معركة الكونتات السبعة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

هي واحدة من معارك الإسلام الكبرى في الأندلس، ولكنها لم تنل نفس شهرة الزلاقة أو الأرك وإن كانت لا تقل عنهما روعة، وتبدأ فصولها مع انتشار خبر مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين وقرب وفاته، وهذا الأمر شجع الأسبان الصليبيين وملكهم العجوز (ألفونسو السادس) على استئناف غاراتهم المخربة ضد أراضي المسلمين، وكان الملك العجوز يضطرم برغبة عارمة للانتقام من هزيمته الثقيلة في الزلاقة قبل عشرين سنة، فهاجم الأسبان أحواز أشبيلية سنة 499هـ وعاثوا فيها فسادًا واستولوا على كثير من الأسرى والغنائم، وانشغل المسلمون عنهم بوفاة أمير المسلمين بعد ذلك بقليل.

 

 

 

منذ أن أنشأ "يوسف بن تاشفين" دولةَ المُرابطين في المغرب العربي، والتي بناها بناء مُحكماً؛ حيث ظل نصف قرن من الزمن يجاهد من أجل إقامة هذا الصرح، وكان له ما أراد، واستقرت دولته على قاعدة راسخة، عندها تطلع نحو الأندلس، وعبر إلى الجزيرة الخضراء، وفرض سلطانه هناك، وكانت له مع نصارى الشمال صولات وجولات، كانت موقعة الزلاقة من أشهرها، وعندما جاء خلفه "أبو الحسن علي"، والذي سار على نهج أبيه، كانت له مع نصارى الشمال معارك متعددة، كانت موقعة أقليش من أشهرها، حتى قال عنها ابن الخطيب: إنها زلاقة ثانية، وقال عنها غيره: إنها تمثل ذروة سلطان المرابطين على الأندلس، وكانت هذه الموقعة بقيادة "أبي الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين" الذي انتصر فيها على القشتاليين نصراً مؤزراً، وكان يقود القشتاليين الأمير "دون سانشو ابن الملك ألفونسو السادس"، والغريب الذي يستحق الذكر أنَّ المؤرخين المسلمين لم يعطوا هذه الموقعة حقها الطبيعي الذي تستحقه، بل إن أكثرهم لم يذكرها إطلاقاً، وبعضهم مر عليها مروراً سريعاً.

 

الوضع السياسي في الأندلس قبل موقعة أقليش:

 

بعد أن دحر المرابطون بقيادة "يوسف بن تاشفين" النصارى الأسبان في موقعة الزلاقة الشهيرة، وفرض المرابطون سلطانهم على الجزيرة الخضراء، بدأ النصارى الأسبان بتجميع قواهم، والاستعداد يوما بعد يوم حتى قويت شوكتهم في أواخر حكم "يوسف بن تاشفين"، فأخذوا يهددون المدن الإسلامية، عندها أدرك القائد العام للمرابطين  خطورة الوضع السياسي القائم في الأندلس، وخشي أن تعود الأمور من بعده فوضى إذا لم ينصب من ينوب عنه، وتنفصم بذلك عرى دولته التي بناها، وتنتهي هذه الرسالة التي عمل وجاهد على تبليغها طيلة نصف قرن؛ لذلك رأى أن يستخلف من بعده رجلاً يستطيع أن يتحمل هذه التبعات، فأوصى بالبيعة لابنه "أبي الحسن علي"، ولم يكن هو أكبر أبنائه، بل لسجاياه الخاصة، وهذا يتبين من نص الوصية الذي جاء فيها: "فوجد ابنه الأمير الأجل أبا الحسن أكثرهم ارتياحاً إلى المعالي، وأكرمهم سجية، وأنفسهم اعتزازا"، وقد تمت هذه البيعة في مدينة قرطبة سنة 496هـ، فبايعه أمراء قبيلة لمتونة البربرية التي تعتبر أصل الدولة المرابطية، وفقهاؤها وشيوخها، وكان الأمير "علي" في مدينة سبتة التي ولد فيها.

 

توفي "يوسف بن تاشفين"، فنودي في الحال بولده "أبي الحسن علي" خلفاً لأبيه، وكان "أبو الطاهر تميم" أول من بايع أخاه علياً، بالرغم من أنه أكبر منه سناً، ونادى في المرابطين: "قوموا فبايعوا أمير المسلمين "، فبايعه جميع من حظر من لمتونة، وسائر قبائل صنهاجة والفقهاء وشيوخ القبائل، ولَم يتخلف عن بيعته إلا ابن أخيه "يحيى بن أبي بكر"، وكان والياً لمدينة فاس، وله مواقف مشهورة في زمن جده "يوسف بن تاشفين"، كما كان أبوه نائباً عن "يوسف" قبل انتصاره في موقعة الزلاقة الشهيرة في الأندلس؛ لذلك تطلع "يحيى" إلى الحكم بعد جده؛ لأنه ابن الأخ الأكبر من أبناء "يوسف"، فامتنع عن مبايعة عمه "علي".

 

 وسار قائد المرابطين الجديد إلى فاس؛ لتأديب ابن أخيه، وإدخاله في طاعته، ولكن "يحيى" فر أمام جيوش عمه الذي استولى على فاس، وتمت له بذلك البيعة في جميع أنحاء الدولة المرابطية، التي امتد نفوذها على المغرب والجزائر والأندلس، وقد تلقب بأمير المسلمين كما كان أبوه من قبل، وسار على نهج أبيه في الجهاد في سبيل الله، وحماية البلاد من خطر النصارى، ويقول المراكشي: "وكان حسن السيرة، جيد الطوية، نزيه النفس، بعيداً عن الظلم؛ كان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين، واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء؛ فكان إذا ولى أحداً من قضاته كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمراً ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير، إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم، طول مدته، فعظم أمر الفقهاء". أمَّا ابن الخطيب فيقول: "كان علي -رحمه الله- ملكاً كبيراً فاضلاً معتدلاً، عظم في أيامه الملك، واتسق العز، وملك جميع بلاد المغرب إلى بجاية إلى الأرض الأندلسية والجزر الجوفية، وبلاد القبلة بأسرها، وخطب له على أكثر من ألفَيْ منبر". ويقول ابن الخطيب أيضا: "اطلع بالأمور أحسن اطلاع، وكان يقلد العلماء، ويؤثر الفضلاء، كثير الصدقة، عظيم البر، جزيل الصلة، وألبسه الله المهابة، وقذف له في القلوب المحبة، فاجتمعت عليه الأمة، واتفقت الكلمة".

 

 وكان الأمير "علي" فتى في الثانية والعشرين من عمره، يحمل كل ما يحمل الشباب من عنفوان وأنفة، ومع حداثة سنه؛ فقد أبدى نوعاً من الحكمة والعدالة، أكسبته محبة الناس؛ لأنه كان وافر الجود، كثير العطف والبر بالفقراء والمساكين، يحرص على مظاهر الجد والوقار، وكان أول أميرٍ مسلم في إفريقيا استخدم النصارى في بلاطه، ويبدو أن مرد ذلك كون أمه نصرانية أم ولد؛ فقد ذكر ابن الخطيب: "أنه أول من استعمل الروم بالمغرب، وأركبهم، وقدمهم على جباية المغارم".

 

 الوضع السياسي للنصارى الإسبان قبل موقعة أقليش:

 

بعد موت "يوسف بن تاشفين" بطل معركة الزلاقة، بدأ النصارى الإسبان ينهضون من جديد، ويشكلون خطورة على الدولة المرابطية، فأخذوا يهددون الولايات الإسلامية، ويشنون عليها الغارات، وكان يقود النصارى الملك "ألفونسو السادس" ملك قشتالة، وكان مسناً، ويذكر المؤرخ إشباخ أنه قد تزوج من " زائدة " ابنة "المعتمد بن عباد" ملك أشبيلية السابق، وهي التي حرضته على معاودة حرب المرابطين؛ للثأر من ضياع ملك أبيها. وقد سايره المستشرقون على هذه الرواية التي بيّن بطلانها وفسادها وتهافتها مؤرخو الأندلس الكبار أمثال ابن الخطيب وابن خلدون، وقد وافقهم المنصفون من المستشرقين أمثال "ليفي بروفنسال"؛ حيث قال: "لكنه من المستبعد أن يتصور المرء أن يهب المعتمد -على ما في ذلك من ذلة -إحدى بناته لملك نصراني كان عدوه اللدود الذي يفرض عليه جزية سنوية فادحة، ولو أننا قبلنا جدلاً أن ملك أشبيلية استطاع أن يسلك هذا المسلك غير الطبيعي، لكان ذلك جنونا صريحًا منه".

 

موقع مدينة أقليش:

 

أُقْليش - بضمِّ الهمزة، وسكون القاف، وكَسْر اللام، وياء ساكنة، وشين معجمة - أو أقليج، وهي مدينةٌ لَها حصن، تَقع في ثَغْر الأندلس من أعمال ولاية طليطلة، وهي قاعدة كوشنتبرية بناها "الفتح بن موسى بن ذي النون"، وفيها كانت ثورته وظهوره في سنة 160 هـ، ثم اختار أقليش دارًا وقرارًا، فبناها ومدَّنَها. تقع مدينة أقليش إلى الشرق من طُلَيطلة على نَهْر منبعثٍ من عين على رأس المدينة، فيعم جميعها، ومنه ماء حمَّامها، ومِن العجائب البلاط الأوسَطُ في مسجد جامع أقليش؛ فإن طول كل جائزة من جوائزه مائة وأحد عشر شبرً وهي مربَّعة منحوتة مستورة الأطراف.

 

 موقعة أقليش الكبرى:

 

بعد أن تعاظم خطر النصارى في الأندلس، وشنهم لغارات متعددة على الولايات الإسلامية، أصبح الأمير "علي بن يوسف ين تاشفين" مضطراً إلى دفع خطر النصارى؛ ففي عام 501هـ/ 1108م، عبر إلى الجزيرة الخضراء؛ ليشهر الحرب على النصارى الإسبان بكل ما وسع من عزم وقوة، فولى أخاه "تميمًا أبا الطاهر بن يوسف" غرناطة، وأسند إليه القيادة العُليا للجيش المرابطيِّ في الأندلس. فخرج "أبو الطَّاهر تميمٌ" على رأس جيش ضخم متَّجِهًا نحو حدود النَّصارى، وكان يَضْطرِم رغبة وعزماً للنجاح في مهمته الموكلة إليه، وكان معه عدد من أمهر قادة المرابطين ذوي الخبرة الطويلة في القتال ضد الإسبان أمثال محمد بن فاطمة، ومحمد بن عائشة، وحالت دون تقدمه في قلب قشتالة قلعة أقليش - أو أقليج -المنيعة، والحامية الاستراتيجية للقشتاليين، فضرب عليها الحصار.

 

بعد اشتداد الحصار على المدينة، أرسلت حامياتها الإسبانية برسالة استغاثة لألفونسو السادس؛ لنجدتهم، وكان وقتها شيخاً كبيراً تقدم به العمر، وعركته الخطوب والهموم، ومع ذلك قرر قبول التحدي ومواجهة المرابطين مرة أخرى بعد أن ذاق من قبل مرارة الهزيمة على أيديهم بالزلاقة، فأرسل حملة قوية بقيادة أشهر قادة (ألبرهانس) صاحب التجربة الكبيرة والخبرة الواسعة في قتال المسلمين، وأرسل معه ولده الوحيد وولي عهده (سانشو) وكان صبيًا في الحادية عشرة وذلك ليثير حفيظة وعزيمة جنوده كنوع من الشحن المعنوي للحملة، وقد أرسل معه سبعة كونتات من أشراف قشتالة لحمايته ومشورته.

 

شدد المرابطون من حصارهم على المدينة والقوات المسلمة وهاجموها بمنتهى العنف حتى فتحوها في يوم الخميس 15 شوال 501هـ، وكان في المدينة الكثير من المسلمين المدجّنين (وهم المسلمون الذين ظلوا في المدن التي استولى عليها الإسبان، فبقوا تحت حكم النصارى)، فلما فتحها المسلمون انضم كثير من المدجنين للمعسكر الإسلامي، وشرحوا لإخوانهم المسلمين أوضاع المدينة وخصوصًا الحامية الإسبانية التي ما زالت موجودة بالقلعة ومنتظرة وصول نجدة ألفونسو لهم. وبالفعل لم تمر سوى ساعات قلائل حتى وصل الجيش الإسباني وكان تعداده أضعاف الجيش الإسلامي، مما جعل قائده الأمير تميم يتردد ويحجم عن الصدام وربما فكر في الانسحاب، ولكن القائدين الكبيرين محمد بن عائشة ومحمد بن فاطمة نصحوه بالبقاء وملاقاة العدو وهونوا عليه الأمر، فقويت عزيمة الأمير تميم، واتفق الجميع على مواجهة العدو الصليبي.

 

وفي فجر يوم الجمعة 16 شوال سنة 501هـ اصطدم الجيشان في قتال بالغ العنف حتى اختلفت أعناق الخيول، وصبر كل فريق للآخر صبرًا شديدًا، ولم تظهر بوادر النصر لأي منهما، حتى وقعت حادثة غيرت مجرى القتال، ذلك أن الصبي (سانشو) ولي عهد ألفونسو السادس، انفلت من خيمته ونزل أرض القتال وكان يرتدي زي الفرسان، ووقع وسط ثلة من فرسان المسلمين فقتلوه وحاول بعض الكونتات إنقاذه فقتل معه، فدب الهرج والمرج في صفوف الإسبان وانهارت عزائمهم وهم يرون مقتل ولي عهدهم وقائد جيشهم، فكثر القتل فيهم، وحاول الكونتات السبعة الذين كانوا يؤلفون حاشية الأمير المقتول الفرار لأحد الحصون القريبة، فلحق بهم جماعة من المدجنين وقتلوهم جميعًا، وهكذا تمت الهزيمة الساحقة للإسبان، وتوطدت سمعة ومكانة المرابطين في الأندلس، ولقد عرفت هذه المعركة في التاريخ باسم (موقعة الكونتات السبعة)، وقد وقع خبر الهزيمة ومقتل الأمير (سانشو) على ألفونسو مثل الصاعقة، حتى أنه استسلم إلى التأوه والنوح بمحضر من حاشيته، ولم يستطع أن يحتمل الصدمة فتوفي مقتولاً بالهم والغم والحزن.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات