اقتباس
تسارعت الأحداث بشدة من سنة 562هـ حتى سنة 564هـ وخلالها استطاع أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي أن يستوليا على زمام الأمر في مصر، وأعلنا سقوط الدولة الفاطمية وانتهاء أيامها النكدة، وهزم عموري الأول مرتين متتاليتين في محاولاته المتكررة للاستيلاء على مصر.
في أواخر القرن الخامس الهجري شن أمراء وملوك أوروبا الغربية (الكاثوليك) وبتحريض مباشر، ودعم كامل من كرسي البابوية في روما حربًا صليبية مدمرة ضد العالم الإسلامي بداية من سنة 489هـ، وقد نجحت تلك الحملات الصليبية المتتالية في إقامة عدة ممالك صليبية لاتينية في بلاد الشام وسواحلها، وكانت مملكة بيت المقدس أهم وأكبر تلك الممالك؛ لمكانتها الدينية، وموقعها الاستراتيجي، ويعتبر الملك الصليبي (عمُّوري الأول) أهم وأشهر من تولى حكم مملكة بيت المقدس، فلقد كان تجسيدًا حقيقيًا وكاملاً للفارس الصليبي في العصور الوسطى، فلقد كان شديد الإيمان بفكرة الحروب الصليبية، ليس له هم ولا هدف سوى محاربة المسلمين وغزو بلادهم.
كان عموري-قبل أن يعتلي العرش-أميرًا ليافا وعسقلان، أي (مرتبطًا بالمنطقة الساحلية الفلسطينية في جزئها الجنوبي المتاخم للحدود المصرية) وعلى دراية واسعة بأحوال مصر الداخلية، وكان يرى ضرورة الاستفادة من الفوضى السياسية العارمة التي اجتاحت مصر في أعقاب مقتل الخليفة الفاطمي (الفائز بالله) سنة 555هـ، لذلك أغرى أخاه الملك بلدوين الثالث بأن يغزو مصر سنة 556هـ، ولما اعتلى عموري الأول العرش سنة 558هـ وضع خطة طموحه لغزو بلاد مصر وضمها إلى أملاك الصليبيين في الشام، وكان للنجاحات الباهرة التي حققها السلطان العادل "نور الدين محمود" في توحيد الإمارات المسلمة في الشام؛ دور كبير في تسريع وتيرة الخطط الصليبية ضد بلاد مصر؛ وذلك خشية أن يقوم نور الدين محمود بالاستيلاء على مصر وتوحيد الجبهة الشامية والمصرية تحت راية واحدة مجاهدة.
قام عموري الأول بمحاولته الأولى لغزو مصر سنة 558هـ، ولكنه فشل بسبب فيضان النيل، وقد نبهت تلك المحاولة كلاً من الصليبين والمسلمين لأهمية مصر الاستراتيجية، وعظم ثرواتها، وأيضًا ضعف دفاعاتها وسهولة أخذها، فأخذ عموري في تجهيز حملة صليبية ضخمة لغزو مصر، ولكن نور الدين محمود كان أسرع منه، فاستغل الصراع الحادث على منصب الوزارة بين شاور السعدي وضرعام بن سوار، فأرسل جنوده بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي، فسيطروا على مصر سنة 559هـ؛ فتخوف الوزير شاور السعدي من القوات الشامية؛ فاستنجد بالصليبيين، وهكذا حال الخونة والعملاء في كل زمان ومكان.
لم يتردد عموري في إجابة صريخ الخائن شاور، ولكنه لم يستطع الانتصار على أسد الدين شيركوه، على الرغم من الفرق الشاسع بين الجيشين، فاصطلحوا في النهاية على عودة الفريقين إلى بلاد الشام، فعاد أسد الدين بجنوده، وعموري الأول بجنوده، وكلاهما يضمر العودة لاحتلال مصر، وشعر الخائن شاور بما يضمره أسد الدين، فأرسل مرة أخرى يستنجد بالصليبيين فوعدوه بالنصرة، ووثقوا ذلك بمعاهدة وقعها الجانبان.
تسارعت الأحداث بشدة من سنة 562هـ حتى سنة 564هـ وخلالها استطاع أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي أن يستوليا على زمام الأمر في مصر، وأعلنا سقوط الدولة الفاطمية وانتهاء أيامها النكدة، وهزم عموري الأول مرتين متتاليتين في محاولاته المتكررة للاستيلاء على مصر.
تحالف الصليبيين والبيزنطيين:
كان عموري الأول في بداية حكمه يرى في البيزنطيين أو نصارى الشرق الأرثوذكس عدوًا لا يقل خطورة عن المسلمين، وعليه فقد بنى آماله على مساعدة لويس السابع (ملك فرنسا)، ولكن مع مرور الوقت تبددت آماله في المساعدات الآتية من ناحية الشمال، وبدأ يتطلع نحو الدولة البيزنطية ورجلها القوي الإمبراطور (مانويل كومنين) وحتى يوثق الصلات معه تزوج من إحدى أميرات البيت الإمبراطوري، وسمح للإمبراطور (مانويل) بالإنفاق بسخاء على تعمير كنائس بيت المقدس.
كان عموري يرمي من وراء تلك التحركات الدبولماسية؛ ضمان مساعدة البيزنطيين في مشروعهم الكبير ضد بلاد مصر، فتم توقيع معاهدة اقتسام مصر بين الجانبين سنة 564هـ، وبعد توقيع المعاهدة؛ وقبل وصول البعثة الملكية التي أرسلها عموري الأول لتوقيع المعاهدة؛ بادر هو بحملة-منفردًا-على مصر؛ لعله أن يحقق بعض المكاسب التي تحقق له تقدمًا استراتيجيًا، وتزيد من حصته ونصيبه في كعكة اقتسام مصر مع البيزنطيين، وقد تم الاتفاق بين الجانبين على أن يقوم الأسطول البيزنطي بالهجوم البحري على دمياط، في حين تهجم الجيوش الصليبية من ناحية الشرق، وقد رسى الأسطول البيزنطي الضخم في ميناء عكا سنة 565هـ، على أن يكون الاجتماع البري والبحري في عسقلان.
كان الأسطول البيزنطي يظنَّ أنَّ مسألة الهجوم على مصر واحتلالها مجرد نزهة؛ نظرًا لضخامة قواتهم البحرية؛ لذلك لم يصحبوا معهم من المؤن والتموين الكافي لمعركة طويلة الآجل، ولكنهم فوجئوا بأن الجيش الصليبي الذي يقوده عموري الأول يؤخر الهجوم ويتلكأ-طويلاً-قبل الدخول الفعلي في العمليات الحربية. وبعد مداولات كلامية عنيفة، ومراسلات خشنة بين قائد الأسطول البيزنطي وعموري الأول؛ تم الاتفاق على الهجوم على دمياط في أوائل صفر سنة 565هـ وضربوا عليها حصارًا بريًا وبحريًا-محكمًا-؛ بغية الاستيلاء عليها واتخاذها قاعدة للصليبيين في مصر، يقصدها من يأتي من أوروبا برًا وبحرًا، وقد بلغت ضخامة الأسطول البيزنطي أن عدد سفنه قد جاوزت الألف سفينة.
ما إن شعر أهل دمياط بقدوم الحملة الصليبية البيزنطية المشتركة؛ حتى أسرع والي دمياط (شمس الخواص) بغلق مدخل الميناء بالسلاسل الحديدية الضخمة، وأرسل إلى صلاح الدين الأيوبي يطلب منه النجدة والإمدادات، فأنفذ صلاح الدين-من فوره-كميات كبيرة من الرجال، والفرسان، والسلاح، والمؤمن؛ فارتاح بال أهل دمياط بعد أن داخلهم الخوف والقلق من ضخامة الهجوم الصليبي.
في نفس الوقت أرسل صلاح الدين إلى قائده الأعلى في الشام السلطان نور الدين محمود يشرح له صورة الوضع ويحذره من خطورة الهجوم الصليبي المشترك، خاصة وأن بقايا الفاطميين يخططون ويحاولون إعادة عرش الدولة البائدة، فجاء رد السلطان نور الدين سريعًا، إذ أخذ في شن هجمات قوية على أملاك الصليبيين في الشام، ووصل بغاراته عليها ما لم يبلغه من قبل.
وكان لسرعة تصرف صلاح الدين في الأزمة، وتحركه-سريعًا-على عدة محاور؛ دور كبير في إحباط الهجوم الصليبي، حتى أن جيش، وأسطول التحالف الصليبي بكل ضخامته وخططه وتحركاته السابقة؛ قد وقف-عاجزًا-أمام تحصينات دمياط الدفاعية والخطط والإجراءات التي اتخذها صلاح الدين لنجدة دمياط.
أصيب الصليبيون والبيزنطيون بخيبة أمل قوية، وبدءوا يشعرون باليأس والقنوط من حصانة دمياط، وترددوا-طويلاً-قبل الإقدام على أول هجوم، وقد حاولوا اقتحام أسوار دمياط المنيعة باستخدام أبراج خشبية، تم بناؤها خصيصًا للهجوم على دمياط. ولكن المهاجمين كان ينقصهم البراعة والذكاء الحربي المطلوب في مثل تلك المواقف، فعلى الرغم من قيامهم ببناء عدة أبراج عالية وقوية إلا أنهم لم يحسنوا اختيار الموضع المناسب؛ لشن الهجوم على الأسوار، فقد وضعوا الأبراج في أماكن غاية في الحصانة، وتركوا الأماكن الأقل تحصينًا، كما أن هجومهم الطائش قد أسفر عن تدمير كنيسة الأم المقدسة الخاصة بنصارى دمياط.
نفدت مؤن الأسطول البيزنطي؛ لطول فترة الإعداد للهجوم والتباطئ الذي أبداه الصليبيون في الهجوم، وبدأ الجوع والإرهاق يعصف بالبيزنطيين، ومما زاد الأمر توترًا؛ أن الصليبيين قد رفضوا تقديم أي مساعدات أو مؤنٍ للبيزنطيين؛ بحجة احتياجهم لتلك المؤن، وتلك النذالة الأوروبية؛ جعلت البيزنطيين يشكون في نوايا عموري الأول، وسرت روح من الريب والاتهام والفرقة بين الجانبين، ثم ظهر عامل جديد؛ وسَّع شقة الخلاف، وضرب عرى التحالف الصليبي البيزنطي في مقتل؛ فقد هبت رياح عنيفة، وهطلت أمطار غزيرة؛ أغرقت المعسكر الصليبي تمامًا.
ثم ضرب المجاهدون من أهل دمياط ضربتهم الناجحة؛ التي أسدلت الستار على تلك الحملة الصليبية المشتركة، ذلك أنهم استفادوا من سرعة جريان مياه النيل، بسبب هبوب رياح جنوبية قوية، فأخذوا قارباً ذا حجم عادي، وملؤوه حتى نهايته بالأخشاب الجافة، والقار، وقذفوا عليه بعض المواد المشتعلة، فاشتعل على ضفة النهر، وحملته الأمواج الشديدة في اتجاه الأسطول الراسي عند مصب النهر في البحر المتوسط، واصطدم القارب المشتعل بالسفن المتراصة، فاشتعلت النار به، وأحرقت الكثير من سفن الصليبيين.
وفي النهاية اضطر عموري الأول لطلب الصلح والانسحاب، بعد خسائر ضخمة في العتاد والأرواح، وكان للوباء الفتاك الذي سرى في معسكر الصليبيين، والنجاحات التي حققها السلطان نور الدين محمود في الشام؛ دور حاسم في انسحاب الصليبيين. وهكذا انتهت تلك الحملة المشتركة الضخمة ورحل الصليبيون والبيزنطيون خائبين خاسرين، وقد أحرقوا-بأيديهم-آلات الحصار مثل: المجانيق، والدبابات، وتبخرت آمال عموري الأول، وفشلت كل مشاريعه نحو احتلال مصر-بفضل الله-عز وجل-ثم الوحدة بين الجبهة الشامية والمصرية.
ويقال: أنه عند عودة عموري الأول إلى مملكته؛ وجدها خاوية خربة، وأهلها بين قتيل وأسير؛- بسبب غارات نور الدين محمود عليها أثناء غيابه، فانطبق عليه المثل العربي الشهير: «خرجت النعامة تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين».
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم