معركة دمشق الكبرى الحملة الصليبية الثانية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

كان للفشل والهزائم المخزية التى نالتها الحملة الصليبية الثانية فى بدايتها على يد السلاجقة المسلمين أثر بالغ فى تغيير مسار الحملة, والتفكير فى هدف آخر غير استعادة الرها يحفظ لهم ماء وجوههم وكرامتهم المهانة بسيوف المسلمين, وكان التفكير قد اتجه الى مدينة دمشق التي هي درة بلاد الشام وحاضرته وعاصمته, وحصن

 

 

 

 

عندما يغيب الأسد:

 

عندما أطلق البابا ( أوربان الثاني ) شرارة الحملات الصليبية فى مجمع ( كليرمونت ) سنة 485 هـ, وجد اعداء الإسلام فى ذلك فرصة سانحة لتفريغ مخزون الحقد والكراهية الهائل فى قلوبهم ضد الإسلام والمسلمين, وكانت أولى الحملات الصليبية سنة 490 هـ, واستمرت مدة سنتين, وأسفرت عن سقوط بيت المقدس فى 22 شعبان سنة 492هـ, بعد مذبحة مروعة راح ضحيتها سبعون ألف مسلم بين رجل, وامرأة, وشيخ, وطفل, وقد انتهت تلك الحملة بتكوين أربع إمارات صليبية فى الشام: وهي إمارة الرها, وإمارة طرابلس, وإمارة أنطاكيا, وإمارة بيت المقدس, وبذلك ثبت الصليبيون أقدامهم بالشام, ولم يكن هناك من يصدهم عن غيهم, وذلك لانتشار العقائد الفاسدة بالشام: مثل الرفض, والتصوف, بسبب حكم الدولة الفاطمية الخبيثة لتلك البلاد سنوات طويلة, مما روج لعقيدة التشييع والرفض, وقد سهل ذلك على الصليبين مهمتهم, لأن العقيدة هى السد المنيع, وقاعدة دفاعات المؤمنين الحصينة.

 

ظل الوضع هكذا, وكان الصليبيون فى استقرار وتمكن من البلاد – خاصة بعد تحقق هدفهم الأغلى وهو بيت المقدس – حتى قيض الله - عز وجل - للأمة الإسلامية من يجدد لها ما اندرس لها من أمر دينها خاصة جهاد الكافرين, وظهر القائد الكبير ( عماد الدين زنكي ): وكان رجلاً فذا ً ذا همة عالية, وغاية سامقة, عمل على توحيد الشام والجزيرة لتكوين جبهة واحدة قوية أمام العدو الصليبي, وتفرغ بعدها لقتال الصليبين, وأعاد بعدها لحظيرة الإسلام الكثير من الحصون والمدن, وحررها من قبضة الصليبين, وتوج أعماله الجهادية العظيمة بتحرير مدينة الرها سنة 539هـ, وأزال بذلك أول إمارة صليبية أنشئت بالشام, وكانت الأيدي الآثمة امتدت لتغتال الحلم الإسلامي بتحرير البلاد المحتلة, وقتل عماد الدين زنكي أثناء حصاره لقلعة جعبر, وكانت قلعة لإيواء اللصوص وقطاع الطرق, وعندها تنفس الصليبيون الصعداء, وظنوا أن الجو قد خلا لهم, وأن غياب الأسد سيجعل ميدان القتال أوسع وأرحب, ولكنهم غفلوا عن حقيقة هامة: وهي أن الأسد قد خلف لهم من ورائه أسودا ً أخرى, ستحمل الراية الجهادية بعده, وبالفعل ظهر كل من نور الدين محمود وسيف الدين غازي.

 

عندما قتل عماد الدين زنكي فرح الصليبيون بشدة لغياب أسد الشام, وحاولوا سريعا ً انتهاز تلك الفرصة السانحة, وكانت أول بوادر الصحوة الصليبية العصيان الذي أعلنه نصارى مدينة الرها, وحاولوا الاتصال بالصليبين لإعادة تكوين الإمارة السابقة, ولكن الأمير المجاهد نور الدين محمود وقف لهم بالمرصاد, وعندها شعر الصليبيون أنهم لن يقووا على مجابهة نور الدين أرسلوا الى أوروبا يستصرخونهم لنصرة الصليب بالشام.

 

الحملة الصليبية الثانية:

 

كان لسقوط إمارة الرها الصليبية دوي كبير فى أنحاء أوروبا عموما ً, وفى مقر البابوية خصوصا ً, وارتفع صدى هذا الدوي بعد الإستغاثات المتكررة الصادرة من نصارى الشام لإخوانهم بأوروبا, وجاءت التلبية فى عام 543هـ عندما تحرك اثنان من أكبر قادة أوروبا وهما ملك ألمانيا (كنراد الثالث), وملك فرنسا (لويس السابع) , وسلك كل واحد منهما طريقا ً يختلف عن الآخر فى شبه كماشة للإنقضاض على الشام من ناحيتين: الألماني من ناحية آسيا الصغرى, والفرنسي من ناحية القسطنطينية.

 

كان حظ الجيش الألماني عاثرا ً, فعند مدينة قونية بآسيا الصغرى هجمت قوات سلاجقة الروم المسلمة على الجيش الألماني ومزقته شر تمزيق, وشتت شمله, وفر كنراد الثالث من أرض المعركة الى مدينة نيقية؛ حيث التقى بلويس السابع وهو فى غاية الذلة والمهانة, ورغم أن لويس السابع قد اختار الطريق الآمن؛ فإنه لم ينج من غارات السلاجقة المسلمين, مما اضطره لتعديل مساره آخذا ً طريق البحر, ثم أنطاكية, فبيت المقدس متناسيا ً الهدف من حملته: وهو استعادة الرها, والتفكير فى هدف أكبر وأخطر.

 

دمشق. .. حصن الشام:

 

كان للفشل والهزائم المخزية التى نالتها الحملة الصليبية الثانية فى بدايتها على يد السلاجقة المسلمين أثر بالغ فى تغيير مسار الحملة, والتفكير فى هدف آخر غير استعادة الرها يحفظ لهم ماء وجوههم وكرامتهم المهانة بسيوف المسلمين, وكان التفكير قد اتجه الى مدينة دمشق التي هي درة بلاد الشام وحاضرته وعاصمته, وحصن الشام  والتي فتحها المسلمون سنة 14 هـ ومن وقتها – وحتى وقتنا الحاضر – وهي فى قبضة المسلمين, وهي أيضا ً محلة الإسلام, وبها سينزل عيسى - عليه السلام - فى آخر الزمان ليقتل الدجال, ووردت عدة أحاديث ذكر فيها اسم دمشق جمعها صاحب كتاب مصابيح السنة, وعلى الرغم من ضراوة وشدة الحملة الصليبية الأولى  والتي جاء فيها مليون صليبي،  إلا أنهم لم يفكروا فى الهجوم على دمشق رغم أهميتها.

 

كان الحاكم الفعلي لمدينة دمشق رجلا ً اسمه "معين الدين أنر"  وكان رجلا حازما داهية ولكنه كان يعادي عماد الدين زنكي ويخاف من سطوته وطموحاته نحو ضم دمشق إلى مملكته التي كانت تشكل حلب وحمص وحماة والجزيرة الفراتية والموصل ، وكان معين الدين في الأصل وزيرا لأمراء دمشق من ولد شمس الملوك بوري, ثم استبد بالأمر وأصبح هو الحاكم الفعلي لدمشق،  فلما وصلته أخبار استعداد الصليبين للهجوم على دمشق جمع المقاتلين, ونظم الصفوف, ووزع السلاح على أهل البلد للدفاع عن مدينتهم, ولكنه شعر بكثرة وقوة الحملة الصليبية, فقرر الاستعانة بالأسود الجديدة: نور الدين محمود, وسيف الدين غازي ولدي البطل الراحل عماد الدين زنكي , وكان نور الدين حاكما ً على مدينة حلب, وأخوه سيف الدين حاكما ً على مدينة الموصل, وبالفعل استجابا سريعا ً, وكونا جيشا ً كبيرا ً يقدر بسبعين ألف – هذا غير المتطوعين – وأرسل نور الدين محمود الى معين الدين أنر حاكم دمشق يقول له: " قد حضرت ومعي كل من يحمل السلاح من بلادي؛ فأريد أن يكون نوابي بمدينة دمشق لأحضر والقى الفرنج؛ فإن انهزمت دخلت أنا وعسكري البلد واحتمينا, وإن ظفرنا فالبلد لكم لا أنازعكم فيه ".

 

أزعجت هذه الرسالة معين الدين إنز حاكم دمشق, وخاف من قدوم نور الدين لدمشق, وذلك لميل الناس والمسلمين إليه؛ خاصة وأن معين الدين هذا لم يكن أصلا ً من الأسر الحاكمة, بل تغلب على البلد, وكان رجلا ً طماعا ً مؤثرا ً لمنصبه وكرسيه على مصالح الأمة, وتلك الصفات دعته ليقدم على خطوة فى غاية السوء؛ حيث قام بإغلاق أبواب المدينة أمام الجيوش المسلمة التي جاءت أصلا ً للدفاع عن المدينة, ثم قام باستغلال قدوم المسلمين لنصرته أسوأ استغلال, حيث استخدم الجيوش كسكين تهديد وارهاب للصليبين؛ فأرسل لملك الألمان يقول له: " ملك الشرق – يقصد نور الدين – قد حضر لنصرة أهل دمشق؛ فإن رحلتم عنا وإلا سلمت البلد له, وحيبئذ تندمون ".

 

معركة دمشق العظيمة:

 

لم يكن هذا التهديد ليخيف حملة صليبية كبيرة مثل هذه الحملة, خاصة وأن الذي يقودها ملك من أكبر ملوك أوروبا, وبها من الغيظ والحقد على المسلمين ما لا يعلمه إلا الله - عزوجل -, وذلك بعد الضربات الموجهة عند آسيا الصغرى على يد السلاجقة المسلمين, ولكنهم ترددوا فى مواصلة على دمشق خوفا ً من نور الدين, وأخيه سيف الدين, وهنا قام قسيس فرنسي عظيم القدر عند لويس السابع – اسمه إلياس – بإفتراء منام كاذب على النبي عيسى - عليه السلام - يعده فيه بالظفر على المسلمين بفتح دمشق, وإعادتها لحكم الصليبين كما كانت أيام هرقل قائد الروم الأشهر, وعندها حميت نفوس الصليبين, وقويت عزائمهم على مواصلة الحملة.

 

تقدمت الحملة الجرارة حتى نزلت بالميدان الأخضر على بعد نصف فرسخ من دمشق, وخاف الناس خوفا ً عظيما ً, وأخرجوا مصحف عثمان وسط صحن الجامع الأموي, واجتمعوا حوله يدعون ويتضرعون, ويبكون طالبين النصر والعون من الله - عز وجل -, وخرج للقائهم مائة وثلاثون ألف مقاتل, وذلك يوم 6 ربيع أول سنة 543 هـ, وكان ممن خرج لجهاد الصليبين العالم الكبير حجة الدين يوسف بن ذي باس الفندلاوي شيخ المالكية بالشام, وكان فى التسعين من عمره, فلما رآه معين الدين أنر  قال له: " يا شيخ إنك معذور لكبر سنك ", وطلب منه العودة؛ فقال له حجة الدين: " قد بعت واشترى مني؛ فوالله لا أقلته ولا استقلته ".  يقصد قوله عزوجل: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) [التوبة: 111].

 

ثم تقدم فقاتل حتى سقط شهيدا ً فى هذه المعركة الرهيبة الطاحنة, التى صمد فيها أهل دمشق صمودا ً عجيبا ً, واستماتوا فى الدفاع عن مدينتهم.

 

وجد معين الدين نفسه فى مأزق خطير, ففتح أبواب المدينة, وطلب المساعدة الفورية من أسد الدين, ونور الدين, فأقبلا كالليوث الغاضبة؛ فلما رأى الصليبيون قدوم المسلمين, وعلموا أن الدائرة ستدور عليهم حاولوا الفرار من ميدان دمشق, فأدركتهم الأسود الهادرة, وأعملت أنيابها الحادة فى أجساد الغزاة الكافرين, وقتل منهم الكثيرون بعدما كادت الحملة أن تنجح فى هدفها وتحتل دمشق, وعاد ملك الألمان وكذا ملك الفرنسيين كلاهما يجر أذيال الخيبة, وقد تجللا بالعار والفضيحة من هول ما لا قوة من هزائم فى أول الحملة وفي آخرها: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) [يوسف: 21].  

 

أهم الدروس والعبر:

 

ضرورة توافر القادة والكوادر التي تحمل الراية وتواصل السعي لنصرة الدين والدفاع عن الأمة ، فلما رحل عناد الدين خلفه نور الدين وهكذا

 

تربص أعداء الأمة الذي لا ينقطع أبدا ومحاولتهم النيل منها كلما حانت الفرصة المناسبة ، وهذا ظاهر من محاولة أهل الرها الاتصال بالصليبيين 

 

أعداء الأمة يقدمون رابطة الولاء والبراء ورابطة الدين علي ما سواها من روابط مثل العروبة أو القومية أو الوطنية ، وهذا ظاهر من استنجاد نصارى الشام بإخوانهم في الدين ـ الصليبيين ـ لنجدتهم من المسلمين.

 

حب الدنيا والمناصب والجاه وغيرها من لعاعة الدنيا وحطامها ، كان السبب وراء معظم الخيانات والنكبات التي وقعت للأمة ، موقف معين الدين أنر من جيش الإنقاذ الإسلامي

 

المتاجرة بقضية الجهاد ونصرة المسلمين مسألة قديمة ، كثيرا ما لجأ إليها أصحاب الأطماع والأغراض الدنيوية ، مثلما فعل معين الدين أنر عندما هدد الصليبيين بالاستنجاد بنور الدين ومن معه إذا لم يرجعوا عن بلاده.  

 

علماء الإسلام الصادقين مثل الشامة علي جبين التاريخ ، وهم أصدق تمثيل وتجسيد لمعاني وحقائق هذا الدين ، فهم العالمون العاملون ، موقف حجة الله يوسف الفندلاوي.

 

 

------------

المراجع:

 

  • الكامل فى التاريخ.
  • الطريق الى بيت المقدس.
  • موسوعة التاريخ الإسلامي.
  • الروضتين فى تاريخ المدينتين.
  • النجوم الزاهرة.
  • وفيات الأعيان.
  • شذرات الذهب.
  • سير أعلام النبلاء.
  • المنتظم.
  • البداية والنهاية.
  • التاريخ الإسلامي.
  • فتوح البلدان.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات