اقتباس
هذه كانت مجموعة من المعالم على طريق التمكين، من استمسك بها قولاً وعملاً، دعوة وهديًا، علمًا وحالاً، وصل إلى مبتغاه، ونال ما يرضاه، وسعد في الدارين، وقد يكون هناك غير ما ذكرنا من المعالم والآيات التي يجب أن يسلكها الدعاة، ولكننا اقتصرنا على أهمها التي لا يمكن أن ..
تكلمنا في الجزء الأول عن أهم المعالم على طريق التمكين لدين الله، وإقامة شريعته في الأرض، وقد تحدثنا عن معالم العقيدة الصحيحة والإخلاص والعلم والواقعية، ونواصل حديثنا عن باقي هذه المعالم.
المعلم الخامس: التربية:
التربية أحد من أهم معالم التمكين لدين الله -عز وجل- في الأرض، ونعني بها الرعاية الشاملة والكاملة للوصول لأرقى مستوى من الكمال البشري، وذلك بكل وسيلة مشروعة، فالتربية هي البناء والتكوين، وهي مهمة الأنبياء والمصلحين والدعاة المخلصين، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) [الجمعة: 2]، فالتربية هي العصمة من الفتن وما أكثرها وتنوعها في هذه الأيام!! تارة بالسراء وتارة بالضراء، تارة بالرغبة وتارة بالرهبة، وهي الواقية والحافظة من مفاسد الزمان وما يستجد فيه من تقنيات اللهو وفنون اللذة والعبث والمجون، والتي لم تدع بيتًا حتى دخلته، ولا بابًا إلا كسرته، فالتربية هي السبيل نحو التمكين، وكثير من فشل الدعوات في تحقيق أهدافها وحيازة التمكين يرجع في الأساس للخلل في التربية؛ إما ضعفًا أو استعجالاً أو ارتجالاً أو نقصانًا، فالتربية الجادة المتكاملة المنضبطة هي دعامة تحقيق الأهداف كلها.
والتربية التي نريدها هي التربية التي تقوم بعدة مهام أساسية كالآتي:
1ـ التربية التي تستوعب اتساع نطاق العمل الدعوي، فقوافل العائدين إلى ربهم -جل وعلا- كثيرة ومتتابعة، والجماهير العريضة متلهفة ومتعطشة للمنهج الإسلامي، وهي خليط متنافر من سلوكيات وأخلاقيات لا يجمع بينهما إلا البعد عن الإسلام، وهذا الخليط إذا انتقل بكل ما يحمله من رواسب الماضي وآفات ما قبل التوبة، إلى كيان الدعوة وقوافل السائرين على درب التمكين، ولم يجد من المنظومة التربوية ما يحتويه ويصحح أخطاءه ويعالج آفاته، كان دخولهم وبالاً على العمل الإسلامي، وعبئًا ثقيلاً على السائرين على درب التمكين.
2ـ التربية التي تنشئ الكوادر، وتنتج الصفوف الثانية والكفاءات البديلة، والتي تضمن عملية بناء الأجيال وتعاقبها، فلا يصح ولا يصلح في الأمم الكبيرة، وفي الطريق المتسع، الاعتماد على القيادات الكبرى والرموز التاريخية فحسب؛ لأن وقتها تموت الدعوات والأمم بموتهم أو اختفائهم من الساحة لأي سبب آخر، والتربية تضمن تواصل الأجيال واستمرار المسيرة.
3 ـ التربية التي تعلّم الربانية وتحقق الصلة الوثيقة والدائمة بالله -جل جلاله-، وتقيم في القلب حاجزًا وفرقانًا بين الحق والباطل، يصمد به صاحبه من الوقوع في مضلات الفتن وأتون الشهوات.
4 ـ التربية المستقاة من الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح -رضوان الله عليهم- من خير القرون والذين يلونهم بإحسان إلى يوم الدين، من الذين حققوا المعاني وتمسكوا بالمباني، علمًا وحالاً، عملاً ومقالاً.
5 ـ التربية الشاملة بكل ما تحويه وتعنيه من مجالات وأنواع، فتربية علمية تؤهل القادرين وذوي الملكات والكفاءات وتضبط قواعد العلم، وأخرى وجدانية تهتم بالمشاعر وترعى الخواطر وتوقظ الضمائر، وثالثة جهادية تشعل حماس الصادقين وتهيئ السعي نحو التمكين، وتذب عن ديار المسلمين، ورابعة إيمانية تتعاهد الإيمان الصادق وتصونه من حملات الإفساد والتحطيم، وتقوي وتقيم منار الدين.
بالجملة فإن التربية أصل عظيم وضخم وأساس متين، لا يتم بدونه تمكين ولا تغيير، وليس له غاية ينتهي عندها، فهو المطلب الذي لا ينتهي أمره، ولا يستغني عنه كبير ولا صغير.
المعلم السادس: الجهاد:
الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، وقدحه المعلى، وبيعته الماضية في أعناق المؤمنين إلى يوم الدين، وأربح صفقات الآخرة، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111]، وفي الحديث: "تكفّل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة".
الجهاد أعظم وسائل التمكين، وأهم أدوات إزالة معوقات التمكين، فأعداء الإسلام لن يتنازلوا في الغالب عما احتلوه من أوطان وحقوق إلا إذا جبروا عليه جبرًا، ومهما قيل في تحقيق العمل السياسي لبعض المصالح أو تقليله لبعض المفاسد، فإن تحرير المقدسات وإقامة سلطان الشريعة لابد من أن يبذل في سبيله المهج والنفس والنفيس، فالجهاد ليس له غاية سوى النصر أو الشهادة.
وهدف الجهاد الأعظم هداية الناس للإيمان، وتعبيدهم لرب العالمين، وإخلاء الأرض من الفساد والشرك، قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الأنفال: 39]، كما يهدف أيضًا لرد عدوان المعتدين وإزالة الفتنة التي تحول بين سماع المدعوين لدعوة الحق، وإرهاب أعداء الدين، وتقوية دولة المسلمين، وفضح المنافقين وتمحيص المؤمنين، ولم يترك الجهادَ جيلٌ إلا ذل وخاب وخسر ووطأه الأعداء من كل جانب.
ولما كان الجهاد في سبيل الله بهذه المنزلة فإن ترشيده وضبط أحكامه وتقدير مصالحه والفصل بين ثوابته التي لا يجوز التنازل عنها وموارد الاجتهاد التي لا مشاحة فيها، لهو من الأمور المفترضة التي لا تقل أهميتها وخطورتها عن قضية التمكين نفسها، فإن استيفاء شرعية هذه الشعيرة الكبيرة والعمل الجماعي الضخم هو أول ضابط ينضبط به، فلابد من استيفاء حكم الجواز من الشرع، وعدم الإضرار بالأمة، وحصر الجهاد ضد أعدائها الأصليين مع حسن ترتيب للأولويات في ذلك كله، مع وضوح الراية وسلامتها من الولاءات الأرضية، مع استصحاب الأهداف الأصلية للجهاد وعلى رأسها التمكين لهذا الدين وإعزازه وإعزاز أهله وإذلال أعدائه.
وإذا أصبح الجهاد في سبيل الله بصورته الشرعية المطلوبة ليس في مقدور الأمة في وقت من الأوقات لضعف أو لعدم استيفاء شروطه، فإن الموقف الصحيح هو المضي قدمًا في السعي نحو الوصول إليه وتحقيقه وتربية الأمة والناشئة عليه، لا إلغاؤه وتعطيله بالكلية من مفردات العمل الإسلامي، وتنحيته من طريق التمكين تمامًا، وفي الحديث: "من مات ولم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق".
ويبقى التأكيد على الحذر من استعجال المواجهة قبل أخذ العدة، والاستجابة للاستفزازات المخططة، أو الانطلاق من ردود أفعال قبل تهيئة مختلف الأسباب والقوى، وعلى رأسها الإيمان والتقوى، فإن مَنْ فرّط في "حيَّ على الصلاة" أولى أن يفرّط في "حيَّ على الجهاد"، ومن سقط أمام المعاصي والموبقات جدير أن يسقط أمام الأعداء في المواجهات.
المعلم السابع: الاتحاد والائتلاف:
الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنى الأمة الإسلامية بناءً محكمًا، صاغه بأساسات متينة ومواثيق أكيدة، وإن أول أصل في ميثاق بناء الأمة الإسلامية أن هذه الأمة أمة واحدة، تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، كما يسعى بذمتهم أدناهم، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى، والإسلام هو أساس وحدة الأمة، والشريعة هي سياج هذه الوحدة والائتلاف، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، فتحقيق الوحدة والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف بين المسلمين عامة وطوائف الدعاة والعاملين خاصة من أهم مقاصد الدين وقواعده الكلية.
وكما أن البدعة مقرونة بالفرقة، فإن السنة مقرونة بالجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "جماع الدين: تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة". والاتحاد والائتلاف الذي نعنيه له سمات معينة منها:
1 ـ اتحاد وائتلاف الأصول:
فليس المقصود بالوحدة والائتلاف ذوبان جميع الحركات الإسلامية في حركة أو جماعة واحدة مخصوصة من الدعاة، إنما يقصد به الاجتماع والاعتصام بأصول أهل السنة والجماعة عامة، والاجتماع على صحة المعتقد خاصة، وأيضًا الاجتماع على ما سبق ذكره من المعالم. والاتحاد بهذا الانتماء المبارك أنجح من الاجتماع على راية حزبية أو دعوة إقليمية؛ لأن الاتحاد بهذه الطريقة يؤدي حتمًا لتأليف القلوب وتوجيه الجهود، وتجميع كلمة أهل الحل والعقد في الأمة، وتزول معه الحواجز الوهمية بين الحركات الدعوية، وترشد معه النظرة تجاه تعددية العمل الإسلامي.
2 ـ اتحاد التخصص:
فالاتحاد الذي نعنيه هو الذي يضمن بقاء التنوع والتخصص الذي تنتفع به الأمة، وتحيا به معالم الدين وفرائضه كلها، وليس تعدد التعارض والتنازع الذي تشقى به الأمة وتتشرذم به صفوفها وتنقطع به العلائق، فإن لهذا الائتلاف العديد من القوادح والنواقض التي تؤثر فيه منها: العصبية لشيخ أو إمام أو حزب أو رأي اجتهادي أو مذهب فقهي، ومنها تقديم مصلحة الجماعة الحزبية على مصلحة الأمة المحمدية، وتقديم الانتماء للجماعة بمفهومها الضيق المحدود على جانب الانتماء للجماعة الأم أي أمة الإسلام، ومنها تقديم مصلحة شخص أو داعية بعينه على مصلحة الطائفة والأمة معًا، ومنها نصب رابطة الولاء والبراء للجماعة الضيقة وتقديمها على الولاء والبراء لجماعة المسلمين.
وقيادات العمل الدعوي معنية بالحفاظ على هذا المعلم تحديدًا لنزوغ الشيطان عادة بينهم بسبب مداخله في تزيين الرئاسة والمنافسة بين الأقران، وللمسؤولية الواقعة على كاهلهم تجاه شيوع حالة الاختلاف والتناحر بين التيارات الإسلامية والصف الدعوي، فكم من قائد وشيخ وزعيم ومسؤول حشد الأتباع وأجج الخلافات وأزكى الصراعات لا لشيء إلا للحفاظ على مكاسب وهمية وزعامات فارغة، والخاسر في النهاية هي الأمة والدعوة.
هذه كانت مجموعة من المعالم على طريق التمكين، من استمسك بها قولاً وعملاً، دعوة وهديًا، علمًا وحالاً، وصل إلى مبتغاه، ونال ما يرضاه، وسعد في الدارين، وقد يكون هناك غير ما ذكرنا من المعالم والآيات التي يجب أن يسلكها الدعاة، ولكننا اقتصرنا على أهمها التي لا يمكن أن يتحقق تمكين أو استخلاف بدونها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم