اقتباس
ونظرًا لأهمية موضوع التمكين لإقامة هذا الدين، وأنه غاية منى الدعاة والمخلصين، كان لابد من معرفة أهم المعالم على طريق التمكين، والتي هي بمثابة المنارات والعلامات التي يهتدي بها السالكون ويتزود بها المجاهدون للوصول إلى نهاية الطريق، حيث الهدف الأسمى والغاية القصوى، ومن أهم هذه المعالم ..
التمكين كان ومازال أعظم وأكبر أهداف الدعاة في سبيل الله -عز وجل-، فهو جوهرة التاج وقلادة التتويج لجهود وعرق وتعب السنين، التمكين هو وعد الله -عز وجل- لعباده المؤمنين، وغاية رسله الأكرمين، ومسعى أنصاره الموحدين، التمكين طريقه شاق طويلة، ومسعاه غال نبيل، وزاده الصبر الجميل، وعلى طريق التمكين وإقامة الدين بذلت دماء وأرواح وتضحيات كبرى، فكم من نبي ومصلح وداعية وعالم قد سفك دمه وأزهقت روحه وابتلي ابتلاءً عظيمًا، فأشد الناس ابتلاءً الأنبياء ثم الذين يلونهم في الصلاح، ورغم كثرة الجراحات وقلة النجاحات، إلا أن الطريق ما زال بالدعاة عامرًا، والكثير على دربه سائرًا.
ونظرًا لأهمية موضوع التمكين لإقامة هذا الدين، وأنه غاية منى الدعاة والمخلصين، كان لابد من معرفة أهم المعالم على طريق التمكين، والتي هي بمثابة المنارات والعلامات التي يهتدي بها السالكون ويتزود بها المجاهدون للوصول إلى نهاية الطريق، حيث الهدف الأسمى والغاية القصوى، ومن أهم هذه المعالم:
أولاً: معلم العقيدة الصحيحة:
فإن أول لبنة في بناء صرح التمكين، وأول معلم على درب التغيير؛ هو الاعتقاد الصحيح بتوحيد الله -عز وجل-، وإفراده بالعبادة التي هي غاية خلق العالمين، وأصل دعوة الرسل أجمعين، وأول ما يخاطب به الناس من أمور الدين، وسبب العصمة في الدنيا والنجاة في الآخرة، وعندما نتكلم عن العقيدة كمعلم من أهم معالم التمكين فإننا نعني منها أمورًا كثيرة؛ منها:
1- أن العقيدة الصحيحة هي التي تعلم صاحبها تلقي النصوص بالتسليم والتعظيم، وتعلم صاحبها سلامة صدره من أمراض الشك والريب وظن السوء.
2- أن العقيدة الصحيحة هي العقيدة التي تستمد من مصادرها الأصلية النقية -الكتاب والسنة-، والخالية من كل شوب كلامي مردود أو فلسفي مدحوض أو بدعي ضال، وذلك بفهم السلف -رضوان الله عليهم- من الصحابة ومن سار على دربهم من التابعين والأئمة المهديين والعلماء الصالحين، الذين كانوا أعمق الناس علمًا بمعانيها، وأدقهم فهما بمراميها، وأقلهم تكلفًا، وأبعدهم عن الخلاف والافتراق في أصولها وقواعدها.
3- أن العقيدة الصحيحة هي التي تجعل صاحبها يتثبت عند إطلاق الأحكام، ويحتاط أشد الاحتياط من تكفير وتفسيق وتبديع المخالفين من أهل القبلة، والعوام من أهل الملة، فضلاً عن دعاة وعلماء أهل السنة، ومراعاة التفريق بني القول وقائله، والفعل وفاعله، ومراعاة عوارض الأهلية من تأويل وجهل واشتباه.
4- العقيدة الصحيحة هي العقيدة بمفهومها الشامل وفي كل أبوابها وأصولها المتلازمة، والتي لا يهجر أو ينكر منها شيء، بالجمع بين علمها ولوازم هذا العلم وآثاره في القلب والجوارح وفي سائر جوانب الحياة من العمل السلوكي والأخلاقي والتعبدي.
5- هي العقيدة التي يسعى صاحبها لتطبيق الشريعة الإسلامية كاملة غير منقوصة، وبيان وثيق الارتباط بين تحكيم الشريعة وبين الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً، العقيدة التي ترفض نقل مصدرية الأحكام ومرجعيتها من الوحي المعصوم إلى الهوى المشؤوم، وتعتبره اعتداءً سافرًا على مقام الألوهية، ونقضًا تامًّا لعقيدة الوحدانية.
6- هي العقيدة التي تضع رابطة الولاء والبراء؛ تلكم الرابطة الربانية المعصومة من أهواء الاجتماع والاتفاق على حاجة من حاجات الدنيا، وتخلص الولاء بين الأتباع والمتبوعين من الموافقة على المخالفة أو اعتقاد التقديس أو العصمة، وتحقق البراء من كل من خالف صحيح الاعتقاد، وسار في طريق البدع والضلالات، مهما كانت قرابته أو صلته.
7- هي العقيدة التي تظهر آثارها على سلوك أصحابها في أبرز وأجل صورها؛ وهي التضحية في سبيلها والصبر على ما يقع من أجلها، والبذل والعطاء الكامل في سبيل إقامة شعائرها وأصولها.
المعلم الثاني: الإخلاص:
طريق التمكين لا مكان فيه لغير المخلصين، فلا يقوى على السير فيه إلا من طلب وجه الله تعالى وحده، فالإخلاص هو حقيقة الدين ومفتاح دعوة النبيين، فلا يقبل الله -عز وجل- من الدين والعبادة إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، وهو شرط قبول الأعمال، والسر المبين بين العبد وخالقه، وبحسب قدره تتفاوت منازل العاملين، وهو مفتاح السرائر التي عليها مدار قبول الأعمال، والمخلصون هم طليعة الدرب وجند الدعوات وبناة التمكين، ولو كانوا فقراء مغمورين أو ضعفاء مجهولين، وفي الحديث "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"، والإخلاص الذي نعنيه هو:
1- الإخلاص الذي يدفع صاحبه للشعور بالرحمة والشفقة على العالمين أجمعين، وهو يدعوهم ويبصرهم بطريق التمكين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وفي الحديث: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحُجزكم وأنتم تقحّمون فيه".
2- الإخلاص الذي يجعل صاحبه يفرح بكل كفاءة تبرز على ساحة التمكين، وتساهم في رقي الأمة وزيادة خيريتها، والتعاون والتأييد والدعم لها من أجل صالح الأمة، ونلمح هذا الإخلاص في قول الشافعي -رحمه الله-: "وددت أن الخلق يتعلمون هذا العلم ولا ينسب إليّ منه شيء".
3- الإخلاص الذي يعلم صاحبه قبول الحق وتعظيم أهله والدوران في فلكه والوقوف عنده، الإخلاص الذي يعلّم صاحبه قول الحق والجهر به، لا قول ما يطلبه المستمعون، الإخلاص الذي يحجب الأنانية وحب الذات، الإخلاص الذي يقي من الوقوع في المهاترات والخلافات التي تؤدي للطعن في الثقات والتلون تحت الرايات وكثرة الانتقال بين الاتجاهات والجماعات، لا بحثًا عن الحق ولكن لشهوة خفية من زعامة أو وجاهة أو منفعة دنيوية.
4- الإخلاص الذي يمنع من التعصب للأشخاص والمذاهب والطوائف، ويجعله يقيم ميزانًا للاعتدال، يذكر فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، دون تهويل أو تهوين، وبالجملة فالإخلاص هو روح العقيدة ولب الأخلاق وأصل أصول الدعوة إلى الله، فلا نصر أو تمكين لغير المخلصين.
المعلم الثالث: العلم:
فالعلم هو رفيق درب التمكين، وهو الكشاف الذي ينير الطريق، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، وهو العدة في البلاء، والزينة في الرخاء، والفصل بين الأخلاء، قال الزهري -رحمه الله-: "ما عبد الله بشيء أفضل من العلم"، قال تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد: 19]، أي أن العلم قبل القول والعمل، فالعلم أمام العمل وإمامه، ولكن يراعي في العلم كمعلم من معالم التمكين عدة أمور؛ منها:
1- أن يكون العلم سبيلاً للوحدة والاتفاق، والقضاء على مظاهر التدابر والتشاحن.
2- أن يورث العلم صاحبه الخشية من الله -عز وجل- كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ) [الأحزاب: 39].
3- العلم الذي يقود صاحبه للفهم والاستنباط ليس مجرد الحفظ والرواية، فالطريق طويل وشاق، ونوازل الأمة كثيرة ومتشابكة، ولو غاب الفهم والاستنباط والبصيرة عن العالم، فستضطرب آراؤه وتخطئ قراراته، وتختل بوصلته، فيعادي من ينبغي أن يصالحه، ويهادن من يجب أن ينابذه.
4- العلم الذي يركز على قضايا الأمة المهمة والحيوية والجوانب المثمرة، والذي يبعد عن الترف الفكري والجدل العقلي والمسائل التي قتلت بحثًا، وفرغ منها منذ آماد بعيدة، والبعد عن القضايا التي طوتها الأيام ولم يعد لها ذكر ولا أثر، والتمسك بالعلم عملاً وهديًا وسمتًا كما قال علي -رضي الله عنه-: "هتف العلم بالعمل؛ فإن أجابه وإلا ارتحل".
5- العلم الذي يعتني بمقاصد الشريعة ومراعاة التفريق بين الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وإدراك مراتب الأدلة والأحكام، ومعرفة مواضع الإجماع، ومواضع السعة والاختلاف، وضوابط هذا الاختلاف وأنواعه، العلم الذي يؤصل لفقه النوازل، دراسة السنن الربانية في التغيير وأسباب التمكين والاستخلاف، وعوامل السقوط وسنن الاستبدال.
المعلم الرابع: الواقعية:
الواقعية هي الوعي بالواقع، ويقصد به وجود حالة من اليقظة والانتباه تقتضي فهم الأشياء ومدلولاتها، وتجميع عناصرها السابقة وربطها في محاولة لإدراك الكل، وبعبارة أخرى؛ الاستعداد الذهني لاستيعاب الأحداث والتفاعل معها بشكل صحيح.
وهذا الوعي بالواقع من أهم المعالم المعاصرة للتمكين، ذلك لأنه يستدعي أمورا مهمة وخطيرة؛ أبرزها:
البحث في العوامل المؤثرة في المجتمعات الإسلامية والقوى المهيمنة على الدول، والبحث في الأفكار والمكائد الموجهة ضد الأمة، والتنظيمات والتكتلات والهيئات التي تعمل ضد الأمة، واستبانة سبيل المجرمين.
الوعي بالواقع يحقق البصيرة بالمسيرة، ويؤدي لامتلاك رؤية صحيحة وواضحة عن المجتمعات الإسلامية ومشكلاتها ورغباتها وتطلعاتها وكيفية التعامل معها، ومن ثم اتخاذ القرارات الصحيحة، وتسديد الفتاوى في النوازل وما أكثرها في واقعنا المعاصر.
الوعي بالواقع يحفظ الأمة من الافتتان بالبهرج والزيف، سواء من شخصيات مشبوهة أو كافرة، أو أفكار منحرفة، أو طوائف ضالة، أو أساليب وطرق غير شرعية، كما يحفظ من الواقع في أسر نظرية المؤامرة الشهيرة التي تسوغ الهزائم وتبرر الأخطاء والإخفاقات بلوم الأعداء في كل نازلة تصيب الأمة، ما تستتبعه من تهويل لقوة الأعداء وتهوين لإمكانات الأمة وقدراتها.
وممن الخطأ البيّن الاستعاضة عن الوعي بالواقع والعلم بأمر آخر مهما كان، ولو كان بذل النفس والنفيس؛ لأن البذل وقتها سيكون بلا ثمرة، والتضحية بلا نتيجة، فمن لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الحق، لم يعرف أحكام الله في عباده، أي كان عمله وقوله بجهل، والجهل أكبر معوق للتمكين، يفقد المرء بفقد الوعي بالواقع قدرته على النظر في المآلات، كما يقدم الداعية في صورة نظرية بحتة، في صورة المرء الذي يعيش في برج عاجي لا يدري عن أحوال الناس ومعايشهم وأحوالهم شيئًا، والناظر لأحوال الأنبياء مع أقوامهم خلال دعوتهم إلى الإيمان بالله ونبذ الشركيات والضلالات، كان الأنبياء في نفس الوقت يدعونهم إلى نبذ عاداتهم الاجتماعية والمعيشية السيئة والفاسدة مثل التطفيف في الميزان والانحراف الأخلاقي والاستبداد السياسي.
ولكن الذي يجب أن نعرفه أن ثمة أمورًا مخالفة يقع فيها كثير من الدعاة بدعوى فقه الواقع والوعي به، وهي ليست من الواقعية في شيء؛ منها: الانحراف عن منهج النبوة تحت ضغط ووطأة الواقع، ومنها التنازل عن الأهداف الشرعية أو اليأس من تحقيقها تحت مطارق الواقع، ومنها التراجع عن الاستقامة والربانية استجابة لمؤثرات الواقع، ومنها دنو الهمة والرضا بالواقع المزري وتبرير القعود بدعوى فقه الواقع.
وللحديث بقية...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم