عناصر الخطبة
1/ دلالات استسلام العدو الإسرائيلي في الأحداث الأخيرة 2/ أنواع القُوَى 3/ المعنى الحقيقي للقوة 4/ من علامات القوة 5/ تضافر بعض القوى المعنوية أدى للانتصار الأخير 6/ واجبنا تجاه فلسطين 7/ أهمية تدبر القرآن واستصحاب معانيهاقتباس
القوة الحقيقية هي الالتزام بشرع الله -جل وعلا-، القوة الحقيقية هي تحكيم شرع الله -جل وعلا-، القوة الحقيقية هي الخوف من الله -جل وعلا-؛ بهذا الفهم تنتصر الأمة، وبهذا الفهم تحقق أهدافها وتنتصر على أعدائها؛ فالقرآن جاء ليصحح المفاهيم الخاطئة عن مفهوم ..
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أيها الإخوة المؤمنون، أيها الإخوة المجاهدون، أيها الإخوة الصابرون، أيها الإخوة الثابتون، أيها الإخوة المرابطون في أرض الرباط، أمام أشد أعداء الله عداوة للمؤمنين: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج:39]، (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم:27].
هنيئًا لأمة الإسلام بهذا النصر الذي تحقق! إن هذا النصر ليس نصرًا لأهل فلسطين، ولا لأهل غزة، وإنما هو للأمة جمعاء؛ إنه تحول تاريخي في المعركة مع اليهود، وهو مُؤْذِنٌ بنصر قادم بإذن الله: (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ) [الحشر:13].
أيها الإخوة المؤمنون: إن هذه القوة التي حدثت باستسلام العدو وإذعانه للتهدئة؛ بل واستجدائه هذه التهدئة، لهي تعبر عن قوة حقيقية، ليس كما يظن كثير من الناس؛ إذ يظنون أن القوة هي القوة الحسية، ومما أضاع فلسطين في سنوات مضت وعقود خلت الاعتماد على القوة الحسية بعيدًا عن قوة الله -جل وعلا-؛ ولكن، عندما يقدم المؤمنون الصادقون المجاهدون في سبيل الله الشهداء تلو الشهداء، فقد عرفوا حقيقة القوة، وعرفوا معنى قوله -تعالى-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) [الأنفال:60].
إذًا؛ فهناك قوتان، قوة رباط الخيل التي تماثلها في هذا الزمن الأسلحة والمدرعات والدبابات والطائرات، ولقد عُطفت على كلمة "قوة": (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ)، فهذا العطف يقتضي المغايرة؛ إذًا؛ فهناك قوة أخرى هي التي فقهها المجاهدون، ألا وهي قوة الله -جل وعلا-، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قول لوط -عليه السلام-: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود:80]، قال -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله أخي لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد".
هذا المعنى هو الذي فقهه موسى -عليه السلام-، وفرعون مِن خلفه والبحر من أمامه، لما قال أصحاب موسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، أي: سيلحقنا العدو، سيلحقنا فرعون؛ لأن البحر من أمامهم، والعدو من خلفهم، فعندما نظروا إلى هذه القوة الحسية فقط التي على وجه الأرض إذا بموسى -عليه السلام- يقول لهم بلغة الواثق، وبلغة اليقين والإيمان: (كَلاَّ)! بلغة الردع والزجر؛ (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62].
هذه هي القوة أيها الإخوة، فجاءت الفاء الفورية من الله -جل وعلا-: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء:63]، كالجبل العظيم، بقوة الله -جل وعلا- يتحول البحر، ويتحول الماء إلى يَبَسٍ بين جبلي ماءٍ ليمشي عليه بنو إسرائيل يتقدمهم موسى -عليه السلام-.
وما أنْ عبروا، ودخل فرعون وجنوده في هذا الطريق اليابس، حتى انطبق عليهم الماء وأهلكهم.
هذه قوة؛ لكن، لا بد من فعل السبب؛ ولذلك قال الله -جل وعلا- لموسى -عليه السلام-: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) [الشعراء:63]، فالله قادر -جل وعلا- على أن يأمر البحر بأن ينفلق دون أن يضرب موسى -عليه السلام- بعصاه، ولكنه توجيه رباني، فلا بد أن نفعل السبب مهما كان يسيرًا في نظرنا، وإلا فإن هذه العصا التي ضرب بها موسى -عليه السلام- البحر فأصبح حجرًا، أي كالجبال، هي نفس العصا التي ضرب بها موسى الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا.
إذًا؛ فعلينا فعل السبب -أيها الإخوة-، عندها ندرك هذه القوة: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ)، هذه القوة هي القوة الإيمانية، قوة اليقين. عندما قال أبو بكر -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا"، قال له بلغة الواثق المتيقن: "ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!"، هذا هو الإيمان الذي يحقق النصر: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) [التوبة:40].
أما القوة الحسية -أيها الإخوة- كالتي صورتها الآية الكريمة: (كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ) [التوبة:69] فهي لا تنفع إذا انعزلت عن قوة الله -جل وعلا-؛ ولذلك فإن مفهوم القوة الحقيقية قاله الله -تعالى- على لسان هود -عليه السلام-: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) [هود:52].
هذا المفهوم للقوة -أيها الأحبة- هو الذي أمر الله -جل وعلا- به يحيى -عليه السلام- وكان صبيًا: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) [مريم:12].
القوة الحقيقية هي الالتزام بشرع الله -جل وعلا-، القوة الحقيقية هي تحكيم شرع الله -جل وعلا-، القوة الحقيقية هي الخوف من الله -جل وعلا-؛ بهذا الفهم تنتصر الأمة، وبهذا الفهم تحقق أهدافها وتنتصر على أعدائها؛ فالقرآن جاء ليصحح المفاهيم الخاطئة عن مفهوم القوة لدى البشر.
ولذلك؛ لما قال أصحاب طالوت: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ)، وهذه هي نظرتهم للقوة الحسية، ماذا كان الجواب؟! (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249].
الإخوة الكرام: تدبروا القرآن الكريم، فهو يدلنا على مكامن القوة، وعلى حقيقية القوة التي يجب أن تلتزم بها الأمة؛ فالقوة الحقيقية هي قوة الإيمان بالله -جل وعلا-، والتقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
القوة الحقيقية -أيها الإخوة- هي كذلك بالاستغفار، كما أوصى هود قومه: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) [هود:52].
القوة الحقيقية هي الثبات، كما ثبت أهل فلسطين على مدى عقود أمام هذا العدو الغاشم؛ فثباتكم -أيها الإخوة-؛ بل انتصاركم، ليس هو الانتصار الذي تحقق في معركة الفرقان فحسب، ولا في معركة ثمانية الأيام فحسب، بل ما تحقق من انتصار خلال ستين أو سبعين سنة، كثباتكم على الإيمان، وبقائكم في بلادكم رغم الضغوط، ورغم محاولات التهجير ودعاوى الاستسلام.
فآباؤكم بثباتهم طيلة هذه العقود قد مهدوا لهذا الانتصار العظيم، فالثبات قوة حقيقية: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم:27].
وصِدق النية من علامات القوة، فمَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، فهناك من يقاتل رياءً وسمعة، وهناك من يقاتل -كما يقولون- من أجل الأرض، وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أي القتال أو الجهاد يكون في سبيل الله؛ قال: "مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
نعم؛ إن المحافظة على الأرض المقدسة والمحافظة على البلاد والوطن، إذا قصد بها المحافظة على الدين وإعلاء كلمة الله فهو في سبيل الله؛ لكن أن تكون الأرض فقط هي المراد من ذلك القتال، أو أريد منه غير ذلك من أهداف الدنيا من سمعة أو رياء، فهذا هو القتال الذي لا يتحقق معه النصر، وإن تحقق فترة يسيرة فإنه لا يثبت ولا يستقر.
الصبر والمصابرة والثبات هي من علامات القوة -أيها الأحبة-، الأخلاق التي جاء بها هذا الإسلام حتى مع العدو أيضًا من علامات القوة؛ لا يُقتل الصبي، ولا تقتل المرأة، ولا يقتل الشيخ الكبير، ولا مَن لم يشارك في المعركة؛ كل هذا من علامات القوة، فطالما أنت في معركة شرسة مع أعداء الله فعليك الالتزام بأخلاق النبوة: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4].
هذا انضباط يحتاج إلى قوة إيمان، وقوة قلب؛ أما اليهود فلا يعرفون هذه المعاني، فإنهم يقتلون الأطفال، يهدمون المساجد والبيوت والمدارس، يستهدفون حِلَق الذكر.
نال موسى -عليه السلام- من بني إسرائيل من الأذى الكثير؛ حتى قال: (يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) [الصف: 5]، يقول الله -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) [الأحزاب:69].
ماذا ننتظر من قوم -أحبتي- آذوا نبيهم -عليه السلام-، وهو نبيهم، ومن بني جلدتهم، وهو مُنقذهم! آذوه أذى عظيمًا حتى حقت عليهم اللعنة؛ فهل يُنتظر منهم أن يتعاملوا بأخلاق مع أعدائهم؟! هؤلاء اليهود الذين قالوا -ساء ما قالوا-: "إن خطيئة الرب هي خلق العرب"، فماذا يُنتظر من هؤلاء غير الغدر والخيانة؟! (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة:100]. إذًا؛ فالانضباط في المعركة وقبلها وبعدها من علامات قوة المؤمنين.
القوة النفسية من علامات القوة؛ فعندما عبر طالوت بالجنود (قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) [البقرة:249]، هذا اختبار نفسي، الذي لا يستطيع أن يضبط نفسه عن الماء لن ينضبط في المعركة؛ ولكن، لأن الإسلام دين عظيم: (إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، لكسر شهوة النفس وعطشها فقط، أما ما عدا ذلك فهو تعدٍّ، واستسلام لشهوات النفس.
فهنا ميدان اختبار، وتمييز بين من يقوى على الصبر على ذلك ومن لا يستطيع، (فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ)، هؤلاء القليل أيضًا جاء لهم اختبار آخر: (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ...) [البقرة:250، 251]
هكذا -أيها الإخوة- تكون القوة النفسية؛ ومن القوة النفسية أن يبتعد الناس عن معاصي الله، فرب معصية كانت سببًا في هزيمة جيش.
ماذا حدث في أُحُد؟! الذي حدث أن الهزيمة حلّت بالمسلمين لأن بعض الرماة -وهم جزء من الجيش الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم-، قد عصَوا.
فخطيئة البعض قد تعم الكل، ومع ذلك تعجّب المسلمون: كيف هُزمنا ومعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! كيف هزمنا ونحن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؟! فنزل القرآن يجلي هذه الحقيقة: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165].
المعصية قد يخذل بها الجيش، ومما سجل التاريخ أن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لما أراد أن يعبر إلى الفرس في العراق حيل بينه وبين ذلك بالنهر، ونظر إلى أنه لو جلس ينتظر المراكب والسفن لطال الوقت، وهذا يفيد العدو ويضر بالمجاهدين، أتدرون ماذا فعل؟! قال لسلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه- لما خيّم الليل وغابت الشمس وصلوا العشاء: اذهب تفقَّد الجيش، هل ترى فيه من معصية؟!
ذهب سلمان -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-، فماذا رأى؟! هل رأى مَن هو في سهرة مع كوكب الشرق؟! حاشاهم من ذلك! في حزيران وغيرها هزمنا شر هزيمة عندما كنا نسهر على الأغاني وعلى غيرها.
ماذا رأى؟! رآهم بين مصلٍّ وساجدٍ وراكعٍ وباكٍ وتالٍ لكتاب الله ومستغفرٍ ونائمٍ، رجع إلى سعد الذي قال له: ماذا رأيت؟! قال: رأيت كذا وكذا، قال: هل رأيت في الجيش معصية؟! قال: لا، قال: سوف نصلي الفجر، ثم آمر فننطلق وأمشي فوق النهر، فإذا ركبت في النهر فامشوا من خلفي. لماذا؟! لأنه سيمشي بأرجل متوضئة ينتظر كرامة من الله -جل وعلا-، وكرامات المؤمنين حقيقية، دون أن يُبالغ فيها أو يكذب.
صلى الفجر، واستعد الجيش، فركبوا النهر، فجمّد الله تعالى لهم النهر فعبروا عليه كأنهم يعبرون على اليابسة، فلما رآهم الفرس هربوا بدون قتال وقالوا: هؤلاء شياطين! هربوا من شدة الرعب الذي أصابهم.
لكن على أيدي مَن؟! على أيدٍ متوضئة، أيدي الرُّكَّعِ السُّجود المؤمنين أيها الإخوة، وما أضاع فلسطينَ سنواتٍ إلا الخياناتُ والمعاصي التي ترتكب، فيخذل الله -جل وعلا- الجيش نتيجة معصية يقع فيها البعض.
ولما عاد الناس إلى دين الله والتزموا بكتاب الله وتخرجوا من المساجد كان هذا الانتصار الذي تحقق في معركة الفرقان، وكذلك في الأيام الثمانية.
إخوتي: عندما ضرب اليهود المساجد؛ يقول البعض: كيف يضربون دور العبادة؟! لا؛ هم يرون أنهم يضربون قلاعًا عسكرية، وحصونًا عسكرية تخرج الأجيال، يعرفون أنه في المساجد يتربى الرُّكَّع السُّجود، في المساجد يتربى حُفَّاظ كتاب الله -جل وعلا-، في المساجد تتآلف القلوب؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يعدل الصف: "سَوُّوا بين صفوفكم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم".
ومن هذا الحديث نعلم أن من علامات القوة اتفاق القلوب، واجتماع الكلمة: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]، (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103]، فالاتفاق والوحدة واتفاق القلوب من أعظم علامات القوة.
ومن علامات القوة الحقيقية -أيها الإخوة- سلامة الصدور، نعم! إن سلامة الصدور من أعظم علامات القوة، القوة بالبعد عن الغل والحقد والحسد والتآمر، طهارة القلب من أعظم علامات القوة: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34-35]، (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى:43].
نعم! من عزم الأمور القوة والصبر والاحتساب وسلامة الصدر، هذه من صفات المؤمنين الذين لا يستطيع العدو أن يفرق بين جمعهم؛ لأن كلمتهم متحدة على تقوى الله -جل وعلا-.
أحبتي: من مظاهر القوة الشورى والتشاور وعدم الاستبداد بالرأي، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) [آل عمران:159]، يوصي الله النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، الذي كلامه وحي يوحى، يوصيه بماذا؟! يقول له: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)، يشاور أصحابه، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) [الشورى:38]، فعلينا أن يتواضع بعضنا لبعض، وأن يستشار الكبير والصغير والعلماء والقادة لتكون الكلمة واحدة، فهذه الأخلاق من مظاهر القوة.
وآخر ما أذكره: الإصلاح بين الناس: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
فمن واجبنا أن نصلح بين الناس: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات:10]، فالإصلاح بين الناس لا يترك للعدو منفذًا، وهو من علامات القوة التي يركز عليها القرآن الكريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحبتي، إخوتي: مرة أخرى أقول: هنيئًا للأمة بهذا النصر! أنتم هنا في هذه البلاد المباركة، في هذه البلاد التي باركها الله، تدافعون عن الأمة وليس عن فلسطين وبيت المقدس فحسب. أسأل الله أن يقر أعيننا فنصلي فيه جميعًا محررًا طاهرًا من هؤلاء الأرجاس الأنجاس، وما ذلك على الله بعزيز.
أنتم تدافعون عن الأمة -أيها الإخوة-، اليهود أطماعهم كبيرة جدًّا كما سمعنا وقرأنا ونحن صغار: "مِن النيل إلى الفرات"، وهم يعتدون وفق برامج ومخططات: (كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [المائدة: 64]، الله لا يحب الفساد، ولا يحب المفسدين؛ إن ثباتكم وجهادكم وصبركم قطع عليهم أطماعهم، وجعلهم الآن يعيشون في رعب.
ليست القوة -كما قلت- هي القوة التي يتصورها البعض ممثلة في تلك الصواريخ التي أصابتهم، مع أنها -لا شك- من مظاهر القوة؛ (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، فبها عاشوا رعبًا عظيمًا، ملايين منهم اندسّوا في الملاجئ، والبقية عاشوا رعبًا يترقبون الموت، لقد قُذِف الرعب في قلوبهم.
لكن هذه الصواريخ أطلقَتْها أيدٍ متوضئة، أطلقتها أيدٍ صادقة، نحسبها كذلك والله حسيبها، ولهذا فأنتم تدافعون عن أمة الإسلام، ولهذا يجب على الأمة أن تقف معكم، وعندما يقف المسلمون معكم فليس هذا تفضلاً ولا منّة منهم، وإنما هو بعض الواجب، وإلا فإن الواجب كبيرٌ جدًّا.
أعجبتني كلمة سمعتها من أحد الإخوة وأنا في هذه البلاد المباركة، يقول: "على الأمة أن تقدم لنا الدعاء، وأن تدافع عنا بألسنتها وبأموالها، وعلينا الدم". نعم! علينا الشهداء. فهنيئًا لكم.
أسأل الله أن يتقبل شهداءكم، وأن يعوضكم خيرًا: (وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ) [محمد:4-6].
عندما نفقه القرآن ونتعامل معه بتدبر نشعر بالسعادة مهما كانت الأحوال، نعم؛ نتجول في هذه البلاد في قطاع غزة ونرى المساجد والبيوت والمتاجر قد تحطمت، نعم! لقد هدموها، لكنهم لم يهدموا المعاني في القلوب، فالقلوب قد ازدادت قوة على قوتها.
فثبتكم الله! فواجب الأمة أن تقف معكم، ومن لم يستطع أن يقف مع الأمة فإنني أوصيه بوصية النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما سأله أبو ذر، قال -بعد أن ذكر الإيمان والجهاد والرقاب-: "تُعين صانعًا أو تصنع لأخرق"، قال: فإن لم أستطع؟! قال: "تكفّ شرك على الناس؛ فهي صدقة منك على نفسك". حديث صحيح.
نعم؛ بعض من ينتسب إلى بني جلدتنا وبني قومنا لو كفوا شرهم عن الأمة وعن المجاهدين لكان خيرًا عظيمًا؛ فهناك أناس -مع كل أسف- في بلاد المسلمين حنقهم على ما تحقق من نصر أشد من حنق اليهود، نعم؛ القرآن قد وصفهم: (أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) [الحشر:11]، نعم؛ لكن يكذب الله هذه الحقيقة: (لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ) [الحشر:11-12]، وسيرتد فعلهم عليهم، (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا) [الأحزاب:25]. نعم؛ هذه حقيقة نعلمها من خلال القرآن.
إذًا؛ فإن رجوعنا إلى كتاب الله -جل وعلا- يحقق لنا السعادة، تدبُّر القرآن -أحبتي- منهج غفلت عنه الأمة، نحن عندنا عناية بحفظ كتاب الله، وهذا أمر عظيم، نحن عندنا عناية بتجويد القرآن، وهذا أمر عظيم، لكن؛ أين التدبر؟! (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا) [النساء:82].
القرآن -يا أحبتي- أُنزل للتدبر وليس لمجرد التلاوة -مع أهميتها-؛ (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [ص:29]، (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ) [البقرة: 131]، قال العلماء: "يتدبرونه ويعملون به".
والمنافقون -يا أحبتي- كانوا يقرؤون القرآن كما في الحديث الصحيح: "ومثَل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيب، وطعمها مر"، فعاتبهم الله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24]، لم يقل: أفلا يقرؤون القرآن! لم يقل: الذين لا يتلون القرآن، بل قال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا).
إن تدبرنا للقرآن يحقق لنا السعادة والنصر: (طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) [طه:1-2]، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه:123]، وهدى الله هو القرآن: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124].
فلنتدبر القرآن، ولنعمل به، ولنعلمه أبناءنا، فهذا هو المنهج العظيم الذي كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، والسلف الصالح، وبهذا نحقق العزة والغلبة.
نصركم الله وأيدكم، اللهم انصر إخواننا في فلسطين...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم