معركة حمص الهائلة وعودة الوعي

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

وصلت أخبار الهجوم التتاري الجديد على الشام للسلطان المنصور قلاوون؛ فكتب إلى ملوك المسلمين بالشام، والحجاز، واليمن؛ يستدعي الجيوش والجنود؛ لمواجهة الزحف التتاري، واشتد الكرب على الناس، وقنت الخطباء والأئمة في الجوامع، واجتمع المصلون في جامع دمشق، ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم، وجعلوا يبتهلون؛ لنصرة الإسلام، ويدعون ويبكون، والتتار يقبلون شيئا ً فشيئا ً.

 

 

 

 

أسباب الانتصار:

 

تعد أحداث هذه المعركة الكبرى درسا ًمن دروس الزمان البالغة الخالدة، التي يجب أن يعيها الكثيرون منا، يجب أن يعيها الذين يفرقون الصف المسلم بشعارات وأفكار من عند أنفسهم، يوالون ويعادون عليها، ويجب أن يعيها -أيضا ً-الذين يحرصون على كراسيهم ومناصبهم الزائلة، على حساب مصلحة الأمة، ويجب أن يعيها هؤلاء الذين يبحثون عن طريق الانتصار الذي عرفه أعداء الإسلام-جيدا ً-فطموه بالحجارة والعوائق؛ حتى لا يسلكه المسلمون فتعود لهم ذاكرة الانتصارات، وأخيرا ً يجب أن يعيه-وبقوة-هؤلاء الذين لا يرون في دراسة تاريخ أمتهم فائدة، ويهيلون التراب على تراثهم؛ لهثا ً وراء الزخارف المستوردة من عند أعدائنا، ووقعاً في حبائل الحاقدين والكارهين للإسلام وأهله.

 

النفق المظلم:

 

بعد أن حقق المسلمون انتصارهم الهائل على جحافل التتار البربرية الهمجية، والتي لم تكن هزمت من قبل، وذلك في معركة عين جالوت الخالدة، سطع نجم المماليك في سماء البشرية-عامةً-والأمة المسلمة خاصةً؛ لأنهم تولوا مهمة إيقاف الانسياح الوحشي للتتار في أرجاء المعمورة كلها، وبرز-يومها-البطل والقائد العظيم سيف الدين قطز (قائد النصر العظيم يوم عين جالوت)، ومن بعده الأمير "بيبرس" الذي حكم مصر، والشام، والحجاز، طيلة عشرين عاما ً. وقف خلالها كالسد المنيع أمام أعداء الأمة من الصليبين والتتار، الذين حاولوا إعادة الكرة على ديار الشام، ولكن الأسد الضاري كان لهم بالمرصاد حتى مات سنة 676 هـ.

 

بعد ذلك بدأت السنن تعمل في هذه الأمة، وبدأت-تدريجيا ً-في الولوج داخل النفق المظلم، نفق الفرقة والاختلاف، حيث تولى بعد بيبرس ولده السعيد، (وكان شابا ً صغيرا ً) لا يصلح للإمارة والملك، وكان ذلك أول الوهن؛ فانشغل السعيد باللهو واللعب، واضطربت أحوال البلاد والمسلمين، وكره ذلك قادة الجند، وأهل الحل والعقد؛ فعملوا على خلعه، فتم ذلك سنة 678 هـ، ولكنهم داووا الخطأ بخطأ مثله، بل أشد؛ لأنهم جعلوا مكانه أخاه الأصغر (سلامش)، وكان في السابعة من العمر!، وتلك هي داهية الدواهي، إذ كيف يكون ولي أمر المسلمين طفلا ً في السابعة؟ وجعلوا له وصيا ً هو الأمير قلاوون الصالحي، الذي شعر أنه من الحمق والسفه؛ أن يكون ولي أمره طفل في السابعة؛ فخلعه، ونصب نفسه مكانه، وتلقب بالمنصور؛ فبايعه الناس والأمراء.

 

عندما جرت تلك الأمور، كان أميرَ دمشق رجلٌ اسمه سنقر الأشقر، وكان من المقربين للظاهر بيبرس، وكان أميرا ً على دمشق وضواحيها من أيام الظاهر بيبرس، فرفض سنقر الأشقر مبايعة المنصور؛ لأنه كان يرى في نفسه أنه أحق بالسلطة من قلاوون الصالحي، فأعلن نفسه واليا ً وسلطانا ً على الشام، وبايعه الأمراء والجند هناك،  وجرت خطوب كثيرة،  وأعد قلاوون الصالحي جيوشا ً كبيرة وأرسلها للشام؛ لمحاربة سنقر الأشقر؛ باعتباره خارجا ً على السلطة الشرعية،  وزاد من الطين بلة؛ انضمام الكثير من الأعراب والبدو لجيش سنقر الأشقر،  وتفاقم الأمر بشدة،  وتقاتل المسلمون فيما بينهم،  وانتصر المصريون على الدمشقيين،  وهرب سنقر الأشقر إلى شمال الشام، واستولى على عدة حصون،  ونقل بها متاعه، وأمواله، وعياله، واستعد لجولة أخرى مع قلاوون الصالحي.

 

ولما دخلت سنة 679 هـ كانت المهزلة على أشدها؛ فقلاوون الصالحي الحاكم على مصر وبعض بلاد الشام،  وسنقر الأشقر حاكما ًعلى دمشق وأعمالها،  ومسعود بن الظاهر بيبرس حاكما ً على الكرك،  وناصر الدين محمد بن تقي الدين حاكما ً على حماة،  ويوسف بن عمر حاكما ً على اليمن،  ونجم الدين بن أبي نمي الحسني حاكما ً على مكة، وعز الدين جماز الحسيني حاكما ً على المدينة،  في حين أن التتار تحكم العراق، وبلاد الجزيرة، وخراسان، وأذربيجان، والموصل، وإربل، وبلاد بكر وما حولها،  وهكذا تمزق جسد الأمة تحت طعان أعدائها وخذلان أبنائها، وهل مثل هؤلاء ينصرون أو ينتصرون؟!.

 

 

النتيجة الحتمية:

 

أثناء هذه الفرقة، والاختلاف، والاقتتال الداخلي بين المسلمين؛ حدث مالم يكن فى حسبان هؤلاء الحريصين على ملكهم ومناصبهم،  والذي كان لابد أن يقع؛ فهو نتيجة حتمية لكل هذا التفرق والخلاف؛ حدث أن استعد التتار المتربصون بالمسلمين للهجوم مرة أخرى على الشام، ومصر؛ فهم لم ينسوا هزيمتهم الفظيعة بعين جالوت، وقد جاءتهم الفرصة عندما سمعوا بتفرق كلمة المسلمين، واقتتالهم فيما بينهم؛ فأقبلوا بجحافل مهولة من العراق للانقضاض على الشام، وقد ظنوا أن سنقر الأشقر سيكون معهم على قلاوون الصالحي، وهكذا يظن-دائما ً- أعداء الإسلام في هؤلاء وأشباههم.

 

لما وصلت أخبار الهجوم التتاري الكاسح على بلاد الشام؛ انجفل الناس من ديارهم خوفا ً وفزعاً من بطش التتار بالمسلمين، فالذكريات الأليمة في أذهان الناس عن فظائع التتار منذ أيام هولاكو مازالت عالقة وحية في القلوب، ومما زاد من خوف الناس تفرق قادة المسلمين وحكامهم، وعدم وجود قوة نظامية موحدة؛ لردع هؤلاء المعتدين.

 

عودة الوعي:

 

عندما وصلت الأخبار للسلطان قلاوون الصالحي–وكان رجلا ً عاقلا ً حكيما ً–؛ أدرك أن سر تقدم التتار ما لمسوه من تفرق كلمة المسلمين، وأن السبيل الوحيد لردع هؤلاء التتار؛ هو توحيد المسلمين، والاتفاق على كلمة سواء أمام العدو، فأرسل المنصور إلى سنقر برسالة يقول فيها: " إن التتار قد أقبلوا إلى المسلمين، والمصلحة أن نتفق عليهم؛ لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم"، وكان سنقر في نفسه عاقلا ً، ولكنه ما أقدم على ما أقدم عليه؛ إلا لظنه في نفسه أنه الأجدر والأحق بالأمر، لذلك لما جاءته رسالة المنصور كتب إليه يقول: "السمع والطاعة واليد الواحدة على عدو المسلمين".

 

استعد المسلمون لقتال التتار، وبرز سنقر من ناحيته ومعه جنوده انتظارا ً لقدوم قلاوون من مصر، وعمت الفرحة المسلمين، واطمأنت قلوبهم وعادوا لديارهم؛ استعدادا ً لقتال جحافل التتار الغازية، فلما علم التتار باتحاد كلمة المسلمين؛ كروا راجعين إلى العراق مرةً أخرى؛ لعلمهم بأن لا طاقة لهم بالمسلمين إذا اتحدوا، وفرح المسلمون بذلك فرحا ًشديدا ً.

 

الحقد الأعمى:

 

هدأت الأمور قليلا ً على الجبهة الشامية، واطمأن الناس عدة شهور؛ لغياب التهديد التتاري، ولكن لم تطل فترة الهدوء كثيرا ً، ذلك لأن القائد العام للجيوش التتارية (منكوتمر بن هولاكو الرهيب) كان شديد الحقد والكراهية للمسلمين، تشرب قلبه الكفر والغل من أبيه التتاري وأمه الصليبية؛ فنشأ لا يطيق أن يسمع كلمة مسلم، أو يرى مسلماً، وتعتمل في قلبه رغبة عارمة للقضاء على دين الإسلام وأهله، في حين أن ملك التتار الأكبر هو ( أبقا بن هولاكو)، وكان رجلا ً عاقلا ً، ولكنه ضعيف أمام سطوة أخيه منكوتمر؛ لذلك فقد أرغم منكوتمر أخاه أبقا بن هولاكو على إعلان الحرب مرةً أخرى على المسلمين بالشام؛ لاستئصال دولة الإسلام بأسرها، رغم معارضة أبقا لتلك الحرب .

 

وصلت أخبار الهجوم التتاري الجديد على الشام للسلطان المنصور قلاوون؛ فكتب إلى ملوك المسلمين بالشام، والحجاز، واليمن، يستدعي الجيوش والجنود لمواجهة الزحف التتاري، واشتد الكرب على الناس، وقنت الخطباء والأئمة في الجوامع، واجتمع المصلون في جامع دمشق، ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم، وجعلوا يبتهلون؛ لنصرة الإسلام ويدعون، ويبكون، والتتار يقبلون شيئا ً فشيئا ً؛ حتى وصلوا إلى مدينة حماة؛ فقاموا بإحراقها وقتل أهلها كعادتهم الشريرة مع كل بلد يدخلونها.

 

كان بالشام كثير من أهل الذمة من النصارى واليهود، وكان لهم-من قبل أيام الحملات الصليبية، والهجوم التتاري الهولاكي الأول-مواقف مخزية، وحقيرة، في التعاون مع الأعداء على المسلمين، الذين كانوا يعاملونهم معاملة حسنة وطيبة لقرون، خاصة موقف النصارى بدمشق سنة 658 هـ، وما فعلوه بالمساجد يوم دخول التتار، كل هذه الخيانات؛ دفعت الملك المنصور قلاوون الصالحي؛ لأن يصدر مرسوما ً بإجبار أهل الذمة العاملين بالدواوين الرسمية؛ باعتناق الإسلام خوفا ًمن غدرهم وخيانتهم للمسلمين لحساب التتار، وقد اعترض العلماء على هذا المرسوم،  وتم إبطاله-فعلا ً-ولكن بعد انتهاء المعركة الرهيبة.

 

المعركة الكبرى:  

 

وصل الجيش التتاري العرمرم الذي يقدر تعداده بأكثر من مائة ألف مقاتل إلى حمص؛ حيث معسكر المسلمين، وجيشهم يقدر بخمسين ألفا ً، وذلك يوم الخميس 14 رجب سنة 680 هـ مع طلوع النهار، ولم يمهل التتار المسلمين شيئا ً؛ حتى بدأوا الهجوم الكاسح بكل قواتهم، وصمد لهم المسلمون صمودا ًبالغا ً؛ فاقتتل الفريقان قتالا ً رهيبا ً لم يسمع بمثله من أيام عين جالوت، وتأرجحت كفة القتلى من فريق لآخر؛  ففي أول النهار؛ استظهر التتار على المسلمين، وكسروا ميسرة الجيش الإسلامي، واضطربت الميمنة-أيضا ً-، وفر كثير من المسلمين من أرض المعركة؛ فقامت مجموعة كبيرة من التتار باتباع الفارين.

 

كان هروب كثير من المسلمين من المعركة موجعا ً، ومؤلما ً على قلوب المخلصين والصادقين من المجاهدين؛ فقام السلطان قلاوون الصالحي؛ فحفز الجند وثبت ثباتا ً عظيما ً-جدا ً-في طائفة قليلة من جنده؛  فلما رأى أعيان الأمراء، والأبطال، والشجعان ذلك الثبات من قائدهم؛ تشجعوا فيما بينهم وأجمعوا أمرهم،  وحملوا عدة حملات متتالية بشدة وبعنف على صفوف التتار؛ فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، والسلطان قلاوون ثابت في مكانه يقاتل كالأسد الضاري، وليس معه إلا القليل، ثم جاء الأمير عيسى بن مهنا أمير العرب بكتيبة من فرسان الصحراء، وصدم الجيش التتاري من ناحية العرض؛ فاضطرب الجيش التتاري لصدمته بشدة، وفر الكثيرون من أرض المعركة فأتبعهم المسلمون يقتلون ولا يأسرون.

 

حدث أثناء القتال ما لم يكن متوقعا ً؛ ذلك أن الفريق التتاري الذي قام بمطاردة المسلمين في أول النهار قد عاد إلى أرض المعركة فوجدوا إخوانهم بين قتيل وأسير وجريح وفار، ووجدوا السلطان قلاوون الصالحي في طائفة قليلة من جنده؛ فطمعوا أن ينالوا ثأرهم من المسلمين بقتل سلطانهم؛ فهجموا بكل قوة وضراوة على كتيبة السلطان، وكلهم حقد وكراهية؛ فثبت لهم السلطان ومن معه ثباتا ً كبيرا ً، وقاتل السلطان قتال الأبطال الكبار؛ فلم يستطيعوا أن ينالوا منه شيئا ً، ورجع الناس إلى سلطانهم، وانتصروا على تلك الفرقة التتارية الحاقدة.

 

ومن المشاهد الرائعة والمؤثرة في القتال؛ هذا الموقف البطولي، الذي قام به أحد أبطال الإسلام: وهو الأمير عز الدين الحاج عندما اخترق صفوف التتار غير مكترث بكثرتها، وخاطر بنفسه من أجل هدف واحد؛ وهو قتل قائد التتار الحاقد منكوتمر؛ حيث قام بقلب رمحه قبل أن يصل إلى مكانه؛ ليوهم أنه لا يريده؛ فلما اقترب منه قلب رمحه في لمح البصر، وطعن منكوتمر فأصابه إصابة بالغة، ولكن لم يقتله، وتكاثر عليه التتار حتى قتلوه-رحمه الله-، وكان-من قبل-ذو همة عالية، وديانة وحرص على طلب الشهادة في موطن؛ حتى نالها في يوم معركة حمص الكبرى.

 

انهزم التتار حتى وصلوا إلى نهر الفرات فغرق أكثرهم فيه، ونزل إليهم أهل مدينة ألبيرة؛ فقتلوا منهم خلقا ً كثيرا ً ، وسرايا الجيش الإسلامي خلفهم يطردونهم عن البلاد؛ حتى أراح الله منهم الناس، وكان من عزم السلطان المنصور: أن يواصل مطاردتهم؛ حتى يردهم عن بلاد الإسلام كلها، ويطردهم من العراق إلى ما وراء النهر، ولكن اختلاف الصف مرةً أخرى-بعد المعركة-حال دون تحقيق هذا الهدف العظيم، أما ملك التتار أبقا بن هولاكو؛ فقد أصيب بالهم والغم الشديدين، وساءه ما جرى-جدا ً-؛ لأن الحرب كانت على غير هواه ورأيه، حتى قتله الهم والحزن في نفس السنة في ذي القعدة سنة 680 هـ .

 

--------

المراجع

  • البداية والنهاية.
  • تاريخ الخلفاء.
  • النجوم الزاهرة.
  • محاضرات في تاريخ الأمة الإسلامية.
  • التاريخ الإسلامي.
  • أطلس تاريخ الإسلام.
  • موسوعة التاريخ الإسلامي.

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات