معركة الحوراء..خطة الشيطان ‘ارناط‘

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

والعبرة البالغة من هذا الحدث التاريخي الأهم أن الإساءات الفرنسية القديمة؛ وجدت من يتصدى لها ويردعها بأشد سبل الردع، أما الإساءات الفرنسية المعاصرة فلم تجد لها سوى التنديد والشجب والتعاطف مع المستهزئين والمجرمين. فمن للذب عن عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟!.

 

 

 

 

استمرت الحملات الصليبية على العالم الإسلامي في العصور الوسطى لأكثر من قرنين من الزمان، برز خلالها العديد من الأسماء الصليبية في خضم الصراع ضد الإسلام والمسلمين، ويأتي على رأس قائمة العداوة والكراهية الصليبية الأمير الفرنسي (رينالد دي شاتيون) المشهور في المصادر والمراجع العربية والإسلامية باسم (أرناط) أمير الكرك.

 

كان ذلك الأمير الفرنسي أشد الناس كراهيةً وبغضًا للعالم الإسلامي، تضطرم نفسه برغبة صليبيةٍ عارمةٍ ومدمرةٍ تجاه كل ما هو مسلم، وكان نزقًا عصبيًا أهوجًا مغرورًا طائشًا، لا يحترم عهوداً ولا مواثيق ولا مقدسات، وفي نفس الوقت شرهًا طماعًا يسيل لعابه على أي مال.

 

هذا الصليبي الأحمق قد أتى من فرنسا  صعلوكاً للاشتراك في محاربة المسلمين منذ أيام نور الدين محمود وقبل أن يدخل صلاح الدين إلى مصر، وكانت حماسته في حرب المسلمين مصدر إعجاب لقادة الصليبيين، وقد وقع في الأسر أيام نور الدين محمود وسجن في حلب لفترة طويلة أججت نار أحقاده وكراهيته للمسلمين؛ حتى أطلق سراحه في صفقة خبيثة بين (كمشتكين) حاكم حلب الفعلي بعد وفاة نور الدين محمود  وعدو صلاح الدين اللدود، وبين الكونت ريمون الثالث أمير طرابلس والوصي على عرش بلدوين الرابع ملك بيت المقدس، وذلك سنة 570هـ، وقد كافأه بلدوين الرابع على جهوده في محاربة المسلمين؛ بأن جعله أميرًا على حصن الكرك في شرق الأردن.

 

أجبر بلدوين الرابع على توقيع اتفاقية هدنة مع صلاح الدين الأيوبي بعد الانتصارات البحرية الكبيرة التي حققها الأسطول المصري وذلك سنة 576هـ، ولكن الصليبي المشاغب (أرناط) لم يكن يرتدع بشيء يرده عن مواصلة حربه وعداوته للمسلمين، خصوصًا وأن بنود الهدنة تنص على الحفاظ على حرية مرور التجار المسلمين والصليبيين في المنطقة، وقد ساء (أرناط) أن يرى القوافل الغنية للمسلمين تمر بجواره، فاستجاب للغواية وقادته نزواته للهجوم على قافلة كانت متجهة إلى مكة سنة 577هـ فنهبها سلبًا وقتلاً وأسرًا، واحتج صلاح الدين لدي بلدوين الرابع على هذا الخرق للهدنة، ولكن بلدوين الرابع كان أضعف من أن يردع مجنونًا مثل (أرناط)، حتى أنه قد رفض عرضًا قدمه صلاح الدين بالإفراج عن ألف وخمسمائة أسير صليبي في مقابل إطلاق سراح القافلة وأهلها، مما يكشف عن مدى غباوة وشقاوة هذا الصليبي المغرور، بيد أن الأيام قد كشفت عما هو أخطر مما يخطط ويمهد له (أرناط) ومشروعه الصليبي الخطير.

 

خطة الشيطان أرناط:

 

وجود شخصية صليبية خطيرة مثل (أرناط) بكل ما تحمله من عداء وكراهية للإسلام والمسلمين على إمارة حصن الكرك الواقع في شرق الأردن؛ كان نذيرًا بوقوع أحداث خطيرة في المنطقة بأسرها، ذلك أن حصن الكرك يتحكم في الطرق التجارية المتجهة إلى الحجاز واليمن، كما أنه يقع بالقرب من ساحل البحر الأحمر.

 

هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي لحصن الكرك جعل (أرناط) بكل صليبيته وجنونه وغروره يقدم على مشروع صليبي هو الأخطر في تاريخ الحملات الصليبية قاطبةً، حيث خطط لتحقيق سيادة الفرنج على البحر الأحمر؛ تمهيدًا لطعن الإسلام في قلبه؛ بغزو بلاد الحرمين، والهجوم على المدينة النبوية، ونبش القبر الشريف؛ لاستخراج الجسد الطاهر لسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-، ونقله إلى فرنسا ودفنه هناك، بحيث لا يسمح للمسلمين بزيارته إلا بعد دفع رسوم كبيرة.

 

وفي سنة 578هـ قرر الصليبي المجنون إدخال مشروعه الخطير حيز التنفيذ، فبدأ بالاستيلاء على ميناء أيلة (إيلات الآن) ثم شرع في بناء أسطول بحري خفيف، حملت أجزاؤه مفككة على ظهور الجمال حتى خليج العقبة، وهناك جرى تجميعها وتشغيلها، ثم استولى على جزيرة القلعة في البحر الأحمر، وانقض منها على الموانئ المصرية الموجودة على ساحل البحر الأحمر، فانقضوا على ميناء (عيذاب) في قبالة جدة، ونهبوا السفن التجارية وقتلوا ركابها، ثم أسروا قافلة حجاج كانت متجهة إلى بلد الله الحرام؛ فنهبوا أموالهم وقتلوهم جميعًا، وكان الكلب الصليبي (أرناط) يذبح الحجيج بسيفه وهو يقول بأعلى صوته، وكان يحسن العربية – تعلمها في الأسر – كان يصيح: أين محمدكم؟ أين محمدكم؟ لو جاءني هنا لقتلته بسيفي! وسوف يعلم ذلك الكلب الحاقد عاقبة هذا الطيش والكفر.

 

بعد ذلك ركب أرناط وكلابه أسطولهم الصغير وعبروا البحر الأحمر إلى جدة، فعاثوا فيها فسادًا وتدميرًا، ثم اتجهوا سريعًا نحو المدينة النبوية بغية تسديد الضربة القاصمة للإسلام والمسلمين، وقد ساعدهم في الطريق البدو الأعراب الذين هم أشد كفرًا ونفاقًا من أجل المال.

 معركة الحوراء:

 

وقعت تلك الأحداث الخطيرة في وقت كان صلاح الدين الأيوبي في (حران) في أقصى بلاد الشام، على مسافة كبيرة من تلك التحركات الشريرة، فأرسل بأسرع وسيلة إلى نائبه في مصر الأمير العادل أبي بكر الأيوبي يأمره بوقف هذا الهجوم الصليبي وإدراك مقدسات الإسلام، وكانت الأخبار قد أشعلت ثورة غضب عارمة بين المسلمين ضد الصليبيين، فكلف الأمير أبو بكر العادل نائب مصر، الحاجب حسام الدين لؤلؤ الأرمني (قائد الأسطول المصري)، وكان أرمني الأصل، وكان جنديًا في جيش الفاطميين، ولما جاء صلاح الدين أدرك بعينه الفاحصة أن له مواهب قيادة وإخلاص نادر للإسلام والمسلمين؛ فاستعمله ورقاه؛ حتى صار قائد الأسطول المصري.

 

تم تكليف حسام الدين لؤلؤ بالتوجه بمنتهى السرعة إلى الحجاز؛ لإدراك الصليبيين قبل الوصول إلى المدينة، ومن شدة حماسة ويقين حسام الدين لؤلؤ بالنصر صنع قيودًا حديدية خاصة سيقيد بها الأسرى الصليبيين بعد القبض عليهم.

 

انطلق حسام الدين لؤلؤ كالسهم إلى ميناء (أيلة) واشتبك مع أسطول الصليبيين الراسي هناك فدمره بالكلية ثم انطلق إلى ميناء عيذاب على ساحل البحر الأحمر، فقضى على من فيه من صليبيين تركهم (أرناط) هناك كحامية تأمين أثناء عودة (أرناط) من مشروعه الخبيث، وبعد ذلك عبر لؤلؤ البحر الأحمر بأسطوله القتالي، ونزل على ميناء جدة ومن هناك ركب الخيل هو وطاقم الأسطول المصري، وانطلقوا مثل الرياح يسابقون الزمان حتى يدركوا الصليبيين قبل الوصول إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

 

لجأ حسام الدين لؤلؤ إلى حيلة ذكية؛ لتأخير وصول أرناط الكلب ومن معه إلى المدينة، إذ رفع أكياس الفضة على رؤوس الرماح لترهيب وترغيب البدو الأعراب، حتى ينحازوا إليه ويتركوا مساعدة الصليبيين، وبالفعل تفرق الأعراب عن الصليبيين؛ فتاهوا في الطريق حتى أدركهم حسام الدين لؤلؤ وهم على مسيرة يوم واحد من المدينة، فلما أحسوا بغدر الأعراب وإحاطة المسلمين بهم، صعدوا إلى رأس جبل صعب المرتقى واحتموا به وكانوا زيادة على ثلاثمائة صليبي من خلاصة فرسان وشجعان الصليبيين بالشام.

 

وفي مشهد أسطوري حقيقي ليس من جنس أوهام الأفلام السينمائية ولا في خيالات كتاب الروايات البوليسية، يصعد البطل حسام الدين لؤلؤ ومعه عشرة فرسان من أبطال الإسلام، صعدوا إلى قمة الجبل الذي يتحصن فيه الصليبيون، وضيق عليهم، وقتل منهم عدة أنفس من أنجادهم وأبطالهم؛ فخارت قواهم بعد أن كانوا معدودين من الشجعان الأبطال الذين اختارهم أرناط؛ لتنفيذ خطته الشريرة، فاستسلموا إلى حسام الدين لؤلؤ؛ فقيدهم بالقيود التي حملها معه من القاهرة.

 

رجع حسام الدين بأسراه إلى القاهرة، وكان لدخولهم يوم مشهود، إذ تولى الفقهاء والفقراء تنفيذ حد الله -عز وجل- في هؤلاء الأنجاس الكفرة، فذبحوا جميعًا، وقد أمر صلاح الدين الأيوبي بأخذ اثنين من قادة الصليبين إلى منى بمكة حتى ينحرا هناك كما تنحر البدن التي تساق هديًا إلى الكعبة، تقربًا إلى الله -عز وجل- بدم أعداء الإسلام، وإرهابًا شديد اللهجة لكل من تسول له نفسه أن يقدم على مثل هذه الأفعال.

 

أما الكلب الصليبي المغرور (أرناط) والذي قاد تلك الهجمة الخبيثة فإنه لم يعبر البحر الأحمر مع من عبر، ولكنه ظل في إيلة؛ لمراقبة تنفيذ مشروعه، ولما أحس بتحركات الأسطول المصري عاد مسرعًا إلى حصن الكرك، وإنما هو صنعه هذا قد أخر هلاكه بضع سنين، حتى أن السلطان صلاح الدين الأيوبي قد أقسم بأغلظ الأيمان ليقتله بيديه نظير جرائمه واعتداءاته على الإسلام ورسوله والمسلمين، وهو ما سيحدث بالفعل سنة 583هـ في معركة حطين عندما سيقع أسيرًا بيد صلاح الدين ويذبحه بيده وفاءًا بنذره، وانتقامًا لرسوله -صلى الله عليه وسلم.

 

والعبرة البالغة من هذا الحدث التاريخي الأهم أن الإساءات الفرنسية القديمة؛ وجدت من يتصدى لها ويردعها بأشد سبل الردع، أما الإساءات الفرنسية المعاصرة فلم تجد لها سوى التنديد والشجب والتعاطف مع المستهزئين والمجرمين. فمن للذب عن عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟!.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات