى للمحبة الصادقة.

 

ومن أعظم براهين حب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إيثارُ ما جاء به على هوى النفس وشهواتها؛ وهي علامةٌ تكادُ تكونُ تابعةً للسابقة، فإذا أردت أن تمتحنَ محبَّتك للنبي -صلى الله عليه وسلم- صادقةً أم كاذبة، قويَّةً أم ضعيفة، فانظُر قلبكَ عند ورود أمره -صلى الله عليه وسلم- على خلاف هواكَ وهوى النَّاس وزوجتك وأولادك، وما تهواهُ في مالكَ وتجارتك، هل تُقدّمُ الهوى والشهوةَ وحبَّ الولد والزوجة والمال على أمره -صلى الله عليه وسلم- وسُنَّته، أم تحبُّ نفسُكَ الوقوفَ عندَ حدود السُنَّة وإن خالفت الهوى أو أغضبتَ النَّاس كائنًا من كانُوا!! هذا هو محكُّ المحبَّة وبُرهانُها؛ لأنَّ النفس لا تؤثرُ إلاَّ ما تحبُّ وترجُو، وهذا المقامُ هو المرادُ بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".

 

ومن أعظم براهين حب النبي -صلى الله عليه وسلم- كثرةُ الصلاة عليه وقراءة حديثه وسماع كلامه؛ فإن النفس دائمًا تلهجُ بذكر من تُحب، وتجدُ في ذلك راحتها وأنسَها، وتشعرُ بالسعادة تغمُرُها وهي تمرُّ باسم المحبوب أو تسمعُ عن أخباره أو تقرأُ لهُ كلامًا، وهكذا فالمسلمُ المُحبُّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثرُ من قراءة كلامه، ويسعدُ بالاطّلاع على أخباره وسيرته، وإذا مرَّ به اسمُ النبيّ بادَرَ بالصلاة عليه -صلى الله عليه وسلم-، وتكرَّر ذلك منه عند كلّ يوم وليلة وموسم.

 

ومن علامات محبته -صلى الله عليه وسلم- تمني رؤيتِهِ والشوقُ إلى لقائه؛ وهذا مما يُسهّلُ السفرَ ويطوي المراحل، وهذه العلامة نص عليها قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: "من أشد أمتي لي حُبًّا ناسٌ يكونون بَعْدِي؛ يود أحدُهُم لو رآني بأهله وماله". أي لم يستكثر في تلكَ الرؤية والشوق بَذْلَ أهلِهِ وماله كلّه، وهذا حالُ المؤمن الصادق المُحب، هو في شوق دائم إلى رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- واللقاء معه عند الحوض، ودخول الجنَّة معه، ومجاورته في الفردوس الأعلى، ويقرنُ مع هذا الشوق زادَ السَّفر والعملَ الصادق الذي يؤهّلُ المسافرَ لقطع السفر ولقاء الحبيب.

 

نكتفي اليومَ بهذا القدر، ونسألُ الله العظيمَ التوفيقَ إلى ما يحب ويرضى.

 

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا...

 

 

 

المرفقات

المصطفى صلى الله عليه وسلم (4-5)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات