اقتباس
اغتاظ الصليبيون –بشدة- بما حاق بهم في القدس، وشعروا بالخطر الداهم الذي يتهدد وجودهم في الشام، وكذلك شاركهم نفس المخاوف خونة الأيوبيين من أمراء الشام، لذا كان من الطبيعي أن يحشد الطرفان كل ما يقدران عليه من عدد وعتاد؛ لمواجهة التحالف الخوارزمي الأيوبي المصري، وبالفعل شرعت القوات المتحالفة في المسير صوب الجنوب وقد سلكت الطريق الساحلي، وقد اتفق المؤرخون على أن الجيش الصليبي الأيوبي المشترك كان يُعتبر أضخم جيش قذف به الصليبيون في ساحة القتال منذ يوم حطين، وذلك طبيعي جداً في ظل انضمام الكثير من خونة المسلمين إليهم.
أحداث التاريخ الإسلامي مليئة بالعبر والعظات والدروس المجانية، لمن يريد أن يتعلم، ولمن يريد أن يغير الكثير من الظواهر والأعراض الطارئة على أمتنا، ذلك لأن هذه الأمة عاشت كل الأدوار، وتقلبت بين كل الأطوار فذاقت القوة والسيادة، وتجرعت الضعف والتبعية، قادت وانقادت، حكمت وحُكمت، ولديها رصيد هائل من التجربة، ومن ضمن الحقائق الثابتة التي لا تتغير أبداً: أن العقيدة والإيمان هما مصدري العزة والكرامة والقوة لتلك الأمة، ويوم أن تختل مفاهيم العقيدة النقية ويتم العبث بها تصبح هذه الأمة بدون أساس تقوم عليه وتلتمس النصر والكرامة عند أعدى أعدائها، وإن الولاء والبراء أكثر ما تم العبث به وتشويهه عند الناس، وأحداث التاريخ شاهدة على ضياع الأمة إذا ضاع الولاء والبراء فلا يعرف الصديق من العدو والحبيب من البغيض ومعركتنا تلك خير دليل على ذلك.
الدولة الأيوبية من القوة إلى الضعف:
توفي السلطان العظيم الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 589 هـ بعد أن قام بأعظم الإنجازات، وحاز القدح المعلى في الشرف والسؤدد، بعد أن حرر الله -عز وجل- على يديه بيت المقدس من أسر الصليبيين الذي استمر لأكثر من تسعين سنة، وكلل الناصر صلاح الدين بذلك جهود العديد من أبطال الإسلام مثل الأمير مودود، وعماد الدين زنكي، وأسد الدين شيركوه، ونور الدين محمود، وغيرهم من أبطال التصدي للاحتلال الصليبي لسواحل الشام.
رحل صلاح الدين عن عالمنا وقد ترك دولة قوية وواسعة وممتدة وتضم مصر والشام والجزيرة الفراتية وأجزاء من الشمال الأفريقي وبلاد اليمن. ولكن –للأسف- لم يكن خلفاؤه على نفس القدر من الكفاءة والمسئولية، ذلك أن صلاح الدين قد اختار أن يقسم هذه المملكة الواسعة بين أبنائه وإخوته مما فتح المجال للصراع على أشده بين خلفاء صلاح الدين، ولم يفد وجود السلطان محمد أبو بكر العادل الشقيق الأصغر لصلاح الدين كثيراً، فرغم قوته وصلاحيته وكفاءته إلا أنه لم يستطع وقف مسلسل تدهور الدولة، والذي زاد بعد رحيله سنة 615 هـ ، وقد دفعت الأمة الإسلامية الثمن باهظاً نتيجة هذا التناحر.
أدى التصارع الأيوبي الأيوبي إلى بحث كل فريق عن آخرين يدعمونه في مواجهة صاحبه، فبينما استعان الأخوان الأشرف موسى بن العادل والمعظّم عيسى بالصليبيين في بلاد الشام ضد أخيهما الكامل محمد سلطان مصر وكبير الأيوبيين، استعان الأخير في العام 626هـ بالإمبراطور الألماني فردريك الثاني، وكانت عاقبة هذا التحالف تسليمه بيت المقدس في اتفاقية مستهجنة، وكانت بنود هذه الاتفاقية تنصّ على تسليم بيت المقدس للصليبيين طواعية دون أن يُحدثوا سورًا أو قلعة أو يتعرّضوا لمصالح المسلمين ومقدساتهم فيها؛ إذ أراد الكامل من خلال هذه الاتفاقية أن يأمن جانب الصليبيين؛ ليتفرّغ إلى الصراع الأيوبي الأيوبي، وهو الصراع الذي أدى إلى وهن المملكة الأيوبية عسكريًا وتشرذمها سياسيًا بعد وفاة صلاح الدين حتى استيلاء المغول على بلاد الشام في العام 658هـ .
أصبح التحالف مع الصليبيين ضد المسلمين من أجل المصلحة والسيطرة على الملك سنّة ماضية في البيت الأيوبي، شوهت تراث أسرة مجاهدة عظيمة، ولم يغير رحيل السلطان الكامل الأيوبي بن العادل ـأول من سنّ سنّة الاستعانة بالصليبيين- من استمرار هذه السنّة في البيت الأيوبي، فسرعان ما نشب الصراع ذاته بين ابني الكامل؛ العادل الثاني والصالح أيوب، وبعض أعمامهم وأولاد أعمامهم مثل الصالح عماد الدين إسماعيل، والناصر داود بن المعظّم عيسى والملك المجاهد والملك المظفّر وغيرهم؛ ولقد استغل الصليبيون هذا الصراع؛ ليعزّزوا من وجودهم في البيت المقدس فبنوا قلعة، وبالرغم من أن المعظّم عيسى –صاحب دمشق- كان قد هدم معظمها إلا أن ابنه الناصر داوود اتجه في العام 637هـ وهدم البرج المتبقي منها والذي كان الصليبيون قد أسموه برج داوود، ثم أجلاهم إلى بلادهم وهو الفعل الذي حمده عليه بعض الشعراء كابن مطروح وغيره. لكن سرعان ما عاد شيطان الاستعانة بالصليبيين مرة أخرى، وفي تصرّف مُشين قام الناصر داوود بتسليم بيت المقدس للصليبيين في أواخر العام ذاته 637هـ، نكاية في ابن عمه الصالح أيوب الذي أخلف وعده معه برد قلعة الشوبك ودمشق وبلادها إليه بعدما ساعده على خلع أخيه العادل الثاني من حكم مصر.
كان أكثر الناس استعانة بالصليبيين في البيت الأيوبي هو الصالح إسماعيل أمير دمشق وما حولها، إذ كان يطمع في وراثة المجد الأيوبي كله، وأن يصبح عاهل هذا البيت العظيم ووارث أملاكه، فدخل في نزاع مرير مع بقية أمراء البيت الأيوبي، انتهى بعده إلى قناعة غاية في الخطورة، وهي حتمية إقامة حلف صليبي – أيوبي من أمراء الشام؛ لمواجهة النفوذ المتنامي لابن أخيه الصالح أيوب سلطان مصر الذي كان ينظر إليه على نطاق واسع أنه أحق الناس برئاسة البيت الأيوبي لخصاله الحسنة، وخلاله الباهرة، وتأسيه بجده الناصر صلاح الدين. وبالفعل عرض الصالح إسماعيل على الصليبيين أن ينضموا إلى أيوبيي الشام في حلفهم الجديد، بل ووعدهم بتسليمهم جزءًا من مصر بعد هزيمة الصالح أيوب، لكن الصليبيين لم يرضوا إلا بمنح الصالح إسماعيل لهم -على سبيل المبادرة- صفد وشقيف ونصف صيدا وطبرية وسائر بلاد الساحل في الشام فأذعنَ، كما سمح لهم بدخول دمشق وشراء السلاح منها، مما أغضب المسلمين، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام -وكان قاضي المدينة وخطيب جامع دمشق- بتحريم بيع السلاح للصليبيين، وقطعَ الدعاء للصالح إسماعيل في جامع دمشق، فعزله الصالح، فلم يجد العزّ بداً من المسير إلى مصر حيث ولاه السلطان الصالح أيوب الخطابة بجامع عمرو بن العاص، وقلّده قضاء مصر "الفسطاط" والوجه القبلي.
ظهور القوة الخوارزمية:
اهتم السلطان الصالح أيوب كثيراً بأخبار الحلف الأيوبي الصليبي، وأخذ في الاستعداد لمواجهة الحملة المشتركة على بلاده، فجمع القادة والأعيان، وتشاور معهم في سبل مواجهة هذا العدوان الغاشم، خاصة وأن القوات المصرية وحدها لا تكفي لمواجهة قوات التحالف المشترك، فأشاروا عليه بالاستعانة بالقوة الصاعدة الجديدة في المنطقة (قوة الخوارزميين).
القوات الخوارزمية كانت تمثل بقايا جيش الدولة الخوارزمية العظيمة التي كانت تمتد في معظم الهضبة الخراسانية وتسيطر على مساحات شاسعة من شرق العالم الإسلامي، وكان من قدر هذه الدولة أن تكون هي الدولة الحاجزة بين العالم الإسلامي والوحش الجديد الذي أخذ في التهام المعمورة(التتار).
فقد دارت العديد من الصولات والجولات بين التتار وبين الخوارزميين انتهت باكتساح دولتهم، واحتلال التتار لها، وقد تشتت عقد هذه الدولة بعد مقتل آخر سلاطينها؛ السلطان جلال الدين خوارزم سنة 628هـ. بعدها انحاز فلول الجيش الخوارزمي تحت قيادة أحد الأمراء واسمه (بركة خان) إلى جنوب الأناضول، وأصبحوا بمثابة المرتزقة يسخرون قوتهم لصالح من يدفع لهم، ودخلوا على خط الصراع بين أمراء الأيوبيين في الشام.
وكان الخوارزميون منتشرين في البلاد، فأراد الصالح أيوب أن يستفيد من تلك القوة المسلمة المعطلة عن الجهاد وفي نفس الوقت يجعل لهم شغلاً حتى لا يستديروا إلى الإفساد في الأرض؛ لقلة أموالهم، ولطالما هدّدوا الحدود الشمالية الشرقية للدولة الأيوبية، واستطاعوا أن يستولوا على بعض أهم مدنها مثل خِلاط، وكان الصالح أيوب قد استعان بخدماتهم مذ كان نائبًا لأبيه الكامل على مدينة سنجار في بلاد الجزيرة الفراتية شمال العراق، ولذلك كانت العلاقات بينهم طيبة منذ ذلك الحين، فأرسل أيوب إليهم بصورة الأمر فوافقوا على الفور وجاءوا مسرعين إلى الشام؛ لقتال التحالف الخبيث، وأرسل إليهم أيوب جيوشه المصرية ومعهم الأموال اللازمة لذلك.
معركة سهل الحربية "حطين الثانية":
عندما وصلت أخبار استعانة الصالح أيوب بالخوارزميين إلى الصالح إسماعيل؛ قرر أن يصل بالخيانة والانحطاط إلى القاع، إذ سلّم عدة مناطق جديدة للصليبيين منها بيت المقدس وطبريا وعسقلان، ويروي المؤرخ ابن واصل الحموي أثناء مروره بمدينة القدس سنة 641هـ فيقول: "فرأيتُ الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلتُ الجامع الأقصى وفيه جرس معلّق، وأُبطل بالحرم الشريف الآذان والإقامة، وأُعلن فيه بالكفر"، ولم يكتف الصالح إسماعيل بذلك بل وعدهم بأنهم إذا استولوا على البلاد المصرية فسوف يُعطيهم كافة المناطق الساحلية في مصر والشام؛ ليعيدوا بذلك أمجاد الصليبيين في مرحلة ما قبل ظهور حملة رايات الجهاد الكبار عماد الدين زنكي ومن بعده.
نزل الجيش الخوارزمي المقدر بعشرة آلاف مقاتل بقيادة (بركة خان) من جنوب الأناضول إلى بلاد الشام مخترقاً ولايات ومدن الأيوبيين والصليبيين على حد السواء، ولم يجرؤ أي من الفريقين على اعتراضهم؛ لشدة بأسهم في القتال وخبرتهم الطويلة في الحروب، حتى وصل الخوارزميون إلى بيت المقدس، ففر كثير من الصليبيين من المدينة، ومن بقي منهم كان غنيمة باردة لسيوف الخوارزميين، فقتلوا وسبوا الكثيرين منهم، وطهروا المسجد الأقصى من دنس الصليبيين وأعادوه إلى الإسلام والصلاة، وبعدما ضبطوا المدينة، خرجوا إلى اتجاه مصر، واستقر بهم الحال في سهل الحربية قريباً من غزة ناحية الشمال، فعسكروا وأرسلوا إلى الصالح أيوب يخبرونه بقدومهم؛ لنصرته، ويطلبون منه تسيير العساكر إليهم؛ ليحاربوا عمّه الملك الصالح والملك المنصور صاحب حمص، ويأخذوا بلادهما له، فخَلع الصالح على رسلهم، وبعث الخِلَع والتُّحف للمقدمين منهم، واهتم في إنفاذ العساكر إليهم، فاجتمعت القوات الخوارزمية مع القوات المصرية المكونة في معظمها من مماليك الصالح أيوب والملقبين بالمماليك البحرية، واستعدوا للقاء الحلف الصليبي الأيوبي المشترك.
اغتاظ الصليبيون –بشدة- بما حاق بهم في القدس، وشعروا بالخطر الداهم الذي يتهدد وجودهم في الشام، وكذلك شاركهم نفس المخاوف خونة الأيوبيين من أمراء الشام، لذا كان من الطبيعي أن يحشد الطرفان كل ما يقدران عليه من عدد وعتاد؛ لمواجهة التحالف الخوارزمي الأيوبي المصري، وبالفعل شرعت القوات المتحالفة في المسير صوب الجنوب وقد سلكت الطريق الساحلي، وقد اتفق المؤرخون على أن الجيش الصليبي الأيوبي المشترك كان يُعتبر أضخم جيش قذف به الصليبيون في ساحة القتال منذ يوم حطين، وذلك طبيعي جداً في ظل انضمام الكثير من خونة المسلمين إليهم.
في صبيحة يوم 12 جمادى الأولى 642هـ/ 17 أكتوبر 1244م. كان اللقاء الحاسم بين الفريقين، فوقع المصاف بين الفريقين بظاهر غزة، فكُسر الملك المنصور أمير حمص ومن معه كسرة عظيمة وأخذت الفرنجَ سيوفُ المسلمين فأفنوهم قتلاً وسبيًا، ولم يفلت منهم إلا الشارد النادر، وأسر من عسكر دمشق وعسكر الكرك جماعة مقدمون وغيرهم، ونُهبت جميع أثقال الدمشقيين، وحُكي عن الملك المنصور أنه قال: والله لقد حضرتُ الحرب ذلك اليوم وأوقع الله –تعالى- في قلبي إنا لا ننتصر؛ لانتصارنا بالكفّار على المسلمين، ووقوفنا تحت رايات الصليب". وقد قتل من الصليبيين عدد قُدّر بأكثر من خمسة آلاف قتيل، وزاد بعض المؤرخين فجعل عدد القتلى ثلاثين ألفاً، بينما تم أسر حوالي ثمانمائة أسير، وقد وصف سبط ابن الجوزي هذه المعركة بقوله: "كان يومًا عظيًما لم يجرِ في الإسلام مثله، ولا في زمان نور الدين وصلاح الدين ".
لم ينس الصليبيون مرارة هزيمة الحربية، تلك المعركة التي أسموها "حطين الثانية"؛ لأنها "سلبت الفرنج كل ما أحرزته لهم خيانة بعض أمراء المسلمين واستهتارهم وصراعاتهم الصغيرة، من مكاسب طارئة في عشرات السنين الأخيرة؛ إذ ليس من الراجح أن تصمد بيت المقدس والجليل لهجوم إسلامي خطير، غير أن الخسارة في القوة البشرية جعلت الصليبيين من العجز ما لم يجعله يدافع إلا عن المناطق الساحلية وبعض القلاع الداخلية المنيعة، ولم يفُق معركة غزّة في كثرة الخسائر سوى معركة حطين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم