معنى القبول والانقياد وما يناقضه

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-08-07 - 1445/01/20
التصنيفات:

 

 

مدحت القصراوي

 

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وكلامُ الله خبَرٌ وأَمر؛ فالخبر يَستوجب تَصديق المخبِر، والأمر يَستوجب الانقياد له والاستسلام؛ وهو "عمل في القلب، جِماعُه الخضوع والانقياد للأمر" وإن لم يفعل المأمور به؛ فإذا قوبِل الخبَر بالتَّصديق، والأمر بالانقياد، فقد حصل أصلُ الإيمان في القلب وهو: الطمأنينة والإقرار؛ فإنَّ اشتقاقه من الأَمن الذي هو القرار والطمأنينة؛ وذلك إنَّما يَحصل إذا استقرَّ في القلب التصديق والانقياد).

 

فقبول الحكم وتَحقيق الانقياد وصْفُه كما قال ابن تيمية: إنَّه (عمَل في القلب، جِماعُه الخضوع والانقياد للأمر).

 

وأمَّا فِعل المأمور نفسه فهو تَكميل للعمل؛ كما قال هو رحمه الله في محلٍّ آخر، وهو إمَّا تكميل واجب يتعرَّض صاحبه للعقوبة والوعيد، أو مستحب ينقص درجاته؛ (الصارم المسلول، ص 456).

 

فالطاعة نوعان:

1- نوع هو قبول التَّكليف من الله عزَّ وجل.

وضد هذا ونقيضه هو: رَفض التكليف من الله عزَّ وجل، وردُّ أمر الله عليه؛ وهو المستكبِر، أو قبول التكليف من الله ومن غير الله معه، وهذا هو المشرِك؛ وكلاهما كافر.

 

2- ونوع آخر: هو فِعل المفروضات والمندوبات، وتَرك المحرَّمات والمكروهات.

وضد هذا ونقيضه هو: انتِهاك حرمة الأمر والنَّهي بالمعصية والمخالَفة.

 

وعندما يخاطَب الناس جميعًا بالعبادة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ [البقرة: 21]؛ فإنَّ معناها: توحيده والتزام شريعته.

• • •

 

قبول الأحكام يكون (جملة وعلى الغيب)؛ أمَّا معنى (جملة) فلا يَقبل العبد حكمًا دون آخر، ومَن ردَّ حكمًا واحدًا كان كمن ردَّ جميع الأحكام.

 

فالردُّ كالتَّكذيب؛ فمن كذَّب بخبر واحد لله تعالى كان كمن كذَّب بجميع خبره، كذلك مَن قَبِل حكمًا وردَّ آخر أو ردَّ بعض الأحكام أو ردَّها في بعض المجالات، كان كمن ردَّ جميع الأحكام، والتكذيب والردُّ كلاهما كفر بالله تعالى.

• • •

 

وأمَّا كون القبول (على الغيب) فمعناه أنَّ المسلِم يَقبل أحكام الله كلها حتى قبل أن يَعرفها على وَجه التفصيل، ومن عاصَر بداية النبوَّة فهو يصدِّق بجميع الأخبار؛ ما نزَل منها وما لم يَنزل بعد، وقَبِل جميعَ الأحكام؛ ما شُرع منها وما لم يُشرع بعد.

 

وكذلك كلُّ مسلِم في كلِّ زمن؛ يصدِّق بجميع الأخبار حتى ولو لم يَعلم تفاصيلها، ولهذا فهو يَسأل عن التفصيل ليتعلَّمه؛ كما أنَّه يَقبل جميعَ الأحكام، حتى ما لم يَعلمه، ولهذا فهو يَسأل عن تفصيل ما لا يَعلمه ويستفتي عنه ليَمتثل الأمر.

 

وفي القبول تستوي مجالات الأحكام، فيكون (شأن الذَّبيحة كشأن الدَّولة)، يجب قبول حكم الله في هذا الشأن وفي ذاك.. في المجال الاجتماعي - كالاقتصادي كالسياسي كالفنِّي - لا بدَّ من القبول في جميع المجالات؛ فلا يرد المسلِم حكمًا واحدًا في أي مجال.. فقاعدة العبوديَّة تعني: القبول والاستسلام المطلَق لله؛ وهذا هو معنى دين الإسلام الذي لا يَقبل الله تعالى دينًا غيره.

• • •

 

فإن كان الدِّين هو الطَّريق فلا تكون الطريق إلى الله تعالى مَرضيَّة إلَّا إذا كانت إسلامًا خالصًا ومطلقًا؛ يعني: استسلامًا خالصًا وكاملًا لله، فيَقبل حكمَه دون ما سواه؛ وهو (قبول شرع الله ورفض ما سواه).. وهذا معنى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].

 

ومن أراد طريقةً أخرى غير الاستسلام الخالص لله؛ فيَستسلم لله دون سواه، وهو الاستسلام المطلَق الذي لا يتحاشى حكمًا دون آخر ولا مجالًا دون آخر، فمن أراد طريقًا إلى الله ليس فيه هذا الاستسلام المطلَق والخالص لله فلن يُقبل منه هذا الدِّين ولا هذا الطَّريق، إلَّا أن يخلص استسلامه لله ويخلص قبوله الأحكام من الله تعالى، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85].

• • •

 

قبول الأحكام سابِق على الأعمال والدخول فيها، والأعمال لا تُقبل ولا تصحُّ إلَّا إذا جاءت على وَفْق القبول المجمَل والتصديق المجمَل؛ وهذا هو معنى الإيمان الذي اشترطه الله تعالى لقبول الأعمال: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾ [النحل: 97]، ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ [الإسراء: 19].

 

ومن هذا قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ [النساء: 136]؛ الآية، فهذا نِداء باسم الإيمان المجمَل (التصديق والقبول) لتَحقيق الإيمان الواجب؛ إذ لا يُقبل الإيمان الواجب إلا مع استيفاء الإيمان المجمَل الذي هو أَصل الدين.

 

ولهذا ذكر تعالى الأعمالَ الصالحة للكفَّار - من الصَّدَقة والصلاة والحج - أنَّها مَردودة عليهم: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ﴾ [النور: 39]، ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ﴾ [إبراهيم: 18]؛ وذلك لأنَّها لم تَقع على وفق التوحيد وهو الإيمان المجمل.

• • •

 

قبول الأحكام يُقابله الردُّ، وهو شِرك وكُفر وخروج من الدِّين، لا يَتفاوت حكمه، بينما الأعمال نفسها (الدخول في الأعمال والقيام بها أو التفريط) تتفاوَت؛ (فالصَّغيرة ليسَت كاللَّمم وليست كالكبيرة، وهي مع المجاهرة والإصرار أعظم من خلوها عنهما).

 

قبول الحكم: يتعلَّق بأمر الله لك أو حكمِه فيك ممَّا لا يقتـضي عملًا غير القبول، والدخول في الأعمال: يتعلَّق بعملك فقط.

 

بهذا تفهم كلام الدُّعاة والعلماء في تَقريرهم لمعنى حاكميَّة الشريعة، وأنَّ تَحكيمها وقبولها هو تَحقيق الدَّينونة لله والانقياد والاستسلام، وبيانهم خطورة القضية واتِّصالها بأصل هذا الدِّين العظيم.. وأنَّها أَصل إقامته في الحياة كنظام ومنهج شامل.

 

والله الهادي والعاصِم، وهو المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات