معركة حطين .. بشارة الفتح العظيم

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

معركة حطين ترجمة عملية وواقعية لكيفية تحقيق الانتصار، وأن الواقع الأليم لن يتغير بين ليلة وضحاها، وأن النوازل العظيمة تحتاج إلى همم كبيرة، وسعي وحد وتواصل كفاح؛ ليتحقق النصر وتنال الأمة حريتها وكرامتها؛ فالنصر لم يكن يوما بجهد فرد واحد أو بإمكانات بطل واحد، بل سعي أجيال ومجهود رجال وصلاح حال، وعندها تنال الأمة حريتها وتستعيد كرامتها ..

 

 

 

 

 

ما أصل الحروب الصليبية؟

نستطيع أن نقول أن أصل الحروب الصليبية يرجع في المقام الأول لكرسي البابوية بروما، وكان أول من فكر في ذلك البابا جريجوري السابع وهو من أصل ألماني، وكان واسع الطموح والنشاط، وقد شجع رهبان دير كلوني - وهو دير كاثوليكي في فرنسا - على الدعوة للمذهب الكاثوليكي، وأعطاهم صلاحيات واسعة لذلك، فنشأت فيه حركة حماس ديني، وتجرد رجاله لنشر النصرانية بين قبائل وسط أوروبا من المجر، وشمالها من الشعوب النورماندية، وأحس البابا جريجوري السابع أن تحت يده قوة يمكن أن يستخدمها لفرض إرادته على الشعوب النصرانية كلها، ونستطيع أن نجمل الأسباب التي أدت لقيام الحروب الصليبية في الآتي:

1- الشخصية الدينية المضطرمة بالحماس والطموح الصليبي الجامح للبابا جريجوري السابع، الراغب في توحيد العالم النصراني تحت قيادته وسيطرته، خاصة بعد وقوع الانشقاق الكبير في الكنيسة سنة 1054 ميلادية، وأدى لانشقاق كنائس المشرق عن كنائس المغرب.

2- معركة ملاذكرد التى انتصر فيها الاتراك السلاجقة المسلمون بقيادة ألب أرسلان على الرومان الرومان البيزنطيين بقيادة رومانوس الرابع عام 463هج / 1071 م، والتي فتحت الطريق لانسياح المسلمين في منطقة آسيا الصغرى، وتكوين ما عرف باسم سلطنة سلاجقة الروم المسلمين، وأخذت هذه السلطنة في التوسع علي حساب الدولة البيزنطية، مما جعل ألكسيوس كومنين إمبراطور بيزنطة يستغيث بالبابا جريجوري عارضاً عليه إخضاع الكنيسة الأرثوذكسية لسلطان البابا، والمذهب الكاثوليكي.

3- هذا السبب الثالث يعتبر عكس السبب الثاني تماماً، فلقد كان على الطرف الآخر من العالم الصراع على أشده بين المسلمين والأسبان بالأندلس، وبدأت كفة ميزان القوى تتحول لصالح النصارى، وتوج هذا التحول في حادثة سقوط مدينة طليطلة التليدة - وهي عاصمة الأسبان القديمة قبل الإسلام - سنة 478 هـ، وقيام ما يسمى في تاريخ الأندلس بحرب الاسترداد الصليبية، مما أدى لاشتعال حماسة وحمية صليبي أوروبا، وتقاطر صليبو فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وغيرهم على إسبانيا للاشتراك في الحرب الصليبية الإسبانية، وكان الملك ألفونسو السادس أول من شارة الصليب على صدره أثناء القتال إعلاناً بصليبية القتال والمعركة مع المسلمين.

4- تضاعف عدد سكان أوروبا خلال القرن العاشر والحادي عشر الميلاديين، وكانت أوروبا فقيرة من حيث الموارد الطبيعية، فاحتاجوا إلى أرض جديدة للتوسع والزراعة، كذلك كان لنظام التوريث في كل من فرنسا وإنجلترا دور بارز في البحث عن أرض جديدة خارج أوروبا، حيث كان لا ينال الثروة، إلا أكبر الذكور، في يحرم باقي الأولاد من الميراث، كما أن الزيادة في عدد السكان أدت لزيادة في عدد الحجاج النصارى لبيت المقدس.

5- الإشاعات والأباطيل التي روجها بطرس الناسك - وهو فرنسي انتظم في سلك الرهبة بعد فشله في الزواج، وخيانة زوجته له، مما دعاه للرهبة والانطواء على نفسه، ثم بدأ في البحث عن دور يشتهر به بين الناس، وكان شديد الحقد على الإسلام والمسلمين - فأخذ في التجول بين في ربوع أوروبا يدعو لحملة صليبية لاسترداد مهد المسيح بزعمه، وتحرير بيت المقدس من المسلمين !، وافترى أكاذيب كثيرة عن اضطهاد المسلمين للحجاج النصارى، واستطاع هذا البطرس الكاذب في إثارة حمية نصارى أوروبا الذين كانوا يضطرمون وقتها بروح دينية عميقة.

مجمع كليرمونت

لم يطل العمر بالبابا جريجوري السابع حتى ينفذ خطته الشريرة، حيث أخذه الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر سنة 479 هـ / 1085 م، وتولى مكانه تلميذه النجيب أوربان الثاني، والذي حاز شرف إطلاق شرارة الحرب الصليبية !ّ وذلك عندما دعى أمراء وفرسان وكبراء أوروبا لمجمع كليرمونت بفرنسا سنة 489 هـ / 1095 م لإعلان الخرب الصليبية المقدسة ! على الإسلام وبلاده، جاء رد فعل الأمراء والكبراء أكبر بكثير مما تصوره أوربان الثاني، وتسابق ملوك وأمراء أوروبا في التطوع للاشتراك في الحملات الصليبة على بلاد المسلمين، بل أسرع بطرس الناسك وقاد الآلاف من العوام النصارى لحملة غير منظمة، وقد انخدع هؤلاء العوام بخطب الناسك الحماسية، وصور لهم بلاد المسلمين أنها كلأ مباح بلا حارس ولا حافظ، وانطلقوا في سنة 490 هـ في الحملة الأولى، والتي عرفت بحملة الرعاع، وقد أبادهم المسلمون السلاجقة عند مدينة قوينة.

جاءت بعدها الحملة الصليبية الثانية - وهي المنظمة والقوية - يقودها أمراء فرنسا وإيطاليا، واستطاعوا الاستيلاء على أجزاء كبيرة من الشام، بما فيها بيت المقدس، والرها، وطرابلس، وأنطاكية، والكثير من المدن الشامية، وكان العالم الإسلامي وقتها منقسماً على نفسه، وأمراء السلاجقة الأتراك يقتتلون فيما بينهم على السلطة، والخليفة العباسي لا حول له ولا قوة، والدولة العبيدية الخبيثة جاثمة على الديار المصرية، وهي متهمة بالتواطؤ مع الصليبين ومكاتبتهم للمجيء لبلاد الشام واحتلالها، ليمنعوا تقدم السلاجقة إلى مصر، حيث كان الأمير أقسيس السلجوقي على وشك فتح مصر، وإسقاط الدولة الشريرة، ومسلمو الأندلس والمغرب منشغلين بالصراع الطويل مع نصارى إسبانيا، وبالجملة لم يكن العالم الإسلامي في وضع يسمح له برد الحملات الصليبية على بلاد الشام.

الأبطال الثلاثة

في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يعاني من حالة متدهورة ومتأخرة من التفكك والتشرذم كان عوام المسلمين وخاصتهم يحلمون بظهور نجم مخلص، الذي سيقود المسلمين، ويوحد الصف، ويحرر المقدسات، ويطهر البلاد من رجز الصليبين و وظهرت بعض الومضات الخافتة في سماء الأمل أبقت في القلوب بعض اليقين بنصر الله، وكانت هذه الومضات ممثلة في شخصية الأمير مودود، والأمير نجم الدين إيلغازي، والأمير آقسنقر, والأمير طغتكين، وكل هؤلاء جهدوا الصليبين، واصطدموا معهم عدة مرات أظهرت أنه ما زال في الأمة بقية من حمية، وأن الأمة ستتمخض قريباً عن أبطال عظام.

بالفعل تمخضت الأمة بعد طول عناء عن الأبطال الثلاثة، ونعني بهم: الامير عماد الدين زنكي: أول من نظم الصفوف، ووحد الجهود، وسار على خطة مدروسة، وخطوات سليمة حتى استطاع أن يتوج جهوده الطويلة التي بدأت منذ عام 526 هـ، وهو العام الذي أسقط فيه أول إمارة صليبية ببلاد المسلمين وهي إمارة الرها، وطهر بلاد الجزيرة الفراتية من الوجود الصليبي، وشعر الصليبون يومها أنهم أمام رجل من طراز فريد غير سابقيه، وصار همهم الأول حفظ ما في أيديهم يعدما كانوا يخططون لاحتلال بلاد الإسلام كلها و ثم جاء من بعده ولده الأمير نور الدين محمود: الذي يعتبر مجدد شريعة الجهاد في القرن السادس الهجري، وأفضل أمراء هذا الزمان، والذي استطاع أن يرد الحملة الصليبية الثالثة، التي كانت تهدف لاحتلال دمشق، واستولى على خمسين مدينة وحصن وقرية، واستطاع أن يسقط الدولة العبيدية الشريرة على يد تلميذه النجيب صلاح الدين الأيوبي، وهو البطل الثالث، وفارس الميدان المقدم، ورجل الساعة الذي حاز الشرف كله، وجنى ثمار سعي وكد من سبقوه، وهو معهم.


توحيد الصف المسلم

بعد أن مات الأمير الكبير الشهيد نور الدين محمود سنة 569 هـ -كان وقتها صلاح الدين الأيوبي حاكماً على مصر بعد أن سقطت الدولة العبيدية الشريرة- كان نور الدين محمود يمنع أي مظهر من مظاهر الخروج على شرع الله عز وجل، ومنع كل المنكرات في بلاد الشام، وأظهر السنة، وقمع البدعة، وقضى على كافة العصاة والمفسدين، وذلك لعلمه أن الصف المسلم إذا أراد أن ينتصر على عدوه فلابد أولاً أن ينتصر على الشيطان، ويرضي الله عز وجل عنه باتباع القرآن والسنة، ونصرة دين الله، فينزل نصر الله وقتها على الصف المسلم، وكانت هذه السيرة الحميدة تضايق أرباب المعاصي والفواحش الذين لم يجرءوا على الظهور بمعصية طالما أن نور الدين حي على ظهر الأرض، فلما مات نور الدين ظهر الفساد في الأرض، وأظهر العصاة ما طالما استخفوا به، حتى إن أخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل لما تحقق من موته -وكان كارهاً لنور الله- نادى مناديه في مدينة الموصل بالمسامحة باللهو واللعب والشراب والطرب، ومع المنادي دف ومزمار، لسان حال العصاة والسكارى والزواني، كما قال الشاعر:

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر *** ولا تسقني سراً وقد أمكن الجهر

وعنده طمع الصليبون في استعادة ما سبق وحرره نور الدين منهم، وعزموا على الهجوم على دمشق، فهادنهم أمراء الشام، ودفعوا لهم أموالاً ضخمة حتى يرجعوا عنهم.

((وهذا يوضح لنا حقيقة هامة جداً: وهي أن المعاصي والذنوب من أهم أسباب تسليط الكفار علينا، وأن المسلمين طالما كانوا متمسكين بدينهم وشرعهم فلن يجد الكافرون والأعداء عليهم سبيلاً، ويبين لنا أيضاً مدى حقيقة الهجمة الإفسادية الشرسة التي قام بها العدو على قلوب وعقول ونفوس المسلمين، قبل غزوهم ميدانياً وواقعياً، فالبث المباشر، وبيوت الأزياء، ومسابقات ملكات جمال العالم، والأفلام، والمسلسلات الخليعة، والدش، والقنوات السرية، والاختلاط، والموضة، وروايات الغرام، ودعاوى التحرر، والانحلال الخلقي، والمحافل الماسونية التي تروج للفاحشة، والأفلام المأجورة، والشخصيات العميلة، وتقليد الغرب، والانفتاح على عوايد الغرب، وغير ذلك كثير كان السبيل الأول لتمهيد الطريق لاحتلال بلاد الإسلام، فهل يعتبر المسلمون؟ !)).

أثارت تلك الجزية التي دفعها أمراء دمشق الناصر صلاح الدين، وكتب إليهم يلومهم على ذلك، فردوا عليه رداً شنيعاً أظهر مكنون صدورهم، ومدى حقدهم على ما وصل إليه صلاح الدين من مكانة وقيادة في العالم الإسلامي، وشعور صلاح الدين بخطورة الوضع على الجبهة الشامية، وأن مجهودات كل من سبقوه: ابتداء من الأمير مودود، وحتى الأمير نور الدين محمود ستذهب أدراج الرياح، وسيعود الصليبيون لاحتلال ما حرره المسلمون من قبل بسبب حفنه من الأمراء الفاسدين، الذين لا يصلحون في تلك الفترة الهامة من حياة الأمة؛ فقرر التوجه لتوحيد الصف المسلم هناك، والقضاء على الفتنة الناشئة فيها بسبب أمراء السوء، واختلاف الآراء وظهور المنكرات والفواحش.

((وعادة الدنيا تكون مراء كثير من الابتلاءات والمصاعب التي واجهت تلك الأمة، وطالما أن الصف ليس على قلب رجل واحد فالنتيجة الحتمية هي الفشل، كما قال الحق في محكم التنزيل: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) [آل عمران:152]، وهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا حقيقة هامة، ودرساً غالياً، فيقول لنا: " فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه ورواه أيضاً الترمذي والنسائي وابن ماجه)).

أجمع الناصر صلاح الدين على ضرورة توحيد الصف المسلم في الشام ومصر، ورأى ضرورة ترتيب البيت من الداخل قبل التفرغ لجهاد الصليبين، وبالفعل بدأ أولاً بدمشق لأهميتها، وكونها حاضرة الشام وما زالت مطمعاً لهجمات الصليبين، وبالفعل دخلها سنة 571 هـ، وسار في أهلها سيرة حسنة مثل أيام الشهيد نور الدين محمود، ثم توجه بعدها إلى مدينة حلب، وهناك واجه متاعب كثيرة، ذلك لأن معظم أهل حلب من الشيعة الروافض الذين يتحرقون غيظاً وحقداً على الناصر صلاح الدين الذي أزال دولة الروافض الخبيثة في مصر: دولة بني عبيد يهودية الأصل، واستغل الأمراء الطامعون ذلك فحرضوا أهل حلب على مقاومة صلاح الدين، واشترط أهل البلد -الروافض- إظهار شعائر الرفض: من الأذان بحي على خير العمل، وأعياد عاشوراء، إلى غير ذلك، ووافق الأمراء الطامعون على كل هذه البدع المخالفة من أجل التصدي للناصر صلاح الدين، ولكن هيهات تلك الطغمة الفاسدة أن تقف أمام سيوف الحق والعدل، ولما عجز أهل البلد عن مقامته لجأوا إلى الخيانة والمؤامرة، فاستأجروا بعض الباطنية -وهم فرقة من السلاجقة يشبهون الروافض في كثير من المعتقدات، وبينهم توافق وتناصر قديم وحديث- وذلك لاغتيال الناصر، ولكنهم فشلوا وعندما راسلوا أمير طرابلس الصليبي، ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم صلاح الدين، ولكنه رفض.

((وهكذا نرى مدى عداوة فرق الشيعة الروافض -على اختلاف أنواعهم- لأهل السنة عموماً والمجاهدين خصوصاً، وقد كانت في التاريخ قديماً وحديثاً الكثير من المواقف التي توضح مدى التعاون الوثيق بين الشيعة وبين أعداء الإسلام؛ فمن الذي أدخل التتار بغداد حتى أسقطوا الخلافة العباسية، وأحرقوا بغداد بمن فيها؟ إنهم الشيعة.


من الذي تعاون مع البرتغاليين الصليبيين ضد العثمانيين المسلمين، وسهلوا لهم احتلال الجزيرة العربية؟ إنهم الشيعة، ومن الذي أصدر الفتوى الشهيرة بعدم التصدي والمقاومة للهجوم الأمريكي على العراق مؤخراً؟ إنهم الشيعة، ومازالت المؤامرة مستمرة)).


بعد محاولات مضنية استطاع الناصر صلاح الدين أن يأخذ حلب ويزيل منها شعائر الرفض والبدع المغلظة، وبعدها انتقل إلى حماة التي دخلت طوعاً تحت قيادة الناصر، من بعدها انتقل إلى مدينة الموصل -وكانت مثل الحانة من كثرة الخمور والفواحش والمنكرات بها- وقد حاول أمير الموصل سيف الدين غازي مقاومة صلاح الدين، وحشد الجيوش لحربه، ولكن أنى لأمثال هؤلاء الفاسدين والطماعين بالانتصار.

وواصل صلاح الدين رحلته الشاقة في توحيد الصف المسلم بالشام حتى تحقق له ما أراد سنة 578 هـ، وبعدها قرر الناصر توجيه كل همه لقتال الصليبين لتحرير بيت المقدس وباقي البلاد والمدن المحتلة.

أرنولد... الكلب الصليبي

كان الصليبون منذ الحملة الصليبية الثانية قد أقاموا لهم ثلاث إمارات صليبية كبيرة: وهي إمارة الرها، وقد استعادها المسلمون سنة 539 هـ أيام عماد الدين زنكي، وإمارة طرابلس، ويحكمها أمير مشهور من أدهى وأعتى المحاربين الصليبين، ولكنه على خلاف واسع مع باقي الأمراء الصليبين بالشام، وهذا الخلاف جعله يتصالح مع صلاح الدين، ويتحالف معه ضد باقي الصليبين.

وإمارة أنطاكية وهي بعيدة نسبياً عن الشام؛ حلب، مملكة بيت المقدس ويحكمها ملك كل الصليبين جودفري، هذا غير الكثير من المدن والقلاع والحصون التي استولى عليها الصليبيون، واستوطنوها وتوارثوها، وكان من أشد هؤلاء الصليبين حقداً وحسداً وكيداً للإسلام والمسلمين الكلب الصليبي المجرم أرنولد أمير الكرك، وهو فرنسي الأصل، صليبي حتى النخاع، مليء كفراً وكراهية ضد المسلمين حتى حشاشته، وكان هذا الكلب الصليبي صاحب فكرة شيطانية -لا تخطر على بال إبليس نفسه- حيث حاول قطع الطريق على قوافل الحجاج براً وبحراً، تمهيداً لاحتلال المدينة النبوية، ونبش القبر الشريف، ولم يكن الناصر صلاح الدين ليخفى عليه أمثال تلك الأطماع الصليبية، فيأمر القائد حسام الدين لؤلؤ أمير البحر بإعداد الأساطيل اللازمة لصد محاولات أرنولد الشريرة، وينجح لؤلؤ في ذلك لكن الصليبي الحاقد أرنولد يأخذ قافلة من حجيج أهل مصر، فينهب أموالهم، ويقتلهم جميعاً، وهو يضحك قائلاً: أين محمدكم؟ دعوه ينصركم. وعندما علم الناصر صلاح الدين -وكان وقتها مرضاً بشدة- فنذر لله عز وجل إن شفاه الله من مرضه ليقتلن هذا الكلب الصليبي بيده.

صيحة الجهاد المقدس

بعد أن تأكد الناصر صلاح الدين من وحدة الصف المسلم وسلامته من العناصر الفاسدة التي تعمل لصالحها الخاص، ولا يهمها صالح الأمة المسلمة، وبعدما تأكد الناصر صلاح الدين أن المسلمين أصبحوا على استعداد تام لتحمل مسئولية رحلة طويلة وشاقة من الجهاد ولتحرير المقدسات والبلاد الإسلامية من الأسر الصليبي - عندها أطلق الناصر صلاح الدين صيحة الجهاد المقدس، واستدعى الجنود المصرية والحلبية والحمصية والجزيرية والشامية، واستعد الجميع لحرب طويلة وحاسمة مع الصليبين بالشام، ورغم ذلك لم يتجاوز عدد الجيوش المسلمة أكثر من اثني عشر ألفاً فقط، ولكنهم على قلب رجل واحد.

((لم تكن الكثرة يوماً هي العنصر الحاسم في القتال ولقد خاض المسلمون من قبلُ معارك هائلة مع جيوش عددها أكثر من عشرين أو ثلاثين، وأحياناً سبعين ضعفاً -كما كان يوم مؤتة- ومع ذلك انتصر المسلمون بفضل الله. فإن العنصر الحاسم والحقيقي في القتال هو الإيمان الذي يقر في القلوب وكلما ازداد الإيمان كلما قرب النصر وسهل، ولم يقم من الخلق أحد لأهل الإيمان ولما أهمل المسلمون هذا الجانب، وهذا السلاح الخطير لم تغن عنهم كثرتهم من الله شيئاً، ووقع بهم ما كانوا يكرهون)).

تحالف الخصماء

لما تسامع الصليبيون بالشام باستعداد الناصر وجنوده لرحلة الجهاد المقدس ضدهم اجتمعوا فيما بينهم، وتشاوروا فيما العمل؟ وكان أكثرهم حماسة ونشاطاً -بالقطع - الكلب الصليبي أرنولد أمير الكرك، خاصة أن الناصر صلاح الدين قد قرر بدء رحلته الجهادية بحصار مدينة الكرك؛ لمعاقبة كلبها العقور أرنولد، وكان الصليبيون متخاصمين فيما بينهم وكان الخصام على أشده بين أرنولد أمير الكرك وريموند أمير طرابلس؛ لتحالفه مع صلاح الدين ومهادنته له، واستطاع أرنولد إقناع باقي أمراء الصليبين بالضغط على ريموند عن طريق التهديد الديني، فأرسلوا إليه بطريرك القدس والقساوسة والرهبان، وهدده البطريرك أنه سيفسخ زواجه، ويحرمه من دخول الجنة! إلى غير ذلك من التهديد والوعيد، وبالفعل أذعن ريموند لذلك التهديد، واعتذر وتنصل، وتاب، فقبلوا عذره وغفروا زلته، وانضم إلى تحالفهم ضد المسلمين، وأصبح تعداد جيشهم الصليبي أكثر من ستين ألفاً، ولمزيد من التأييد المعنوي لهذا الجيش الصليبي اصطحبوا معهم الصليب المقدس - الذي يزعمون أنه الذي صلب عليه عيسى عليه السلام - وهذا أمر باطل يقيناً.

((ومرة أخرى يعطينا أعداء الإسلام درساً جديداً، ومثلاً من أمثلة كثيرة عبر التاريخ تكررت في حتمية الإتحاد، ولم الشمل، ونبذ الخلافات جانباً حال التصدي للعدو؛ فهل فقه المسلمون هذا الكلام؟)).

حرب الماء

اجتمعت الجيوش الصليبة في عكا، منها صارت إلى صفورية، وعندما وصلت الأخبار إلى صلاح الدين عقد مجلساً استشارياً على مستوى قادة الجيش وأمرائه للتشاور في كيفية إدارة هذه المعركة المصيرية، واتفقوا في النهاية على حتمية الهجوم الشامل بكل الجيش على الصليبين، مع تطبيق تكتيك قديم للسيطرة على مجريات القتال: هذا القتال هو حرب الماء، والذي يقوم على السيطرة على بحيرة طبرية والتي تعتبر مصدر الماء العذب الوحيد للمعسكر الصليبي في صفورية، وكان الهدف من وراء هذا التكتيك إخراج الصليبين من مكانهم بصفورية؛ ليتمكن المسلمون من قتالهم عند سهل حطين، ذلك لأن صفورية ضيقة لا تصلح كميدان قتال، خاصة بالنسبة للمسلمين الذين يتميزون بالقتال في المناطق المفتوحة لخبرتهم الطويلة والشهيرة في حرب الصاعقة بالكر والفر.

وبالفعل هجم المسلمون على مدينة طبرية التي لم تكن بها مقاومة كبيرة؛ لانضمام الصليبين بها للتحالف الصليبي بصفورية، واحتلوها في سنة 23 من ربيع الثاني سنة 583 هـ، وقاموا بإحراق مخازن العتاد والمؤن في المدينة؛ حتى لا ينتفع بها الصليبيون بعدها، وأحكموا قبضتهم على البحيرة ومنعوا اقتراب الصليبين منها، وكانوا قد نفد ما عندهم من مياه الصهاريج، واستبد بهم العطش، خاصة أن الجو شديد الحرارة بفعل قيظ الصيف اللافح، وكانت طبرية ملكاً لزوجة الأمير ريموند أمير طرابلس المصطلح حديثاً مع باقي الصليبين، فوقع منه استيلاء المسلمين على طبرية أسوأ موقع، وحاول إثناء عزم التحالف الصليبي عن مواصلة القتال مع المسلمين، وخوفهم من عواقب هذه المعركة بعد أن استبان قوة وعزم الناصر صلاح الدين هذه المرة على قتال الصليبين، والحماسة الشديدة عند وجود المسلمين، ولكن شيطان الصليبين أرنولد وقف لهذه المحاولات بالمرصاد، وقال لريموند: قد أطلت علينا في التخويف من المسلمين، ولا شك أنك تريدهم، وتميل إليهم، وإلا ما كنت تقول هذا، وأما قولك: إنهم كثيرون؛ فإن النار لا يضرها كثرة الحطب، فقال ريموند: أنا واحد منكم، إن تقدمتم تقدمت، وإن تأخرتم تأخرت، ولكن سوف ترون ما يكون؛ فعندها قوي عزم الصليبين على قتال المسلمين، وخرجوا جميعاً من معسكرهم بصفورية، وهذا عين ما قصده صلاح الدين.


معركة حطين

برز الناصر صلاح الدين هو وجنوده يوم الجمعة 24 من ربيع الثاني سنة 583 هـ، وصف جيشه استعداداً للقاء الدامي في صبيحة يوم السبت، وقد جهز الجاليشية -رماة السهام- تجهيزاً خاصاً، إذ كان سيعتمد عليهم بصورة كبيرة في القتال، وذلك لفارق العدد بين الجيشين، وفي يوم السبت 25 من ربيع الثاني سنة 583 هـ، الموافق 4 يوليو سنة 1187 ميلادية برز الجيشان، وقد طلعت الشمس في وجوه الصليبين، واشتد عليهم الحر وأطلق سلاح الجاليشية سهامهم كالجراد المنتشر من كثافتها، وانقضت كرجوم السماء الغاضبة على شياطين الإنس، فقتل كثير من خيل الصليبين، وتحول معظم فرسانهم للقتال على الأرض، وكان أول وقود المعركة شاب صغير من أبطال المسلمين مرق كالسهم بين صفوف الصليبين يضرب يميناً وشمالاً، وهو يقاتلهم قتالاً عجيباً لا يتناسب مع صغر سنه، وكثافة من يقاتل واستمر هكذا حتى تكاثر عليه الصليبيون وقتلوه شهيداً، وعندها اندلعت شرارة الحمية الإسلامية، وصاحوا جميعاً بأعلى صوت الله أكبر، وهاجموا كالأسود الضواري على صفوف الصليبين، وكسروهم كسرة فظيعة.

كان وقت القتال في أوج حرارة الصيف وشمسه المحرقة، وكانت أرض المعركة مليئة بالحشائش الجافة، فأمر الناصر صلاح الدين بإلقاء النار على هذه الحشائش، فاشتعلت بصورة سريعة وكبيرة جداً فاجتمع على أعداء الإسلام من الصليبين: حر الشمس، وحر النار، وحر العطش الشديد لفقد الماء، إضافة لحر جهنم إن شاء الله يوم القيامة، ولما رأى الأمير ريموند هذا الأثر أيقن بالهزيمة التي سبق وأن تنبأ بها، ففارق أرض القتال، وقد سمح له صلاح الدين بالفرار؛ لأن مثله إذا حوصر يقاتل باستماتة، ولا يموت حتى يقتل من المسلمين، وفي فراره هزيمة نفسية، وانهيار مروع لمعنويات الجيش الصليبي وهذا ما تم بالفعل.

((وهذا يدل على مدى فقه الناصر صلاح الدين وهبرته العسكرية والنفسية الكبيرة، وإلا لا يقدم على هذا العمل إلا أعقل الناس وأفقههم)).

لما فر الأمير ريموند من أرض المعركة أسقط في أيدي الصليبين، وكادوا أن يستسلموا، فلما تزامروا فيما بينهم، وعلموا أنهم لا ينجيهم من الموت إلا الإقدام عليه، فحملوا على المسلمين عدة حملات متكررة بقوة وحنق، وكادت أن تزيل المسلمين عن مواقعهم لولا لطف الله عز وجل بالمسلمين، وكان الناصر صلاح الدين على فرسه يحرض المسلمين على القتال والثبات، ولم يستطع الصليبيون نصب خيامهم إلا خيمة ملكهم الكبير جودفري، وظل الصليبيون يقاتلون بمنتهى القوة إلا أنه كان للمسلمين اليد الطولى في القتال، وظلوا هكذا حتى استطاع المسلمون الاستيلاء على صليبهم الأعظم صليب الصلبوت، فكان أخذه عندهم من أعظم المصائب عليهم، وأيقنوا بعده بالقتل والهلاك، وانحاز مائة وخمسون فارساً من الفرسان الكبار للدفاع عن ملك بيت المقدس جودفري، والذي كان وقتها في خيمته على رأس تل بسهل حطين.

كان العطش من أقوى الأسلحة التي تفتك بالصليبين؛ إذ بقوا ليومين بلا ماء للشرب، وحملات المسلمين مستمرة عليهم، مما دفعهم للتخلي عن خيمة جودفري التي وقعت بيد المسلمين الذين أخذوا كل من فيها أسرى، وكان فيهم جودفري، وأرنولد، ورئيس فرسان المعبد الداوية، ودارت خيول المسلمين على الصليبين، وأحاطوا بهم كالسوار على المعصم، والدائرة بقطرها حتى قتل منهم ثلاثون ألفاً، وأسر منهم ثلاثون ألفاً، ولم يفلت منهم أحد، وكان من رأى القتلى قال لم يأسروا واحداً، ومن رأى الأسرى قال لم يقتلوا أحدا، حتى أن الجندي المسلم كان يقود بمفرده بضعة وثلاثون أسيراً وكان المسلم يبيع أسيره الصليبي بنعل يشتريه ليلبسه، وأصلح آخر نعله بأسير، وجرت أحوال مباركة لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين.

((وها هو ما نعنيه بالضبط من هذا الكلام، فالحقيقة الهامة التي نريد أن نستخرجها من هذا الموقف: أن أمة الإسلام إذا أفاقت من غفلتها، وقامت من كبوتها، ورفعت راية الجهاد من جديد، ونصرت دين الله، وسنة رسوله؛ فإن الله عز وجل يعيد لها ما سلب منها، وما أخذ من كرامتها وأرضها وعزها، وهذا ما حدث مع المسلمين بالشام وقتها، فإن الصليبين لما دخلوا الشام كان المسلمون متفرقين ومختلفين: الدنيا همهم، والمال هدفهم، الدين أضاعوه، والمصحف نحّوه، والحق تركوه، فسلط الله عز وجل عليهم عدوهم، ولما أفاقوا ونهضوا، وعادوا، واتبعوا الشرع، واتحد الصف أعاد الله لهم كل ما كان لهم وزيادة، ونصرهم على عدوهم، ورفع شأنهم، أقبلت أيام سعدهم التي غابت الآن عنا)).

نهاية عدو الله

لما تمت الواقعة، ونزل النصر على المسلمين جلس الناصر صلاح الدين على سريره، وأمر بضرب أعناق فرسان المعبد المعروفين بالداوية، وكانوا من أشد الناس عداوة للمسلمين، وأنكاهم في الحرب والقتال، ثم استدار الناصر إلى عدو الله أرنولد: الكلب الصليبي -أخبث الأعداء- وقام إليه للوفاء بنذره أن يقتله بيده، وتحول من خيمته تلك لأخرى، وأحضر أرنولد، وقبل أن يقتله دعاه للإسلام، فأبى الخبيث وامتنع، وأصر على كفره؛ وإن أزهقت روحه، فقام إليه صلاح الدين وقال له: نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته، ثم قتله، وأرسل برأسه لباقي ملوك الصليبين في الخيمة الأولى، فارتعدت فرائصهم، وأيقنوا الهلاك، ولكن الناصر عرفهم أن أرنولد قد سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جزاؤه.

كان هذا الفتح العظيم إشارة وتقدمه للفتح العظيم والأكبر، يوم عودة بيت المقدس للمسلمين بعد ذلك بعدة شهور، تتويجاً لرحلة الناصر صلاح الدين الجهادية المباركة.

 

 

 

 

 

 

ـــــــــــــــ
المراجع
1. الكامل في التاريخ
2. النجوم الزاهرة
3. المنتظم
4. الطريق الى بيت المقدس
5. سيرة صلاح الدين الأيوبي
6. البرق الشامي
7. موسوعة التاريخ الإسلامي
8. أيعيد التاريخ نفسه؟
9. البداية والنهاية
10. الروضتين في تاريخ الدولتين
11. محاضرات الخضري
12. التاريخ الإسلامي 
 

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات