معركة الفراض: تحالف الشر

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2025-03-13 - 1446/09/13
التصنيفات: وقائع تاريخية

اقتباس

وهنا تجلت عبقرية القائد خالد الذي رفض العرض لعدم توافر معلومات عن طبيعة أرض المعركة، وخالد -رضي الله عنه- كان لا يخوض قتالاً دون دراسة وافية لميدان القتال حتى لا يفاجئ بأمور غير متوقعة تؤثر على خططه وتحركاته العسكرية...

من الركائز الأساسية التي جاء بها الإسلام واعتنى بها عناية فائقة وجعلها من أولوياته؛ عقيدة الولاء والبراء؛ تلك العقيدة التي جاءت بمثابة الوشيجة المتينة والرابط الجامع لكل منتسبي هذا الدين، بعيداً عن الروابط الأرضية والأواصر البشرية التي يجتمع عليها البشر من لسان أو لون أو عرق أو وطن؛ فالإسلام تجاوز كل تلك الروابط الأرضية وجمعها في كفة، وجعل وشيجة الإسلام ورابطة التوحيد وراية "لا إله إلا الله" في كفة مقابلة؛ فتغير بتلك العقيدة والوشيجة السماوية مفهوم الأمة، واتسعت قاعدتها، وامتدت راياتها حتى ضمت كل من شهد بشهادة التوحيد مهما ناءت به البلاد واختلف لونه وعرقه ولسانه؛ فالجميع إخوة بحقوق متساوية تحت راية الدين الجديد.

 

ويوم أن استمسك المسلمون بتلك الوشيجة واعتصموا بعقيدة الولاء والبراء عظمت دولتهم، وقويت شوكتهم وخفقت إلى أبعد البقاع رايتهم، ولم يجرؤ العدو على وطء مروجهم أو تهديد حصونهم.

 

ويوم أن تنكب المسلمون عن عقيدة الولاء والبراء واستبدلوها بالروابط الأرضية القديمة من لون وعرق ونسب ووطن وتجارة، فأصبحوا قابعين خلف خطوط مصطنعة وحدود وهمية رسمها عدوهم في زمن الاحتلال الأوروبي لبلادهم، يومها ذهب ريحهم، وسقطت خلافتهم، ونزل عدوهم بساحتهم فأفسد ذات بينهم، وجعلهم شيعاً وأحزاباً ودولاً قومية تتنازع على حدود وهمية، عندها صاروا غنيمة باردة لخصومهم.

 

ومعركة "الفراض" واحدة من المشاهد التاريخية الخالدة التي تكشف حقيقة الولاء والبراء، وكيف أن الانتصار لا يتنزل على المسلمين إلا عندما يدركوا طبيعة العداوة مع خصومهم! وكيف أنهم لا يجمعهم شيء سوى عداوة الإسلام والمسلمين!

 

نهاية حروب الردة وبداية الفتوحات الإسلامية

انشغل المسلمون في حروب الردة طيلة العام الحادي عشر من الهجرة، وما إن استطاعوا القضاء على أقوى رؤوس الردة بقتل مسيلمة الكذاب في معركة عقرباء حتى قرر الخليفة الراشد أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أن يوجه عجلة الفتوحات الإسلامية ناحية بلاد العراق حيث حكم الأكاسرة الفرس، وكانت جهود البطل المثنى بن حارثة الشيباني سبباً في البدء بالجبهة العراقية قبل الشامية؛ فانتدب من أجل تلك المهمة المقدسة أفضل قادة المسلمين العسكريين؛ خالد بن الوليد -رضي الله عنه- من جهة الجنوب، وعياض بن غنم الفهري -رضي الله عنه- من جهة الشمال، وأيهما يسبق لفتح الحيرة يكون أميراً عاماً للجيوش الإسلامية في العراق، فأوجد بذلك نوعاً من المنافسة الشرفية بين البطلين.

 

تعثر عياض بن غنم في دومة الجندل لفترة طويلة في حين استطاع خالد بن الوليد أن يكتسح بلاد العراق من جنوبها إلى شمالها وذلك في عدة شهور قليلة، وتخيل يا عبد الله أن الجيش الإسلامي الذي يقوده خالد بن الوليد كان عدده ثمانية عشر ألف مقاتل فقط لا غير، استطاع أن يهزم أكثر من عشر جيوش كبرى للفرس وحلفائهم من نصارى ومشركي العرب من شهر صفر سنة 12ه حتى شهر شعبان من نفس السنة!!

 

فانتصروا في ذات السلاسل والمذار والولجة وأُليس وعين التمر والحصيد، وفتحوا الحيرة والأنبار والأُبلة -البصرة اليوم- ودومة الجندل، واستمرت الفتوحات حتى انحاز الفرس ومن معهم من نصارى العرب في منطقة "الفراض"، وهي نقطة التماس بين العراق التي كانت خاضعة لحكم الفرس والشام، والتي كانت مازالت تحت حكم الروم، ليدخل طرف جديد في معادلة الصراع بين المسلمين وأعدائهم.

 

الانحياز الفارسي والتوجس الرومي

فقد الفرس معظم قياداتهم العسكرية الكبيرة وزهرة شبابهم ونجبائهم في الهزائم المتتالية أمام خالد بن الوليد وجنوده، ووجدوا أنفسهم يفرون من بلد لآخر، ويخلون مواقعهم الواحد تلو الآخر حتى انحازت فلولهم الناجية من معركة الحصيد إلى منطقة الخنافس، وهي أرض للعرب في طرف العراق قُرب الأنبار من ناحية الفرات؛ فأدّى ذلك إلى إلقاء الرعب في أهلها، والمسلمون كما هو معروف واستجابة لدعوة نبيهم -صلى الله عليه وسلم- منصورون بالرعب لا يسمع بهم عدوهم حتى يملأ الرعب قلبه حتى قبل أن يراهم؛ فوهنت قلوب أهل منطقة الخنافس عن نصرة الفرس اللاجئين إلى منطقتهم ففرّ بعضهم إلى منطقة المصيَّخ للاحتماء بها، مما سهَّل مهمة الفرقة الإسلامية التي كانت تلاحق الفارين، فدخلوها دون قتال يوم 11 شعبان 12هـ الموافق فيه 21 أكتوبر633م.

 

 أُتيح لخالد بعد هذه الانتصارات، أن يهاجم المصيَّخ في محاولة لِمنع الحلفاء من الفرس والعرب من إعادة تنظيم صفوفهم، كما حدث من قبل في معركة أُليس المعروفة باسم "نهر الدم"؛ فاستدعى قادته، وهاجموا المصيَّخ من ثلاثة محاور، وفاجأوا خصومهم على غفلة منهم، وذلك في 19 شعبان 12هـ الموافق 29 (أكتوبر) 633م، ولم يكن الفرس وحلفاؤهم العرب يتوقعون أن المسلمين سيهجمون سريعاً بعد معركة الخنافس، فوقعت الهزيمة الساحقة عليهم في أقل من ساعتين!!

 

 بعد المصيِّخ، وضع البطل المغوار خالد بن الوليد مواضع الثنيّ والزُّميل والرضاب، الواقعة بالجزيرة شرق الرِّصافة، نصب عينه، فتم الاقتحام من ثلاثة محاور وذلك في 23 شعبان 12هـ المُوافق 3نوفمبر 633م، كل هذه التحركات السريعة كانت درساً من دروس عبقرية الأسطورة خالد بن الوليد العسكرية؛ لأنها كانت من باب تأمين الوجود الإسلامي الناشئ في سواد العراق وحماية مؤخرة جيش المسلمين، حتَّى إذا اجتاز السواد إلى فارس لمواصلة حركة الفتح الإسلامي، كان مُطمئنًا لِما يُخلِّفُ وراءه، وكان ذلك من عبقرية خالد بن الوليد العسكرية التي مازال العالم يشهد حتى وقتنا الحاضر.

 

وكان الاندفاع الإسلامي نحو الفراض يعتبر على المستوى العسكري والميداني توغلًا في أرض يحكمها البيزنطيّون، ممَّا أثار حفيظة الروم وأجج مخاوفهم من مصير مشابه لمصير الفرس الذين خسروا تواجدهم في العراق في شهور وجيزة.

 

اتفاق الأهداف ووحدة المخاوف وتطابق العداوة أنشأ حلفاً غير مسبوقاً في تاريخ العسكرية في المنطقة، حيث تحالف الفرس المجوس والروم البيزنطيين ونصارى وكفار العرب من أجل التصدي للمسلمين في الفراض؛ فكان تحالفاً للشر وضع في مخططاته استئصال الوجود الإسلامي في العراق، ثم مهاجمة بلاد العرب في شبه الجزيرة.

 

تحركات ما قبل المعركة

رفعت الاستخبارات العسكرية للقائد خالد بن الوليد أنباء تحالف الروم والفرس ونصارى وكفار العرب؛ فقرر القائد الاستعداد لمواجهة أخيرة وحاسمة مع هذا النوع من الأحلاف العسكرية غير المعتادة؛ فأسرع إلى الفراض ونزلها قبل قدوم العدو، وأقام بها طيلة شهر رمضان سنة 12ه، وقد قرر الفطر هو وجنوده طيلة الشهر حتى يكون على قوة واستعداد لأي هجوم مباغت من تحالف الأشرار، وذلك من فقه القائد خالد وبصيرته بالأمور الشرعية والعسكرية على حد السواء.

 

ظل الأمور في حالة ترقب واستعداد طيلة شهر رمضان وشوال من نفس السنة والأعداد تأتيهم الإمدادات من بيزنطة والمدائن؛ فالجميع يشعرون بخطورة المعركة وأثرها الحاسم في موازين القوى بالمنطقة، حتى اجتمع أكثر من مائتي ألف مقاتل من الروم والفرس ونصارى العرب من قبائل تغلب وإياد والنمر، وكانت تلك القبائل المتنصرة والتي يفترض أنها أقرب للمسلمين من الفرس والروم لرابط العروبة والقومية ورابط الوطنية لوقوعهم مع العرب المسلمين في نطاق جغرافي واحد وهو بلاد العرب، مع ذلك كله كانوا أشد أعضاء التحالف عداوة وكراهية للمسلمين وأشدهم رغبة في الانتقام وقتال المسلمين.

 

فأين المغفلون المنخدعون بشعارات القومية العربية، وشعارات العروبة تجمعنا والدين يفرقنا، إلى آخر الأكاذيب التي خدعوا بها الشعوب العربية لعشرات السنين!!

 

معركة الفراض وعبقرية القائد خالد

تكاملت قوات تحالف الشر بأعداد ضخمة واستعدت للصدام مع المسلمين، وفي يوم 15 ذي القعدة سنة 12 ه تراءى الجيشان وكان بينهما نهر الفرات عند نقطته العليا ناحية الجزيرة الفراتية، فطلب قادة التحالف من المسلمين العبور إليهم ليكون القتال بالضفة الأخرى من النهر ناحية معسكر التحالف، وهنا تجلت عبقرية القائد خالد الذي رفض العرض لعدم توافر معلومات عن طبيعة أرض المعركة، وخالد -رضي الله عنه- كان لا يخوض قتالاً دون دراسة وافية لميدان القتال حتى لا يفاجئ بأمور غير متوقعة تؤثر على خططه وتحركاته العسكرية.

 

رفض خالد العرض وقال لهم: "بل اعبروا أنتم أسفل منا"، يعني على مسافة بعيدة نسيبة عن معسكر المسلمين غرب الفرات.

 

في البداية رفض قادة الفرس والروم العرض الإسلامي وخافوا من مكائد خالد وصولته القتالية، وكان قادة الفرس أكثرهم تخوفاً فهم قد خبروا القتال ضد المسلمين وذاقوا من ويلاته عدة مرات، فرفضوا فكرة العبور إلى المسلمين وفضلوا التريث، ولكن حماسة الروم ونصارى العرب غلبت على صوت العقل، وقد أعمتهم جحافلهم الجرارة وضخامة جيشهم من التقدير الصحيح لأرض المعركة.

 

ومن أبلغ ما قيل عن هذا الاندفاع والتهور ما قاله أحد قادة الفرس للروم: "احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل عن دين، وله عقل وعلم"، وهكذا يكون العدو قد فطن هؤلاء سر انتصار المسلمين، ولخصه في ثلاثة من أهم المبادئ وهي: الدين والعقيدة التي تحرك المؤمنين بها، ويهون عليهم حياتهم في سبيل إعلاء كلمتها، ثم العقل والعلم وهما دعامة الانتصار بالتخطيط الجيد والمعارف العسكرية.

 

ما إن تكامل عبور جيش تحالف الشر وقبل أن يقوموا بتنظيم الصفوف وأخذ أهبة الاستعداد، أمر القائد خالد بن الوليد بهجوم سلاح الفرسان الإسلامي بصورة ضاغطة بلا هوادة؛ حيث قال لفرسانه: "ألحوا عليهم ولا ترفهوا عنهم"؛ يعني لا تعطوهم أي مساحة لالتقاط الأنفس، ومع اشتداد القتال طلب الروم التمايز بين مكونات الجيش ليروا من أين يأتي البلاء، ومن سيكون السبب في النصر أو الهزيمة؛ فأدى ذلك لزيادة الوهن والتضعضع في صفوف الكفار، فركب المسلمين أقفيتهم ونالوا رقابهم، فوقعت مقتلة عظيمة في صفوف الكفار بلغت أكثر من مائة ألف مقاتل على وصف كثير من المؤرخين المسلمين والبيزنطيين.

 

وقد أنشد القعقاع بن عمرو في وصف هذه المعركة ومشهد قتل الأعداء، وقد كان أحد أبطالها:

لَقينا بالفِراض جموعَ رُومٍ *** وفُرس غَمّها طولُ الَسلام

أبَدْنا جَمعَهُم لَما التَقينا *** وبَيَتّنا بجمع بني رزام

فما فـتـئت جنودُ السلم حتى *** رأينا القوم كالغنم الَسّوام

 

وكانت هذه المعركة هي خاتمة الانتصارات الكبرى للعبقري خالد بن الوليد بالجبهة العراقية؛ لأنه سيتوجه بعدها إلى جبهة الشام بأمر من القيادة العليا في المدينة النبوية، لمواجهة جحافل الروم في اليرموك.

 

الجدير بالذكر أن عبقرية خالد بن الوليد في معارك فتح العراق كافة وفي معركة الفراض خاصة تبهر القادة العسكريين والمؤرخين الأكاديميين في أوروبا، حتى أن المؤرخ الأسكتلندي المعروف "وليام موير" والمهتم بتاريخ السيرة النبوية والخلافة الراشدة قد ألف كتاباً هاماً بعنوان "الخلافة"، عقد فيه فصلاً للحديث عن عبقرية خالد بن الوليد في معركة الفراض، ورجح فرضية الأعداد الضخمة لخسائر الفرس والروم وحلفائهم العرب.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات