مع المصطفى صلى الله عليه وسلم (2 - 5)

رشيد بن إبراهيم بو عافية

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/بعض شمائل وصفات النبي - صلى الله عليه وسلم- الخُلُقية 2/بعض صفات النبي - صلى الله عليه وسلم- الخلْقية 3/فوائد التخلق بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم- والتمسك بسنته

اقتباس

أيها الإخوة في الله: هذا صاحبُ الخَلْقِ الحسن، والخُلُق العظيم، يدخُلُ المدينةَ مُهاجرًا من مكَّة، فتظهرُ أَخْلَاقُهُ على وجهه وطلعته، ولم يكن قد رآهُ قبل ذلك سوى القليل، يدخلُ المدينةَ فيُبصرُ عبدُ الله بن سلاَم وَجْهَهُ، ويتأمَّلُ طلعتَهُ، فإذا به النورُ ونضرَةُ النعيم، والصفاءُ الذي يأخذُ بمجامع القلوب من أوَّل نظرة!. وهذه شهادةُ عبدِ الله بنِ سَلاَم، وزنها كبيرٌ جدًّا؛ لأنَّهُ كان يومئذٍ حبرًا من أحبار اليهود، بل سيَّدَهم وابنَ سيّدِهم كما...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ربّ العالمين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله -سبحانه-، سبّحت له السمواتُ وأملاكُها، والنجومُ وأفلاكُها، والأرضُ وسُكّانُها، و البحارُ وحيتانُها، و النجومُ والجبال، والشجرُ والدّوابّ، والآكامُ والرّمال، وكلّ رطبٍ ويابس.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمينُهُ على وحيه، وخيرتهُ من خلقه، المبعوث بالدّين القويم، والمنهج المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحابته الغُرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين وسلّم.

 

ثم أما بعد:

 

عن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: لما قدم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وقِيلَ قَدْ قَدِمَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، قد قدمَ رسول الله، قد قدم رسول الله -ثلاثا-؛ قال: فجئتُ فِي الناس- وكان عبدُ الله بن سلام يومئذ يهوديًّا لم يُسلم بعد- لأنظُر، فلما تأمَّلْتُ وَجْهَهُ وتَبَيَّنْتُهُ عَرَفْتُ أن وَجْهَهُ ليسَ بِوَجْهِ كَذَّاب، فكان أولُ شيء سمعته تكلم به أن قال: "يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام"[صحيح: سنن الترمذي(2485)].

 

أيها الإخوة في الله: هذا صاحبُ الخَلْقِ الحسن، والخُلُق العظيم، يدخُلُ المدينةَ مُهاجرًا من مكَّة، فتظهرُ أَخْلَاقُهُ على وجهه وطلعته، ولم يكن قد رآهُ قبل ذلك سوى القليل، يدخلُ المدينةَ فيُبصرُ عبدُ الله بن سلاَم وَجْهَهُ، ويتأمَّلُ طلعتَهُ، فإذا به النورُ ونضرَةُ النعيم، والصفاءُ الذي يأخذُ بمجامع القلوب من أوَّل نظرة!.

 

وهذه شهادةُ عبدِ الله بنِ سَلاَم، وزنها كبيرٌ جدًّا؛ لأنَّهُ كان يومئذٍ حبرًا من أحبار اليهود، بل سيَّدَهم وابنَ سيّدِهم كما شهدَ بذلك اليهود، فشهدَ قبل أن يتكلَّمَ مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ وجههُ ليسَ وجهَ كذَّاب، وما ينبغي لهُ أن يكونَ وجهَ كذَّاب!.

 

وهي الصفةُ العظيمةُ التي أجمعَ عليها كلُّ من رأى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- من المسلمين، أو المشركين.

 

أيها الإخوة في الله: قضَى ربنا -سبحانه- أنَّ من كان من أهل النعيم والصدق والصفاء عُرفَ ذلكَ في وجهه وطلعته بالنور والوَضاءَةِ وإن كان عبدًا أسوَدَا، ومن كان من أهل الكذب والغش والنفاق عُرِفَتْ في وجهه الظُّلمةُ والحيرةُ والوحشةُ، وإن كان وجههُ أشدَّ بياضًا من الثلج، حكمةُ الله في إظهار ما في القلوب على الوجوه؛ قال ابن عباس-رضي الله عنهما-: "إنَّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وقوَّةً في البدن، وسعةً في الرِّزق، ومحبَّةً في قلوبِ الخلق، وإنَّ للسيِّئة سوادًا في الوجه، وظُلمةً في القلب، ووَهْنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغْضَةً في قلوبِ الخلق".

 

وقال عثمانُ -رضي الله عنه-: "ما عَمِلَ رجُلٌ عملاً إلاَّ ألبسهُ اللهُ -تعالى- رداءَه، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشَر".

 

ولقد روى لنا الذينَ كَتَبَ اللهُ لهَمُ ْرُؤيَةَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والعيشَ معه، رَوَوا لنا هذه الصفةَ الأساسية في شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقعُ بصرُكَ عليه، فتشعرُ بالهيبة والجلال، وتُحسُّ أنَّكَ أمام جمال مُدهِشٍ لا مثيل له، وأمام مظهرِ يُوحِي بثقة مطلقة وأمان لا حدَّ له، وهذا النورُ والوَضاءةُ والإشراقُ ثمرةُ ما في قلبه صلى الله عليه وسلم وأخلاقه من الصدق والإخلاص، والأمانة والتواضُع، أفاضها اللهُ على وجهه الكريمِ وطلعته، جزاءَ ما هو عليه من الخُلُق العظيم، قال الله -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم)[القلم: 04].

 

وقال سبحانه: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك)[آل عمران: 159].

 

وقد وردت شهاداتٌ من الصحابة -رضي الله عنهم- تصفُ ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الخُلُق الجميل الذي ظهرَ أثرُه على الخَلق الحسن، وإليكم-معشر الأحبَّة- بعضُ ما وردَ عنهم في ذلك:

 

- هذه شهادةٌ من الصحابي الجليل جابِرِ بنِ سمرة -رضي الله عنه- قال: "رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ليلةٍ مضيئةٍ مقمرة، وعليه حلةٌ حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو عندي أحسن من القمر"[صحيح: مختصر الشمائل المحمدية للألباني(7)].

 

وصدقَ رضي الله عنه فليسَ ذلك من المبالغة، ولا من غلاء البُردة ولا جمالِها وبهائِها، وإنما هو الحبُّ الصادق والشهادةُ الصادقة على بهاءِ الطلعةِ، وإشراقِ الوجهِ الذي أفاضَهُ حُسنُ الخُلُق.

 

وقال رضي الله عنه كما في صحيح مسلم: "مسحَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خَدِّي فوجدتُ ليده بردًا ورَيْحانًا كأنَّما أخرجهما من جُونةِ عطَّار".

 

- وهذه شهادةٌ أخرى من الصحابيِّ الجليل البراءِ بنِ عازب -رضي الله عنه- يقول كما في الصحيحين: "كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أحسنَ النَّاس وجهًا، بعيدَ ما بين المنكبين، يبلغُ شعرُهُ شحمةَ أُذُنيه، ما رأيتُ شيئًا أحسنَ منه".

 

وعن أبِي عُبَيْدَةَ بنِ محمدَ بنِ عمَّارَ بنِ ياسرٍ قال: قلتُ للرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوَّذ: صِفِي لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: "يا بُنَي لو رأيته رأيتَ الشمسَ طالعةً"[مشكاة المصابيح(5793)].

 

- وشهادةٌ أخرى من الصحابيِّ الجليل أنس بن مالك -رضي الله عنه-، من عاشَ ملازمًا للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- أكثر من عشر سنينَ يخدمُهُ، ويقضي له الحوائج؛ أخرجَ البخاري ومسلم[البخاري(3561-6038) ومسلم(2309-2330)].

 

عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ما مسستُ ديباجًا ولا حريرًا ألينَ من كفِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا شممتُ رائحةً قطُّ أطيبَ من رائحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولقد خدمتُ رسولَ اللهَ عشرَ سنين؛ فما قال لي: أفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ فعلتُهُ: لمَ فعلتَهُ؟، ولا لشيءٍ لم أفعلهُ: ألاَ فعلتَ كذا؟".

 

وانظُر في شهادته كيف ارتبطَ حُسنُ الخُلُقِ بجلال الخَلق وجماله؟ وهذا سمتُ المؤمنين الصادقين، ظاهرُهم كباطنهم، وباطنهم كظاهرهم، وهو من جزاء الله لهم في الدنيا قبل الآخرة!.

 

قال الإمام ابن القيم-رحمه الله-: "وهذا أمرٌ معلومٌ يشتركُ فيهِ وفي العلم به أصحابُ البصائر وغيرُهم، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ الطيِّبَ لتُشَمُّ منهُ رائحةٌ طيِّبَةٌ، وإن لمْ يَمَسَّ طيبًا، فيظهرُ طيبُ رائحةِ روحِهِ على بدَنِهِ وثيابِه، والفاجرُ بالعكس، والمزكومُ لا يشمُّ لا هذا ولا هذا، بل زُكامُهُ يحملُهُ على الإنكارِ، فهذا فصلُ الخِطَابِ في هذه المسألة"[الوابل الصيب لابن القيم(ص35).].

 

نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة في الله: تلكَ هي الصفةُ الأولى التي تظهرُ عليه صلى الله عليه وسلم قبل أن تجالسَهُ وتتحدَّثَ معه، النورُ ونضرَةُ النعيم، والصفاءُ الذي يأخذُ بمجامع القلوب من أوَّل نظرة:

 

من فاته رؤيةُ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا بعينيه، ولمسُهُ بيديه، والسفرُ معه بالبدن، والصلاةُ خلفه بالمسجد، ومزاحمتُهُ بالرُّكب في مجالس التعليم فعليه أن يأخذَ بسُنَّته التي علَّمها، وبالعلم الذي خلّفهُ بعد موته يلحَق بالنبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ويُمَتّعْهُ اللهُ بصحبتهم في الآخرة؛ ففي صحيح الأدب المفرد (272) قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للصحابة: " أخبركم بأحبِّكُم إلى وأَقْرَبِكُمْ مِنّي مجلِسًا يومَ القيامة؟ " فسكت القوم، فأعادها مرتين أو ثلاثا، فقال القوم: نعم يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَحْسَنُكُم خُلُقًا".

 

وفي الصحيحة(2888) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وددت أني لقيت إخواني" فقال أصحابه: أو ليس نحن إخوانك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أنتم أصحابي ولكنَّ إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني".

 

فإن لم تكن -أخي المسلم- من صحابة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فلا يفوتَنَّكَ أن تكونَ من إخوانه الذين اشتاقَ إليهم وودَّ لقاءَهم، فإنَّهُ الشَّرفُ العظيمُ في الدنيا والآخرة.

 

وفي صحيح المشكاة (6282) عن أبي محيريز قال: قلت لأبي جُمْعَةَ رجل من الصحابة حدثنا حديثا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: نعم، أحدثكم حديثا جيدا: تغدينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعنا أبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-، فقال: يا رسول الله: أحدٌ خير منا؟ أسلمنا وجاهدنا معك؟ قال: "نعم قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني".

 

فهذه شهادةٌ من النبيّ -صلى الله عليه وسلم- للصادقين ممن جاؤوا بعده استمسكوا بسنَّته، ولم يُكتَبْ لهم رؤيةُ الصُّورةِ والبدن، من لزمَ منهم سنَّةَ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وطهَّرَ نفسهُ قبل اللقاء أكرمهُ اللهُ بصحبة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عند الحوض وفي الجنَّة، وعجَّلَ لهُ مع ذلك الجزاءَ في الدنيا قبلَ الآخرة بظُهور نضرة النَّعيم على وجهه كما كانت تلوحُ على وجه النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا، والجزاءُ من جنس العمل.

 

نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.

 

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

المرفقات

المصطفى -صلى الله عليه وسلم- (2-5)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات