معركة جلولاء (أرض الموت)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

ومما زاد الطين بلة-بالنسبة للفرس-أن خيولهم قد وقعت في شراك حسك الحديد الذي نصبوه-أصلاً-لخيل المسلمين، وتعطلت خيولهم عن الحركة، واضطروا لأن ينزلوا من على ظهورها؛ ليقاتلوا مشاةً، وكان هذا أوان هلاكهم، حيث طحنهم المسلمون طحناً شديداً، وأفنوهم بالكلية، حتى بلغ قتلى الفرس مائة ألف قتيل، وجللت جثثهم الساحات أمام المدينة، حيث صارت أكواماً، ولذلك سميت المدينة جلولاء؛ لما جللها من قتلاهم، وقد صارت أرضاً للموت لسنين طويلة.

 

 

 

 

لو يعلم أهل الإسلام، وكل من انتسب للأمة الإسلامية كم الغيظ و الحسد و الكراهية المتأججة فى قلوب أعداء الإسلام تجاههم، لو يعلم كل المسلمون ما يشعر به الأعداء،  وما تعتمل عليه  قلوبهم، وتحمله  نفوسهم ضد المسلمين؛ لم يغفلوا لحظة واحدة عن مخططات وكيد أعدائهم، فإن هؤلاء الأعداء على استعداد تام للقتال حتى الموت، وترك كل عزيز، وكل متاع الدنيا؛ من أجل القضاء على الأمة الإسلامية، وأحداث التاريخ مليئة بالمواقف التى تذامر فيها أعداء الإسلام، واستوثقوا فيها على الثبات حتى الممات من أجل حرب الإسلام , وإطفاء نور الله-عز وجل-.

 

الغيظ يجمع الفلول:

 

بعد أن حقق المسلمون انتصارهم المدوي على جيوش الفرس المدافعة عن المدائن (عاصمة الإمبراطورية الفارسية)، حتى سقطت بيد المسلمين؛ أصيب الفرس بهزيمة نفسية مروعة، وأوشكت شمس الإمبراطورية على المغيب، وانهارت معنويات القادة الفرس، والذين طالما انتصروا على الروم والعرب وغيرهم، وهم الآن يترنحون تحت الضربات الصاعقة للأمة الجديدة: أمة الإسلام، وتمزقت الجيوش الفارسية، وانطلقت تهيم على وجهها، لا تهتدي إلى سبيل ولا يلم شتاتها زعيم.

 

وبينما فلول الفرس المنهزمة من المدائن والأهواز وغيرها،  متفرقة في  ربوع العراق – على حدود إيران و العراق –؛ ظهر قائدان من قادة الفرس الكبار، الذين ذاقوا مرارة الهزيمة فى القادسية والمدائن: وهما القائدان ( مهران الرازي)، والقائد (الهرمزان) ملك الأهواز، وكانت قلوبها تشتعل ناراً ضد المسلمين؛ فقررا أن يعملا على تجميع الفلول الفارسية المنهزمة، واختارا مدينة (جلولاء)-وهي الآن على بعد مائة وخمس وثمانين كيلو مترا من بغداد، وتتبع -إدارياً-محافظة ديالى- مكاناً للتجميع، وكانت تلك المدينة ذات موقع استراتيجي جيد، وكانت جيدة التحصين، وقد قام مهران الرازي فيهم خطيباً فقال: " لو افترقتم لم تجتمعوا أبداً، وهذا مكان يفرق بيننا، فهلموا فلنجتمع للعرب به ونقاتلهم، فإن كانت لنا؛ فهو الذي نحب، وإن كانت الأخرى؛ كنا قد قضينا الذي علينا، وأبدينا عذراً ".

 

(هذا الكلام يشبه-لحد كبير-ما يقوله أعداء الإسلام فى كل وقت، فهذا هو الرئيس الأمريكي (بوش) يخطب فى شعبه قائلا: "إن الرب قد اختارنا لنقوم بواجبنا المقدس نحو تحرير الشعوب، ونشر مبادئ العدل والتسامح ". ومهران-من قبل ذلك-يقول: "كنا قضينا الذي علينا"، فأعداء الإسلام-قديما وحديثا-يرون أنهم مكلفون من قبل الله -عز وجل– بزعمهم – لحرب الإسلام والمسلمين، والقضاء على الأمة الإسلامية، ويرون أن هذا هو واجبهم المقدس، الذي يجب أن يؤدوه مهما كلفهم ذلك، وحتى آخر قطرة من دمائهم).

 

أرسل مهران الرازي إلى كسرى (يزدجرد) يطلب منه التفويض فى قيادة فلول الجيوش الفارسية، وطلب منه الإمدادات: من الرجال، والأقوات، وقام مهران بتحصين المدينة بأساليب جديدة منها: حفر خندق كبير وعميق، وزرعوا حول المدينة حقولاً من حسك الحديد؛ لإعاقة خيل المسلمين إذا ما أرادوا اقتحام المدينة، وزودوا المدينة بكل متطلبات الصمود الطويل فى وجه أي حصار إسلامي مهما كانت قوته.

 

 وصية الخليفة:

 

رفعت المخابرات العسكرية الإسلامية أخبار تجمع الفرس فى جلولاء للقائد العام فى العراق سعد بن أبي وقاص، والذي كتب-بدوره-إلى الخليفة عمر بن الخطاب يعرفه الأمر، خاصة وأن سعداً لم يكن عنده أوامر بمواصلة الزحف بعد فتح المدائن، من القيادة العليا، وهذا هو قمة الانضباط العسكري والتنظيمي، ولا تنجح الجيوش والأعمال إلا بمثل هذا الانضباط، والطاعة الراشدة، فجاء الجواب من الخليفة عمر بن الخطاب بالموافقة على تسيير جيش مسلم، يقوده البطل المغوار: هاشم بن عتبة الملقب (بالمرقال)، ومعناها (سريع الحركة)، يقال جمل مرقال أي (سريع الحركة)، ويقصد به (الشدة والسرعة في الانقضاض على الأعداء) على أن يكون مقدمة الجيش فارس الإسلام الأول في العراق: القعقاع بن عمرو، و أن يكون تعداد الجيش اثني عشر ألف فارس، وهم بمثابة رأس الحربة للجيوش الإسلامية بالعراق، والتي يبلغ تعدادها الستين ألفا.

 

( الانضباط والنظام خير دليل على أن حركة الفتح الإسلامي؛ لم تكن عملاً عشوائياً؛ لتفريخ الطاقات أو السلب، والنهب، أولإرغام الناس على اعتناق الإسلام، كما يقول المستشرقون، بل كانت خطة متكاملة، واضحة المعالم والأهداف والمراحل والخطوات، وكان الخلفاء أحرص الناس على سلامة المسلمين، ووضع الضوابط التي تحفظهم من التهور والاندفاع والهلاك، لذلك عاقب الخليفة أبو بكر الصديق القائد العلاء الحضرمي تارةً، وخالد بن سعيد تارةً، وعكرمة بن أبي جهل تارةً؛ لأنهم قد خالفوا الأوامر الصريحة أثناء حروب الردة، وأقدموا على القتال دون الرجوع للخليفة، وهكذا يكون النظام والنجاح)

 

صبر المجوس:

 

تحرك هاشم المرقال  بجيشه  الصغير – اثني عشر ألفاً – بمنتهى السرعة من المدائن إلى جلولاء؛ فوصلها في أربعة أيام فقط، فوجد أن الفرس قد بالغوا فى تحصين المدينة؛ حتى أصبحت أحصن مدينة واجهها المسلمون في العراق، كما لمس هاشم الاستماتة الدفاعية الكبيرة،  وأن القائد مهران الفارسي–على ما يبدو–قد صار هو الأمل الأخير عند الفرس، حيث قتل خيرة قادة الفرس فى المعارك السابقة، كما أن قائد فرسان المدينة هو (خرازاذ) أخو القائد الفارسي الكبير رستم،  وهو الموتور بمقتل أخيه فى القادسية بسيوف المسلمين، كما أن طريق الإمدادات مفتوح على مصراعيه للجيوش الفارسية بالمدينة من ناحية الشمال .

 

ضرب المسلمون حصاراً شديداً على المدينة، فقاوم المجوس مقاومةً باسلةً نادرةً، وعنيدةً، حتى طالت فترة الحصار إلى  ما يزيد على سبعة شهور–وهي أطول مدة قضاها المسلمون فى حصار مدينة بالعراق–وكان المجوس كلما سنحت لهم الفرصة؛ خرجوا من المدينة بأعداد كبيرة، وهجموا على المسلمين؛ أملاً فى كسر حصار المدينة، وربما دفعهم غرورهم إلى التفكير في هزيمة المسلمين، وإخراجهم من العراق، حتى  أنهم قد زحفوا على  المسلمين-أثناء هذا الحصار-ثمانين زحفاً، ولكن صلابة وقوة المسلمين أنستهم ذلك كله، ولما طال الأمر؛ طلب قائد الجيش هاشم المرقال من القائد العام سعد بن أبي وقاص؛ إرسال إمدادات جديدة للمسلمين، فأرسل إليه ثلاث كتائب؛ تضم أشهر وأقوى فرسان الإسلام: أمثال طليحة الأسدي، و عمرو بن معدي كرب، وقيس بن مكشوح، وغيرهم من الأبطال الذين يعد الواحد منهم بألف.

 

 القتال الأخير:

 

لما رأى القائد الفارسي مهران ثبات المسلمين، وأنهم لن ينصرفوا عن المدينة، مهما حاول الفرس منعهم؛ اجتمع مع قادة جيشه، وتشاور معهم فيما يفعلون مع جيش المسلمين؛ فأجمعوا الرأي على أن يخرجوا بكامل قواتهم–والتي هي أكثر من خمسة عشر ضعف قوة المسلمين –يخوضوا القتال الأخير معهم فى صورة الهجوم الكاسح على قسمين: قسم يحارب، والآخر يستريح، ويتم التبادل بينهما حتى يرهقوا المسلمين فى قتال مستمر.

 

وفى صباح يوم الأحد 15 ذي القعدة 16 هـ خرج الفرس بأعداد ضخمة، وأنشبوا القتال مع المسلمين بصورة في منتهى الضراوة، وقد فوجئ المسلمون بهذا الهجوم الكاسح؛ فقام القائد هاشم المرقال وخطب فى المسلمين قائلا: "إن هذا المنزل منزل له ما بعده؛ فأبلوا لله بلاءً حسناً؛ يتم لكم الأجر والمغنم واعملوا لله ". وكانت هذه الكلمات القصيرة كفيلة بإلهاب حماس المسلمين، والتحم الجيشان في قتال طاحن بكل أنواع الأسلحة: السهام، السيوف، والخناجر، ومن هول القتال؛ صلى المسلمون صلاة الظهر إيماءً.

 

القعقاع بطل الحروب:

 

إن كانت كتب التاريخ والتراجم قد أنصفت القائد الفذ خالد بن الوليد، وأعطته حقه من الثناء والتقدير؛ فإنها-حقاً-لم تعط نفس القدر للبطل العظيم، وخبير الحروب، والفارس المغوار القعقاع بن عمرو، الذي كان له الدور الأروع فى حروب العراق كلها: من صحبة خالد إلى صحبة سعد، وكان رجل الأزمات، وفارس الساعة الحرجة والمواقف العصيبة، و عندما نشب القتال الرهيب بين المسلمين والفرس يوم جلولاء، وحدث البدل في الجيش الفارسي بين الفصائل المقاتلة والفصائل المستريحة؛ أثَّر ذلك-قليلاً-على معنويات الجيش المسلم؛ لشدة تعبهم ومعاناتهم من القتال طوال النهار، ولمح البطل الفذ القعقاع ذلك فى  عيون المسلمين؛ فقال لهم: " أهالكم ما رأيتم أيها المسلمون؟!"؛ قالوا: "نعم ؛ إنا كالون وهم مريحون". فقال لهم: " بل إنا حاملون عليهم وجادون فى طلبهم حتى يحكم الله بيننا؛ فاحملوا عليهم حملة رجل واحد حتى نخالطهم"، ولم يترك القعقاع للمسلمين خياراً آخر؛ غير القتال هو ومن معه من أبطال المسلمين الكبار على صفوف الفرس فى الحال؛ فلم يجد بقية المسلمين-بداً-من مواصلة القتال.

 

ودفع القعقاع وفرسانه بصفوف الفرس إلي  الخلف، وهو يضغط عليهم بمنتهى القوة؛ حتى وصل إلي  باب الخندق الخارجي للمدينة، وكان الليل يرخي سدوله بالظلام على أرض المعركة،  ورأى القعقاع أن الجيشين يتحاجزان لحلول الظلام، وكان هو يريد مواصلة القتال حتى يحتل المسلمون الخندق، فيمنعوا الفرس من العودة إلى حصونهم  بالمدينة، ويقطع عليهم خط الرجعة، وهنا تصرف القعقاع بمنتهى الذكاء و الخبرة بنفسية العرب و المسلمين فى القتال، حيث نادى في الناس-وكان ذا صوت جهوري-قال عنه الصديق أبو بكر -رضي الله عنه-: " إنه يوازي صوت ألف رجل فى المعركة , ولن يغلب جيش فيه القعقاع "، نادى  في  الناس-قائلاً-: " أيها المسلمون، هذا أميركم-يعني هشام المرقال-على باب خندقهم، فأقبلوا عليه، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله"، وهو بذلك قد استغل الحمية العربية، والنخوة الإسلامية، التى تمنع العربي والمسلم أن يترك قائده، ويتخاذل عن نصرته واللحاق به، وهنا حمل المسلمون حملةً صادقةً، وفتكوا بكل الفرس المعترضين لطريقهم إلى باب الخندق، وصدموا جيش الفرس صدمةً هائلةً، لم يصمد لها الفرس؛  فزالوا عن مواقعهم .

 

(المواقف الصعبة تحتاج لنوعية خاصة من الرجال الذين يستطيعون أن يوظفوا كل الوسائل المتاحة؛ لتحقيق الانتصار، والرسول-صلى الله عليه وسلم-كان يجعل في المعارك لواءً خاصاً بالمهاجرين وآخر للأنصار؛ ليتمايز كل فريق في القتال، ويبدي أقصى ما عنده، وذلك دون عصبية جاهلية، أو قبلية مقيتة، واستخدام القعقاع لمثل هذه المشاعر عند العرب؛ جاءت لصالح الإسلام والمسلمين في ذلك الظرف العصيب).

 

أرض الموت:

 

بعد هذه الحملة الصادقة التى قام بها المسلمون على كتائب الفرس؛ سيطر المسلمون على خندق المدينة، وهنا وقع الفرس فى مأزق خطير ؛ إذ أصبحوا لا يستطيعون العودة للمدينة؛ إلا إذا تغلبوا عليهم، فاشتد القتال بين الفريقين ضراوةً وعنفاً لم يسبق لهما تحت جنح الظلام، وذكرهم هذا القتال بليلة الهرير في القادسية، حيث لم يسمع إلا صليل السيوف، وقعقعة الرماح، وآهات القتلى والجرحى، وزاد المسلمون قوة وهمة فى القتال بعد وصول الإمدادات من قبل القائد سعد، يقودها أسود ضارية من مثل: طليحة الأسدي، و قيس بن المكشوف، وحجر بن عدي؛ فاشتد ساعد المسلمين، ومما زاد الطين بلة-بالنسبة للفرس-أن خيولهم قد وقعت فى شراك حسك الحديد الذي نصبوه-أصلاً-لخيل المسلمين، وتعطلت خيولهم عن الحركة، واضطروا لأن ينزلوا من على ظهورها؛ ليقاتلوا مشاةً، وكان هذا أوان هلاكهم، حيث طحنهم المسلمون طحناً شديداً، وأفنوهم بالكلية، حتى بلغ قتلى الفرس مائة ألف قتيل، وجللت جثثهم الساحات أمام المدينة، حيث صارت أكواماً، ولذلك سميت المدينة جلولاء؛ لما جللها من قتلاهم، وقد صارت أرضاً للموت لسنين طويلة.

 

  أهم الدروس العبر:

 

1-الغيظ والحقد والحسد على المسلمين؛ من الأمور التي تدفع أعداء الأمة؛ لمواصلة القتال ضدها، مهما كانت الخسائر والتضحيات كما قال الله-عز وجل-: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون) [التوبة:104]، وهذا مأخوذ من تجمع فلول الفرس للقتال حتى الموت ضد المسلمين بالعراق.

 

2-الانضباط والنظام والطاعة الراشدة-وليست العمياء-سبب للانتصار والنجاح في مواطن كثيرة، وهذا مأخوذ من استئذان القائد سعد من الخليفة عمر في محاربة الفرس في جلولاء.

 

3-حركة الفتح الإسلامي ليست حركات عشوائية من غير تخطيط ونظام، بل استراتيجية متكاملة الأركان، وتعمل وفق منهج مرسوم ومتبع بدقة، تكليف عمر المسلمين بقتال الفرس بجلولاء مع تحديد القائد وعدد المقاتلين، وسير الجيش.

 

4-الفطنة وحسن التصرف وسرعة اتخاذ القرار في المواقف الصعبة، مع توظيف الأخلاق والعادات العربية، كلها أدوات لابد من توافرها في القائد العام للمسلمين، مأخوذ من موقف القعقاع مع المرقال والمسلمين في المعركة.

 

-----

المراجع:

  • تاريخ الرسل والملوك.
  • فتوح البلدان.
  • البداية والنهاية.
  • القادسية ومعارك العراق.
  • صفة الصفوة.
  • تاريخ الخلفاء.
  • موسوعة التاريخ الإسلامي.
  • الكامل فى التاريخ.
  • محاضرات فى تاريخ الأمم الإسلامية.
  • سيرة الخلفاء الراشدين.
  • المنتظم.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات