معالم تربوية من حديث الأعرابي

حمزة بن فايع آل فتحي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ وقفات ومعالم تربوية مع حديث الأعرابي 2/ فضل الرفق واللين واليسر في تعليم الأطفال 3/ فضل الرفق واللين في الدعوة إلى الله تعالى

اقتباس

لقد رسم هذا الحديث الشريف أصولاً في التربية والتعليم، قلَّ من فقهها وعمل بها، فلقد شيد مبدأ التيسر واللين في الدعوة والتربية والإصلاح، ولقد أقام منهج الترفق الذي به يجنى الخير كله، ولقد أصل حسن الإنكار بما لا يبقي في نفس المخالف أدنى غضب أو انزعاج، بل عكس ذلك، قال الأعرابي المسكين: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

أيها الإخوة الفضلاء: هنا حديث نبوي جليل حوى رفيع الأخلاق ومكارمها، وعظيم الرحمة وساميها، وحسن التربية وسليمها.

حديث مَنْ تأمله رشد، ومَنْ وعاه هُدي، ومن عمل به أفلح ونجح، هو هدي حكيم، ونهج سليم، وفقه عليم، وهو منهاج حياة، ودعوة حكيمة، وقاعدة مثلى في حسن التربية والتوجيه، فاض درّه وجمانه من معلم الخير وقطب التربية وهادي الأمة وقائدها -عليه الصلاة والسلام-.

أخرج الشيخان -رحمهما الله تعالى- في صحيحيهما عن أنس وأبى هريرة -رضي الله عنهما- قالا: بينما نحن جلوس في المسجد إذ دخل أعرابي، فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزرموه، دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله -عز وجل- والصلاة وقراءة القرآن"، وفي لفظ قال: "دعوه، وهريقوا على بوله سَجْلاً من ماء -أو: ذَنوبًا من ماء-، فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

معاشر المسلمين: لقد رسم هذا الحديث الشريف أصولاً في التربية والتعليم، قلَّ من فقهها وعمل بها، فلقد شيد مبدأ التيسر واللين في الدعوة والتربية والإصلاح، ولقد أقام منهج الترفق الذي به يجنى الخير كله، ولقد أصل حسن الإنكار بما لا يبقي في نفس المخالف أدنى غضب أو انزعاج، بل عكس ذلك، قال الأعرابي المسكين: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا.

ولقد جلّى الحديث الحكمة النبيلة التي أفلح النابهون في إصابتها، وحار المتعالمون في موضعها ومحلها.

إلى متى ونحن نشكو فئامًا انحرفوا في أخلاقهم واشتطوا في أفعالهم وأقوالهم؟! فذاك أب لا يعرفه أبناؤه إلا بعصاه وغلظته وسبابه وشدته، وذاك معلم أبغضه تلاميذه؛ فلا يُذكر السوط والشدة إلا ويذكر اسمه وترى طلعته، أصبح السوط شعاره، والعنف دثاره، والفظاظة عنوانه وحواره ولا كرامة، غرس في نفوس التلاميذ بغضه وكراهته، ونحلهم عيوبه ومساوئه.

إن هذا الحديث الشريف يسحق دعاوى متعالم شديد اللهجة والمعاملة، ويكسر راية جلف معسر، ويُقبِّح نهج معلم شاتم ضارب، فليست التربية والدعوة سبابًا وشتائم، وليس التعليم أسواطًا وملاحم، وليست الهداية تعسيرًا وشدائد.

اعلموا -معاشر الآباء والمعلمين- أنه بالرحمة تدوم المحبة، وباليسر تأتلف الأرواح وتقوى العلاقات، وبالسماحة تثمر الدعوة والتربية ويصح التأسيس والبناء، وبالبشاشة يكسب المربي حب أبنائه وتلاميذه، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].

كم أرهبت العصا وأفزعت من أقوام في غير محلها، وكم صرفت عمياء الشدة من محبين للعلم والفائدة، وكم أفسد العنف من أنفس طيبة دانية.

إنا لنعلم أن كثيرين منكم يعرفون هذا الحديث كما يعرفون أبناءهم، لكنهم يجهلونه علمًا وتطبيقًا وسنة واقتداءً.

أليس خيرًا كبيرًا أن يقلبَ الآباء والمعلمون العصا حزمًا حكيمًا، والشدة يقظة حسنة، والفظاظة سماحة ولطافة؟! لو لم يكن لهم في ذلك إلا حسن السمعة وزكاة المنهج وخضوع المخاطب لكفتهم، كيف وفي ذلك التوفيق والتأثير والقبول غالبًا؟! ولكن هل من مدكر؟‍‍‍‍‍‍!

لقد كان قرار وزارة المعارف في منع الضرب في غاية الحكمة والبصيرة، فلقد بتروا حبال الظلم والحيف، وجزوا جذور التهور والانتقام، فليس بخافٍ على المستمعين ذاك المعلم الذي أدمى التلميذ الصغير بعصاه الغليظة أو آلته الفتاكة، وآخر جعل من عصاه مصدر رعب وتخويف شديد للتلاميذ، فقتل طموحهم وجمح إرادتهم وطمس شجاعتهم، وقد كان في راحة قلب لو امتثل الأدب والتواضع ومكارم الأخلاق، فالتربية أدب ورفق وأخلاق، قبل أن تكون عنفًا وتعاظمًا وأسواطًا، وفي الصحيحين عن جرير -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله"، ولما بعث معاذًا وأبا موسى معلمين إلى اليمن قال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا".

وليعلم إخواني المعلمون والآباء أننا نبني الناس ونربيهم بأخلاقنا قبل أسواطنا، فليتأمل ذلك، والحديث خير شاهد، والضرب له أحوال خاصة.

وفقنا الله وإياكم للخيرات، وجنبنا الغفلة والحسرات.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين...

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة: وفي ختام الحديث الشريف جملة سمت وعظمت لفظًا ومضمونًا، هي من محاسن الكلام وطيّب العبارات الصادقات: "فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".

أنتم يا حملة الدعوة، ويا أرباب العلم والهداية، ويا متبعي محمد -صلى الله عليه وسلم-، أصل بعثكم للناس إنما هو باليسر والرحمة، إنما هو بالرفق والمعروف.

لقد نبُلت ونفعت الدعوة والتربية التي انتهجت اليسر وارتسمت اللين، فكانت عليمة ميسرة رقيقة، وليس معنى اليسر في التربية هو التساهل والضعف كما قد يتوهمه بعض الناس؛ وإنما المراد أخذ الناس بالسهولة والسماحة مع مراعاة ما يجب ويلزم، دون تشدد أو تعنت أو مشقة، قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83].

ومن يقرأ السيرة النبوية الشريفة ويتأملها يدرك منها اليسر والرفق في الدعوة والتعليم، فلقد كان -عليه الصلاة والسلام- رحمة للناس، يرحم ضعيفهم ويرفق بجاهلهم ويشفق على ضالهم، استشعر قول ربه تعالى له مع تمام التطبيق والامتثال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه"، وفيه أيضًا عن عائشة قالت: قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أرسلني مبلغًا، ولم يرسلني متعنتًا"، وفي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب الرفق في الأمر كله".

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا وعملاً يا أرحم الراحمين...
 

 

 

 

المرفقات

تربوية من حديث الأعرابي1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات